المثقفُ بين الغائيّة و الغنائيّة ـ رشيد سكري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

دور المثقّف عضويٌّ ؛ ذلك ما سطَّره في القرن التاسع عشر المفكر الإيطالي أنطونيو غرامْشي . فالإبداع ، عموما ، هو الوجودُ في أبهى صوره . بموازاة ذلك فهو يأخذك، عن طريق الحلم و التخييل و الرؤيا ، إلى عوالمَ متعددةٍ ، و ترشِف من تجاربَ مختلفةٍ ، وأخيرا يمنحك طعم الوجود . علاوة على ذلك ، فهو يتسلل خِلسة ليعانق المحاكاة  لشيء موجود . فعندما يبدع القاص قصة ؛ فهو يتغنى بواقع قد يكون موبوءا أو مثخنا بالجراح . فإبداع قصيدة ، مثلا ، مدعاة لمحكاة أصوات و غناء هو أصلا موجود في الطبيعة . إلى جوار ذلك، في الأدب العربي القديم ، سنجد الأعشى كان بارعا في الغناء ، بصوته العذب الرخيم ؛ ونتيجة لذلك عُرف بصَنُُّاجة العرب . يستخرج من القصيد أوزانا ، ويرددها بشكل طروب...
   إن الأذن العربية ، كما هو معروف ، ألفت الموسيقى من خلال توليفات شعرية ؛ فحيثما وجد البديع والمحسنات البديعية  ... وجد الغناء . فكثيرة هي القصائد المغناة من الشعر القديم و الحديث ... أطربت أجيالا و أجيالا ، وبصمت الأذن العربية بالفن الرفيع . فيها يسمو الذوق بألحان ممشوقة ، وبكلمات تغوص في الوجدان ، حافرةَ أخاديدَ من التأمل  والمتعة معا . فقصيدة " دعوه ... مبذرا " لأبي الطيب المتنبي من الكامل ، غنَّاها الفنان البحريني المتميز أحمد الجميري ، والتي مطلعُها :
        بأبي الشموسُ الجانحاتُ غواربا          اللاَّبساتُ من الحرير جلاببـا
        المنهباتُ عقــــولنا و قلــــــوبنـا          وجنــاتهن الناهبات النـاهـــبا

  فكتاب" الأغاني " لأبي فرج الأصفهاني ، الذي ألف في القرن الرابع الهجري ، كان مثالا حيا في ألحان العرب القديمة و إنشادها . فبعدما يتزيى الشاعر بزي قشيب ، يليق باللحن  والإنشاد ، يخرج في الجمع بأداء غناء القصيد ، بما هو يتراوح بين خفض الصوت تارة  ورفعه تارة أخرى ، فضلا عن الحضور القوي للشاعر بجسده أمام الجمهور ، ومنه تناسلت النواة الأولى لكتاب أبي فرج.
فالعضوية ، كما تحدث عنها غرامشي ، تسخر الفن من أجل تغيير الواقع . علاوة على تحريك مياه آسنة و جاثمة في المجتمع . فالقصائد التي تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم ، في الخمسينيات من القرن الماضي ، كلها في حب الوطن و الثورة . تغنت أم كلثوم بقصيدة أحمد رامي المعنونة ب: " مصر التي في خاطري و في دمي "  فكان مطلعها :
مصر التي في خاطري و في دمي
أحبها من كل روحي و دمي
يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها
حبي لها...
2.
  سمفونيات العزف الثلاث ، التي ضمت كل من : رياض السنباطي و أحمد رامي و أم كلثوم حفرت الذاكرة العربية بحب الأوطان ، نتيجة ما تعرضت له مصر الشقيقة جراء العدوان الثلاثي الغاشم ، في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي . هذا العزف ، على الوتر الواحد ، يراه الانسان المصري المعاصر مفخرة و بهاءا ، حفظها له التاريخُ الحديث. إذن، فعمل المبدع أو الفنان غويرٌ و سحيقٌ ، يعمل في حفريات الزمن و الذاكرة.
وإذا ما عرَّجنا على ملهم الأغنية الشبابيّة السوري نزار قباني ، سنجد أنه خلخل الجاهز من أجل العبور الآمن . بخلاف النمطية المقيتة ، والخروج عن المألوف ، استطاع نزار قباني ، على امتداد رقعة العالم العربي ، أن يدخل بشعره قلوب الملايين دون استئذان.  في المقابل أصبحت له قاعدة جماهيريَّة واسعة . في أحد تصاريحه للصحافة العربية ، كان دائما يؤكد على الدور الذي يقوده الفنان ، في اقتلاع الخرافة من جذورها ... ولما انفتح شعره على الغناء ، أصبح نزار على طرف كل لسان.
3.
 في هذا السياق ف" قارئة الفنجان " للمطرب العربي المتميز عبد الحليم حافظ ، كان العريشَ الذي ألف بين نزار قباني و الملحن محمد الموجي ، ففي حوزة هذا الأخير ، معية العندليب الأسمر مكثت القصيدةُ ، زُهاءَ ثلاثَ سنوات ، يُجِيل فيها النظر، و يعيد بناء سمفونيات أصواتها . يقول فيها :
جلست و الخوف بعينيها
تتأمل فنجاني المقلوب
قالت : يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
يا ولدي
قد مات شهيدا...
بالإضافة إلى قصائدَ أخرى أحرقت الأخضرَ و اليابسَ . فقصيدته " هوامش على دفتر النكسة "  يقول نزار : إنني أكوي الشعب العربي ، لكن هذا الكي ناشئ عن حب ... إلى أن يقول : و الكي هو آخر الدواء...أما قصيدة " الجنرال عنترة " فهي إشارة قوية إلى فساد الأنظمة الاستبدادية ، المتحكمة في رقاب الشعوب ؛ الساعية نحو التحرر و الإنعتاق من العبودية .
   بين الغائية و الغنائية المستمدة من الايقاع و النظم ، سواء على مستوى البحر الشعري أو الألفاظ و العبارات ، يعيش المثقف بين جنازتين ؛ تطوحان به خارج الحدود و خارج الممكن ؛ لكي يغدو الطائر ، الذي يموت خارج عشه. 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة