إن من يقرأ ما يحتويه كتاب غربة(1) من ومضات قصصية، موجزة الألفاظ ومكثفة المعاني، لا يخالجه أدنى شك في ريادته، فهو كتاب أحرز به كاتبه المصري محمد لقمان، قصب السبق في ارتياد آفاق جنس أدبي أحدثه، ونظر له، واستدل على توسيماته الجنسية المميزة، الأديب المصري مجدي الشلبي، الذي لم يلبث ان تدبر حركته التأسيسية وفعله الإبداعي، متيحا مجال التجربة للكتاب والنقاد والقراء، تحت لواء الرابطة العربية للقصة الومضة، التي بوأتها منزلة مركز الجاذبية والإشعاع ضمن تشكيلة الأجناس الأدبية.
وإذا كان القاص، قد أمعن في تمثل النمذجة الجنسية للومضة القصصية، ومرجعياتها النظرية، وفقما نظر لها مبتكرها، فإنه في الآن ذاته قد أمعن في استثمارها استثمارا أفضى بكتابته إلى خصوصية مميزة لها، لهذا لا غرو إن استثرنا بصددها سؤالين متفاعلي الإجابة، أولهما ما الصيغة التي تتجلى فيها ومضاته القصصية، وتتشكل عليها مناويلها الإبداعية مبنى ومعنى؟، وأي جمالية يخلص إليها القاص في كتابه غربة؟
إن القصة الومضة في هذا الكتاب، تقوم على فكر هندسي، أتى استجابة لميل في العصر الحالي، إلى الكتابات المختزلة، التي تومض بما قلَّ من الألفاظ، بمعان تستتيح متعة القراءة والاستمتاع بجمالية المقروء، لذا لا غرابة إن استوت معالمها، على بنية لغوية نسقية محكمة، تنتظم وفق شطرين متوازيين، تفصل بينهما علامة النقطة الفاصلة، الدالة على أن الثاني منهما سبب للأول:
شاعرة
عشقتِ الحروف؛ زفتْ لبيت القصيد. ص:45.
ويكون أحد الشطرين ضمنها سالبا من حيث المعنى والآخر موجبا، وهما شطران قد تتقلص كلماتهما إلى كلمتين، ولا تتعدى مهما تعددت الومضات ثمانية ألفاظ، تأتي حسب أعدادها متناسقة في دلالتها، حتى أن لا مجال فيها للاعتباطي. ويبقى أسلوب كتابة الومضة القصصية بعد هذا وذاك، هو فن تمثل النسق اللغوي الذي تساق وفقه، وفن انتقاء الألفاظ وتأليفها متناسقة على تكثيف المعاني، والإيحاء بأخرى، والإدهاش من اللامتوقع، ومفارقة المعنى لنقيضه، والنهاية المفاجئة، لهذا فهو ليس قيمة مطلقة، أو وصفة جاهزة مفروضة على أي ومضة من الومضات القصصية، إنه احتمالات تعبيرية لا تلبث أن تفضي إلى جمالية قصصية، كلما تأتت الموهبة الإبداعية الكفيلة بإخراجها من نطاق الكمون إلى نطاق التحقق الفعلي.
ولعل الناظر عن كثب إلى العناوين، التي تعنون بها الومضات القصصية في كتاب غربة، يجد كل عنوان منها يشكل في علاقته بالنص نصا موازيا، كما قد يشكل دالا كباقي دوال النص، مما يجعله متفاعلا دلاليا، ومحصنا القراءة من كل انزلاق تأويلي محتمل:
دكتاتور
حملوه على الأعناق؛ حَدَّب ظهورهم. ص: 18.
وما دامت تلك الومضات قد اقتفت نسقا لغويا محكما، بدت فيه اللغة نسيجا إبداعيا ناظما، فإننا سنسعى إلى مقاربتها، باعتبارها بنية نسقية ترتهن بعلاقات بين مستوياتها اللغوية الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية، التي تبدي أدبيتها وليدة اللغة في اشتغالها، بل تبدي الأدب ضربا من الإشعاع الدلالي والانتقال من الحقيقة إلى المجاز.
لهذا فنحن لا يمكننا أن نقف على الأسرار الإبداعية للومضات، إلا إذا ما أمكننا أن نقر بمقولة البنية، والنسق اللغوي الذي تنتظم وفقه، ولعل أول مستوى يبعثنا هنا على استبيانه، هو المستوى الصوتي، حيث تدمج اللغة النثرية في تشكيلات إيقاعية، فيكون للومضة وقع إيقاعي مثير، ومن تلك التشكيلات، الترجيعات الصوتية الناتجة عن حروف متشابهة، تهيمن على المهموسة منها الأصوات المجهورة، التي توقع وقعا منسجما يترتب عن انقباض فتحة المزمار، واقتران الوتران الصوتيان، واهتزازهما بعد ذلك:
تحيَّة
عُزف السلام؛ عَزف اللئام. ص: 96.
كما أن تلك الترجيعات، قد تكون ناتجة عن صوائت طوال، أو بالأحرى عن المدود(الألف، والواو، والياء) التي هي تبعا لما خلص إليه عبد القاهر الجرجاني، عبارة عن أنفاس تمتد بعد مضي أنفاس الحروف ، لذا فهي تتنزل منزلة الحروف الحركية(2)، التي تختلق مع الحروف غير الممدودة تناسبات صوتية، وتناغمات إيقاعية بين إيقاع يرتفع تارة، وينخفض تارة أخرى:
سلوك
أرادته قيسا؛ أرادها ليلة. ص: 96.
وفضلا عن تلك التشكيلات، يتم تلوين النغمات الإيقاعية بتجانسات صوتية، تتبين في اتفاق ألفاظ متباينة المعاني في الأصوات، أو في بعضها مما يقوي جرس الكلمات، خاصة حين تتوالى عليها الحركات المتجانسة، كما يتبين في الومضة القصصية التالية، حيث يتوالى صوت الهاء مضموما في كلمات متوالية:
وداع
حمل حقائبهُ؛ لم تحملهُ قدماهُ. ص: 76.
كما أن إيقاع الومضة القصصية، قد ينتظم كذلك وفق نظام التوازي، الذي هو تماثل لغوي متناغم، يقوم على تطابق أصوات وتجانسها، وتناسقها إيقاعيا:
شعب
جمَّعهم الألم؛ فرّقهم الأمل.ص: 57
إن التوازي الصوتي المتضمن في هاته الومضة، يعكس توازيا آخر هو التوازي التركيبي، النحوي والصرفي، فالجملة الأولى للشطر الأول، والجملة الثانية للشطر الثاني، لهما نفس البنية النحوية التي تتمثل في فعل، ومفعول به مقدم، وهو ضمير متصل، يليه الفاعل، كما لهما تراتبيا نفس البنية الصرفية للفعلين وما يليهما، وقد تحقق التوازي كذلك هنا في صورة معجمية دلالية قائمة على الطباق، إذ طابق القاص بين جمّعهم وفرّقهم، وهي مطابقة بلغ بها في إحدى ومضاته مبلغ المقابلة البديعية:
معيّة
بحثوا عن اليسر؛ وجدوه مع العسر. ص: 83
حيث أتى بمعنيين متوافقين، ثم أتبع ما ذكره بما يقابله على الترتيب، وفق ما تدعو إليه البلاغة العربية.
والذي نحرص على الإفضاء به في هذا المساق، قبل إنهاء المستوى الصوتي، هو أن إيقاع الومضة القصصية ينتظم وفق بنية مرئية، ترتهن بشطرين متوازيين ومتناسقين صوتيا ومعجميا وتركيبيا ودلاليا، حتى أنه يمكن القول: إن الإيقاع هنا نتيجة لحركة الومضة بكليتها، أي بمختلف مستوياتها اللغوية، فهو نظام منسق تحكمه علاقات خاصة كما تبين.
ولو عنّ لنا بعد المستوى الصوتي، أن نمعن النظر في المستوى المعجمي، لتسنى لنا أن نقف على ألفاظ، ألفت منها أنسجة الومضات القصصية منسجمة في تأليفها، وهي ألفاظ ذات جرس موسيقي وإيقاع صوتي، ترتهن ببلاغة السهل الممتنع، ذلك أنها واضحة الدلالة، تنساب بسلاسة دون أن يلابسها غريب الألفاظ.
ويشكل هذا المستوى بنية لغوية نسقية محكمة، تتمثل في علاقات بين كلمات متكاملة عضويا ومرتبطة جدليا، تمت الواحدة منها بصلة وثقى بسابقتها وبلاحقتها، مما يجعل المعجم يتجاوب مع اقتصاد القصة الومضة، التي تأتي موجزة ومكثفة ومنسقة، لا تقبل بتاتا الفضلة من الكلمات، ما دام لا مجال فيها للاعتباطي منها.
ويبدو أن القاص يشتق من فصيح اللغة، ما يوائم مواضيعه المستوحاة من الواقع المعيش، لذا لا غرو إن أتت تنشد إلى حقل معجمي مهيمن، وهو حقل الإنسان، الذي تمت الإشارة إليه بضمير المفرد الغائب تارة، وبضمير جماعة الغائبين تارة أخرى، للدلالة على معاناته الواقعية، فهو حقل رحب، قد يتفرع إلى عدة حقول متواصلة ضمنه، يدل على كل واحد منها العنوان، الذي عنوت به الومضة القصصية، وهي حقول مهما تعددت يشكل الإنسان قاطعها المشترك، الذي يكشف لنا بجلاء أن ما يستحوذ على اهتمام القاص هو الإنسان، لذا فهو لا يشتغل في نصه على الألفاظ الدالة على كثافة حضور ذاته الكاتبة، وإنما يشتغل على الألفاظ الدالة على كثافة حضور الذات الجمعية الموضوعية، ولعل هذا الاشتغال يعتبر خصيصة مميزة للكتابة النثرية(3).
ويمكن أن نميز في المعجم اللغوي المعتمد بين نوعين من الألفاظ:
أولهما، ألفاظ ذات طاقة تصريحية، تكون دلالتها محايثة لها، فهي دلالة بالوضع الأول، تفيد بالتقرير والتعيين، وتدل مباشرة على المعنى، كما تدل الومضة القصصية التالية:
قارعة
تلفظ المقتول بالشهادتين؛ صاح القاتل: الله أكبر. ص: 101
ثانيهما، ألفاظ ذات طاقة إيحائية، تكون دلالتها مساوقة لها، فهي دلالة بالوضع الطارئ وبالتأويل، تفيد بالتلميح والتعريض، وهي تدل بطريقة غير مباشرة على معنى المعنى، كما تدل الومضة القصصية التالية:
حاكم
سجن العصافير، وصنع من الشجرة كرسيه. ص: 73
فإذا كانت ألفاظ الومضة القصصية السابقة عن ومضة هاته الألفاظ، تدل على المعنى المقصود المباشر، الذي يتمثل في عملية إرهابية ذات مفارقة عميقة، فإن الومضة القصصية الثانية تدل على معنى غير مقصود، ذلك أنها تستعمل الألفاظ في معناها للتلويح بمعنى آخر هو المقصود، فما يلمح إليه المقول هو طغيان الحاكم، الذي استلب شعبه حق الحرية، ووقف حائلا دون بلوغ تطلعاته، كما أنه استبد بالحكم بشكل غير طبيعي، أي يتنافى مع الأعراف الديمقراطية.
إن هذا المنحى الإيحائي، ينحوه القاص بشكل لافت، فتبدو ألفاظه مهيمنة على الألفاظ التقريرية، ذلك أنه يستتيح للمتلقي احتمالات تأويلية شتى، ويستدرجه إلى التفاعل مع المقول القصصي.
ولا ريب أن هذا المنحى الإيحائي، وذاك المنحى التقريري يكشفان بجلاء، تداخل المستوى المعجمي والدلالي، مما يدل على أن الفصل بين المستويات اللغوية، يعد فصلا إجرائيا فحسب، ذلك أن كل مستوى يبدو متعالقا مع غيره من المستويات، ولا يستقل بذاته عنها.
لذا فانتقاء الألفاظ يحتاج إلى تأليفها وفق علاقات نحوية، مما يبعثنا على مراعاة المستوى التركيبي ومركباته وتركيباتها.
فنحن إن تدرجنا على الومضات القصصية، بغية استجلاء هذا المستوى، ألفينا أنفسنا حيال نصوص، تنتظم في عمومها وفق جمل فعلية حركية، صيغت صياغة صرفية دالة على الماضي، وهي جمل مسندة إلى فاعل أو فاعلين، يشار إليهم دوما بضمير الغائب، وتكون العلاقة الإسنادية هنا بين المسند والمسند إليه، في الكثير من الومضات القصصية متجانسة، وتكون أيضا متنافرة تنزاح باللغة عن المطرد والمعتاد، كما يتبين بجلاء في الومضة القصصية التالية:
طباع
ابتلع الليل النهار؛ لفظه فجرا. ص:65.
فهنا أسند القاص فعل الابتلاع إلى الليل، فكانت العلاقة الاسنادية بين المسند:ابتلع، والمسند إليه:الليل، علاقة إسنادية متنافرة، تترتب عنها لغة شعرية إيحائية، تشف عن صورة شعرية قائمة على استعارة مكنية، حذف منها المشبه به: الانسان، وما قيل عن هاته الجملة، يمكن أن يقال عن جملة: لفظه فجرا، فهي كسابقتها تقوم على علاقة إسنادية متنافرة.
ولعل سر تركيز القاص على الجملة الفعلية، التي تأتي متوازية تبعا لتوازي شطري الومضة القصصية، يكمن في كونها لها طواعية استيعاب الأحداث في حركيتها وتعدداتها، بخلاف الجمل الاسمية، التي تركن إلى الدعة والسكون.
وإذا نحن نظرنا إلى الجمل في علاقاتها السياقية النصية ببعضها بعضا، سنجدها تتناسق تبعا لنوعين من الروابط(4)، فهناك من جهة الروابط المركبية، التي تتمثل في الضمائر المستترة والظاهرة، التي تعتبر صلات وصل معتمدة بشكل جلي، وقد استعاض القاص عن الرابط الحرفي بين صدر الومضة القصصية، وعجزها بعلامة رقمية، دالة على علاقة سببية. كما أن هناك من جهة أخرى، الروابط الإيقاعية أوالبلاغية، التي اعتملها القاص في العديد من نصوصه، كما في نصه التالي:
ثمرة
تعجلوا النضج؛ تذوقوا المر. ص:24.
حيث تحقق الترابط الإيقاعي بين جملتي الشطرين، بفضل التوازي والتناغم بين كلمات ذات بنية صرفية ونحوية متناظرة، وتحقق كذلك هذا حين لجأ القاص، إلى تجانسات صوتية أبدت النص وكأنه مرتهن بها، فلا اعتبار له إلا بها، كما يتبين في ما يلي:
وفاء
رحل عنها؛ لم يرحل منها.ص:60.
فاللغة تتجلى هنا، وكأنها توقع على إيقاع دلالي حركي، ترتهن به كلماتها في علاقاتها ببعضها بعضا، ولو رمنا إطالة الشواهد الدالة على هاته اللغة لما وسعنا الحصر، لذا نكتفي بالقول: إن الروابط الإيقاعية، تعد سمة مميزة لكتابة الومضات القصصية، فهي تضفي عليها صبغة جمالية.
إن هذا المستوى التركيبي، كباقي المستويات اللغوية الناظمة للقص، يشتغل وفق آلية الاقتصاد اللغوي، أو بالأحرى الاقتصاد في الجهد الذي يسميعه علماء اللغة، بنزعة المجهود الأدنى(5)، لذا لاغرو إن كانت اللغة في كل نص من النصوص القصصية، تنتظم في علاقاتها النحوية وفق جملتين فعليتين ولواحقهما، ويراد بهذا الاقتصاد تكثيف الاشعاع الدلالي للومضات القصصية، واستثارة المتلقي برحابة تأويلاتها.
لهذا فنحن إن انتقلنا إلى المستوى الدلالي، سنجد مادته مكتنزة في دلالة ألفاظها، فهي في أغلب الومضات القصصية، تشتغل على فكرة المعنى المتعدد وثراء احتمالاته، لذا فهي لا تقصر ذاتها على دلالتها المحايثة لكلماتها، بل تتعداها إلى الدلالة المساوقة التي توحي بها.
وما يستوقفنا هنا، هو كون مختلف النصوص تشتغل دلاليا، تبعا لعلاقة سببية بين حدث مُسبِّب يتضمنه الشطر الأول، وحدث مسبَّب يكون نتيجة له، وهو يتضمنه الشطر الثاني، لهذا فهي تأتي دوما جوابا عن سؤال: ما السبب؟
ولعل من يتأمل في مختلف الإجابات، يجدها ترتهن بعلة الفاعلية، فهناك فاعل يترتب عنه الفعل المسبب لفعل آخر، يكون هو فاعله أو آخر. وفي هذا السياق تختص الأفعال، بقبول طائفة من اللواصق المتمثلة في وواو الجماعة، وهاء الغائب، وتاء التأنيث الساكنة، وهي لواصق تحيل إلى شخصيات، تمت بصلة حركية إلى حدثي السؤال والجواب، أو إلى أحدهما، وإذا ما كان السرد يتحدد بالأفعال والأحداث والوقائع، بخلاف الوصف الذي يتحدد بالصفات والنعوت والأشياء، يمكن القول: إن البنية الحكائية المهيمنة على الومضات القصصية هي بنية السرد، وهي بنية لا تستقل بذاتها، ذلك أن الوصف يلازم دوما السرد ملازمة المادة للحركة، حتى أنه في سياق التكثيف، والايجاز، والاقتصاد اللغوي يشكل مع السرد وحدة جدلية متلاحمة، لا مجال فيها للاعتباطي والفضلات من الكلمات، وتبقى الومضات القصصية ترتسم لنفسها قصا خالصا، يصح أن ننعته بنعت قص الحدث، وباعتبار البنية السردية المهيمنة هي بنية حدثية، فإنها تستدعي حتما الشخصية، وتجعلها تحتل ركنا كيانيا في نسيجها القصصيي الناظم، فهي شخصية فاعلة، وقد تأتي مفعولا بها، أي وقع عليها فعل فاعل، ويتولى مهمة السرد سارد غير مشخص، يتوارى دوما خلف الأحداث، بينما هو يعبر عنها تبعا لرؤية ملمة بالمعرفة السردية، لهذا فهي رؤية تقليدية تعرف برؤية السارد العالم بكل شيء، أو الرؤية من الخلف، أو الرؤية ذات التبئير الصفر، بمعنى أن حقل الرؤية غير مقلص في بؤرة محددة، فهو رحب رحابة رؤية السارد العليم، الذي يتحدث عما حدث، وهو يعرف الحدث الذي يعقبه، والشخصيات التي أحدثته، وإن كان يأتي بها غفلية بدون نعوت دالة عليها.
إن السارد يتولى مهمة السرد، وهو ملم به، ومتحكم في زمامه، ليحكي عن حدث ذي علاقة بغربة الإنسان، واغترابه، وصدمات واقعه ومفارقاته، وعلاقاته الأسرية والاجتماعية، وتطلعاته التاريخية، وغطرسته وظلمه، ورذائله، وفضائله، وتناقضاته، وعدوانيته، وتقاتلاته، وحكمته، ونفاقه، وخداعه، وتهوره، واغتراره بذاته، وعلاقته بماضيه وحاضره، ومستقبله، وإبداعه وكتابته...
إلا أن الأحداث لا تنشد في دورانها إلى جاذبية الواقع فحسب، فهي لا تلبث بين الأونة والأخرى أن تنزاح عنه إلى الخيالي، والعجائبي لتخلق من معنى معاني شتى، تستثير لدى المتلقي الدهشة والاستغراب، وقدرا من التخييل، مما يبعثه على التفاعل معها، ولعل في الومضة القصصية التالية، مثالا ناصعا وبليغا على ما قلناه:
حاكم
ارتطموا بسقف طموحاتهم؛ استبدل أقزاما بهم. ص:64
فكأن السارد هنا بهاته الكتابة، التي تنزاح عن محاكاة الواقع واستنساخه، يرسم صورة كاريكاتورية جديدة للمعيش، وهي صورة تنزاح به عن المألوف إلى اللامألوف، حيث يوقفنا على حدث غير منطقي، يحل محل حدث منطقي ترغب في تحقيقه شخصيات طامحة، بغية التسامي عما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، لكن إرادتها تعاق وطموحها يخيب.
إن تجليات هذا العجائبي، يمكن أن نقف عليها في استرسال ومضات قصصية عدة، يلاحم بينها هتك حجب الواقعي، بلغة أدبية مكثفة وموحية، تروم الإدهاش باللامتوقع ، والارتقاء بالكتابة إلى ذروة الإبلاغ الإبداعي.
بهذا المستوى الدلالي، وبتلك المستويات اللغوية التي تدرجنا علينا، يتبين لنا أن التجربة الإبداعية، التي ينحو منحاها القاص محمد لقمان، تجربة تقع أولا في صميم الهاجس التجديدي، الذي يهجس به العصر، وهو هاجس تأليف جنس أدبي مقنن بقانون الاقتصاد اللغوي، ومتناسق بتركيباته، ومكثف بإشعاعاته الدلالية، ومتعدد باحتمالاته التأويلية، فبإبداعه ينخرط القاص في ميثاق التجديد كأحدث ما يكون.
ولعل الخلاصة التي نخلص إليها بعد قراءتنا لكتاب غربة، هي كون ومضاته القصصية تحقق فيها حسن التأليف وتلاؤمه، التي تحدد معالمها في:
- ائتلاف الحروف في المركب حسب الخفة.
- ائتلاف الألفاظ حسب الاستعمال.
- التوازن الصوتي: الجرسي والكمي.
- التمكن الدلالي(6).
وقد بدت الكتابة بها ذات طواعية قصوى، لحمل أكثر المضامين تنوعا واختلافا، وأوسع الدلالات كثافة، وأدق الأحاسيس ائتلافا وتناغما، لذا فهي كتابة ذات رؤية محكمة، ستشكل دون ريب محطة هامة في صيرورة تناسل الأجناس الأدبية، وتفاعلها مع روح العصر، لذا لا يمكن لأي ناقد مهتم أن يتخطاها.
هوامش
(1). محمد لقمان، غربة، الطبعة الأولى، 2015، دار ضاد، القاهرة، جمهورية مصر العربية.
(2). د. تامر سلوم، نظرية اللغة والجمال في النقد العربي، الطبعة الأولى، 1983، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سورية، ص:11.
(3). محمد بنيس، الشعر العربي الحديث - بنياته وإبدالاتها 1. التقليدية، دار توبقال للنشر، المغرب، سلسلة المعرفة الأدبية، الطبعة الثانية، 2001، ص: 199.
(4). نفسه، ص:192.
(5).عبد السلام المسدي، الأدب وخطاب النقد، الطبعة الأولى، 2004، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان، ص: 108.
(6). محمد العمري، البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها،الطبعة الأولى، 1999، منشورت إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب- بيروت، لبنان