لحكايات مصارع العشّاق طَعم خاص، أخبار مُتنوّعة المبنى ومُتوحّدة المعنى، تُقحمنا في عالم فرط المحبّة الجارف والغرام الصارخ. أخبار سارت بها الركبان فاستوطنت كتب الأدب والأخبار. مادّة قصصية وحكايات مثالية متينة التكوين ومختلفة التلوين. تحوم حول الشعر، تُحاذيه وكأنّهما عاشقان يحتضنان. خبر يُلازم الشعر يصاحبه كظلّه وكأنّ بينهما نسب وقرابة. يلقي رؤية ويُطيل خيالاً. يُسلّي لكنّه يرسم إطاراً للقصيدة ويحتويها، فلا ندري هل سبق الشعر الخبر أم وُلدا معاً من رحم الإبداع والأدب. يُلازم الشعر الخبر، يُرادفه ويستدعي كلّ واحد منهما الآخر، تارة بوضوح وأخرى باستحياء. فأحياناً يعيد الخبر فكرة الشعر وأخرى يمطّطها ويجعلها طُعماً للخيال. هذا ما سنعالجه بعجالة في هذا المقال من خلال خبر ذاع صيته فتلقّفته كتب الأدب. حكاية من حكايات الشعراء العشّاق المجانين الذين أحرقهم البين فصاروا متيّمين.
كلّ من تصفّح كتاب مصارع العشاق للسراج يلتقي بأخبار غاية في الجمال، أصحابها رجال وقعوا في حبائل العشق والصبابة فعانوا مرارة البين والفراق. فإذا كان لمجنون ليلى حظّ وافر في المخيال الأدبي عند القرّاء والمستمعين، وقد أصبح مُتربّعاً على عرش العشق والجنون، فهناك أسماء كثيرة ذكرها العارفون بالأدب. حكايات تلعجك منذ اللّقاء الأول فيغمر فؤادك الألم والحُرقة. فمن منّا لم يطرب لسماع قصيدة " لمّا أناخوا قُبيل الصبح عيسهم" بصوت ناظم الغزالي وصدْح صباح فخري. ومن منّا يعرف علاقة هذه القصيدة بخبر شاعر مجهول يلقّب بــ"مجنون دير هرقل" أو "هِزِقْل " حسب الروايات.
فهاك أيّها القارئ الكريم الخبر كما رواه السراج بسند ينتهي إلى عبد الله بن عبد العزيز السامري قال: "مررتُ بدير هرقل أنا وصديق لي، فقال لي: هل لك أن تدخل فترى من فيه من ملاح المجانين؟ قلت: ذاك إليك. فدخلنا فإذا بشابّ حسن الوجه، مُرجّل الشعر، مكحول العين، أزجّ الحواجب، كأنّ شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار، فلما بصر بنا قال: مرحباً بالوفد، قرّب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما.
قلنا: وأنت، فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك، وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبّك فداءك.
فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاكما، وتولّى عنّي مكافأتكما.
قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل؟ فقال :
اللهُ يعلمُ أنّني كَمِدُ *** لا أستطيعُ أبثُّ ما أجِد
نَفسانِ لي نفسٌ تضَمّنَها *** بَلَدٌ وأُخرَى حازَها بَلَدُ
أمّا المُقيمةُ ليس ينفعُها *** صَبرٌ وليس بقربها جلَدُ
وأظنّ غائبَتي كشاهِدَتي *** بِمكانِها تجِدُ الذي أجِدُ
ثم التفت إلينا فقال: أحسنتُ؟ قلنا: نعم! ثم ولّينا فقال: بأبي أنتم ما أسرع مللكم، بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم. قلنا: هات! فقال:
لما أناخوا قُبيل الصبح عيسهمُ *** ورحّلوها فسارت بالهوى الإبلُ
وقلّبت من خلال السجف ناظرها *** ترنو إليّ ودمع العين ينهملُ
وودّعت ببنان عقدهُا علمٌ *** ناديتُ لا حملت رجلاك يا جملُ
ويْلي مِن البَينِ ماذا حلّ بي وبِها *** يا نازِحَ الدّارِ حلّ البينُ وارْتحلوا
يا رَاحِلَ العِيسِ عَرّجْ كيْ أُوَدّعَها *** يا رَاحلَ العِيس في تَرْحالكَ الأجَلُ
إنّي على العَهدِ لم أنقض مودّتكم *** فليتَ شعري، وطالَ العهدُ ما فعلوا
فقلنا، ولم نعلم بحقيقة ما وصف، مُجوناً منّا: ماتوا!
فقال: أقسمت عليكم! ماتوا؟
فقلنا، لننظر ما يصنع: نعم! ماتوا.
قال: إنّي والله ميّت في أثرهم، ثم جذب نفسه في السلسلة جذبةً دلع منها لسانه، وندرت لها عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبّط ساعة، ثم مات. فلا أنسى ندامتنا على ما صنعنا".
هذا هو الخبر، حكاية جميلة مُؤثّثة البُنيان من نثر وشعر، ومُرصّعة المكان بشُخوص وحوار راقي العبارة وجد له في الدير مكاناً. هناك أسباب وتعليلات متعدّدة تقف وراء وضع هذا الخبر الجذّاب في دير. فالأديرة كانت توجد على رقع كثيرة في الشرق الإسلامي، في العراق وسوريا وغيرهما. وقد كتب الأدباء والمؤرخون في الموضوع وأشهرهم كتاب الديارات للشابستي. أخبار كثيرة كانت تجري في هذه الأمكنة الدينية التي كان يديرها الرهبان. فبالنسبة للشعراء والخلفاء وعِلية القوم كانت هذه الأدْيرة مكاناً يُقصد لطيب مواقعها ورقّة هوائها وعذوبة مائها، فيها كان يحلو الأنس والطرب والنزهة واللّهو، يقضون أوقاتاً في بهجة بساتينها بصحبة الشراب بعيداً عن أعين الرقباء. وقد اختلفت مواقع هذه الأديرة ومواضعها، فمنها ما تسنّم قمم الجبال، ومنها ما عانق ضفاف الأنهار وبعضها اقترب من المدن والآخر انفرد في الصحاري والقفار. وكان أصحاب هذه الأديرة يعرفون بحفاوة الاستقبال لكلّ مسافر يمرّ بهم. وهذا ما وقع لراوينا وصاحبه. كما كان الدير مكاناً للعلاج من بعض الأمراض ومأوى المجانين يُعزلون فيه ويُداوون ويُشدّون فيه، وأصبح مثلاً يُضرب فيقال للمجنون "كأنّه من دير هزقل". وقد خلّد هذا المثل بيت من قصيدة هجا فيها دعبل أبا عبّاد ثابت بن يحي وزير المأمون قال فيه:
وكأنّه من دير هزقل مُفلتٌ *** حُرّ يجرّ سلاسلَ الأقيادِ
يدخل السامري (الناقل المُخبر) وصديقه الدير ويريان زُمرة من المجانين، كلّ في أمره ماعدا واحداً يُثير النظر ويخرج عن المألوف والأثر، لا تبدو عليه آثار الجنون ولا يعرفه أحد، مشدود بسلسلة إلى جدار. إنّه شاعرنا المجنون، صدّعته النوى فضرب الدهر بينه وبين معشوقته فتركه يتيماً مُتيّماً في برودة وسكينة دير أصبح مثواه الأخير، يراقب منه كلّ قافلة ونفر ليسألهم إذا ما رأوا حبيبته أو سمعوا خبرها. ويبدأ الحوار شعراً لطيفاً يصبّ في قصيدة بطريقة بديعة وتخالك تُعاين المشهد وتمتلكك النعوت، شخص له جمال موفور وكلام مسبور، وضيء الطلعة مليح القسمة وكأنّه أُفرغ في قالب الجمال. وصفه الخبر بأجمل الأوصاف: شابّ " حسن الوجه"، "مُرجّل الشعر"، "مكحول العينين"، "أزجّ الحواجب"، " شعر أجفانه كأنّها قوادم النسور"، "عليه طلاوة وحلاوة ". وفي رواية ذكرها السراج على لسان المبرّد، " فإذا منهم (أي المجانين) شابّ عليه بقيّة ثياب ناعمة" ونقرأ في أخرى: "فتى منهم قد غسل ثوبه ونظّفه وجلس ناحية عنهم". فإذا كانت القصيدة تهيم بك في وادي الحبيبة والشاعر ينادي حادي العيس وأنت ترنو معه إلى إشارة الحبيبة وقد سالت مذارف عيونه، فالخبر يُقحمك ويتجوّل بك في الدير ويأخذ بمجامع فؤادك فتتندّى منك كلّ الأحاسيس. يذكّرك بالقافلة والصحراء تغمرها والشاعر المجنون وقد صدّعته النوى فهام به العشق في كلّ واد فاستقرّ في دير يناشد أهله:
يا راهب الدير بالإنجيل تٌخبرني *** عن البُدور اللّواتي ها هُنا نزلوا
فحنّ لي وبكى وأنّ لي وشكى *** وقال لي يا فتى ضاقتْ بك الحِيلُ
فرح العاشق المجنون بضيفي الدير وقد لاحت له في كلامهما بارقة أمل، لكنّ المزاح ازدحم بالجدّ، وقُبح الدعابة بجدّ الكلام، فبدأ الصاحبان يتغامزان ويترامزان عليه وقد استحمقاه. وكما هو معلوم لا موضع للمُزاح والتلاعب بالمشاعر في عالم العشق، فالأمر جدّ في جدّ. وهذا العنصر قد غيّر مسار الخبر وأدخله في عالم المأساة فتجلّى الموت. فبدون هذا الموت يفقد الخبر كلّ قيمته وافتتانه. وتخال نفسك وأنّك تتابع مشهداً سينيمائياً بإخراج محكم متين. اختار العاشق زمان ومكان موته وطريقته واستوْفى الشاعر ظِمء حياته، ففاضت نفسه بعدما زفر زفرة وتنفّس نفساً انقصفت منه ضلوعه. يصوّر الخبر هذه النهاية بألفاظ وعبارات غاية في المأساة: فـــ"جدب نفسه ودلع لسانه وندرت عيناه وانبعث الدم من شفتيه وشهق فإذا هو ميّت ". وفي رواية ثانية ساقها السراج في موضع آخر على لسان المبرّد : " فتمطّى واستند إلى السارية التي كان مشدوداً فيها فما برحنا حتّى دفناه"، وفي رواية ثالثة: " فصاح وقال: وأنا والله أموت وتربّع وتمدّد فمات، فما برحنا حتّى دفنّاه". هنا يُحاذي الخبر تماهيات الأسطورة والقول الوداع المرير. مشهد درامي فيه ألم ودم وندم. جسد مرمي وقد فاضت روحه وسكتت سكناته. حوله نفر يتابعون اللّقطة الأخيرة وقلوبهم مثقلة بالأحزان. لا يمكن تصوّر أخبار مصارع العشاق بدون تصوير مصرع العاشق وذكر نهايته. وهذه النهاية لابدّ أن تُوظّب وتُصنّف وتُنحت بطريقة تؤثر على المتلقّي للخبر، تهزّ مشاعره وترميه في صحراء الحيرة. مصرع العاشق. هنا يرسم الخبر الشخصية يلوّنها ويكثر الأوصاف. توضيب في غاية الجمال والاكتمال. فلا يمكن القول: مات العاشق المجنون والسلام! هذا هو الخبر يزجّ بك في عمق تحرّر الكلام، يُصوّر ويتخيّل ويطيل، يصول بك ويجول ويهيم بك في مكنونات الذات وكوامن المشاعر. له ذوقه وطعمه. فربّما لهذا الهدف الأسمى والمقصد الأسنى يملأ بطون كتب الأدب القديم ويطرّز صفحاتها. بهذا النسيج السردي يضيء الخبر ملابسات القصيدة ويُفرغها في بنية سردية تشخّص الحدث وتوهم بصدق الكلام وتلامس التشويق وتُحرّك الأحاسيس. هنا يصبح الخبر وعاء أدبياً يستوعب معنى القصيدة ويوفّر له جمالاً وتخييلاً. أخبار طوال نقرؤها نحن قرُّاء هذا الزمن ولا نملّها، سرد جميل اخترق الزمان والمكان. وكان بودّنا معرفة أين كانت تُحكى هذه الأخبار ومن كان يستمع إليها، ربّما في مجالس الأدب. ويُسدل الخبر الستار على قصّة هذا الشاعر المجهول الذي استُلب عقله واستهام فؤاده بمعشوقته وها نحن قد انجرفنا معه انجرافاً رهيباً، وهمنا معه في عالم امتزجت فيه حدود الحُلم واليقظة. ونُسدل بدورنا الستار على هذا المقال مُردّدين مع السراج " العشق أوّله لعب وآخره عطب"!