قراءة في رواية " السبيل لعيش آخر" لعبد النبي بزاز - رشيد سكري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تظل تجربة الكتابة ،عند عبد النبي بزاز، مشدودة إلى واقع اجتماعي حرون. فمن خلال تاريخانية إبداعاته ، التي مزج فيها بين النصوص التذكارية والرؤية القصصية والروائية، سنجد تشكلات الرؤية الاجتماعية حاضرة في رؤيته لعالمه و لواقعه.
   تتطلب هذه المعالجة ، من الكاتب ،المسك بخيوط البناء الروائي. وفي رؤيته ،هاته ، يندغم الخطاب بالواقع ، فيصير السمت ضيقا و غير آمن نحو الخروج من كماشة واقع ، يرفض الانصياع إلى وصايا المبدع ... فينتصر الواقع على الكاتب ... كما انتصرت السياسة على كامو، الذي ظل مخدوعا بين أبناء وهران ، ...أو كما انتصرت الفلسفة على سارتر الوجودي ...وكما انتصر شيوخ الأزهر على عميد الأدب.  

 واقع ، نحس به ،لا يعرف المهادنة ، واقع قد يكون مشرقا أو مدلهما . فرؤية بزاز تتراوح بين الأمل و الألم . يطمح إلى غد أفضل ، من خلال إبداع عالم خاص به. فالسبيل لعيش آخر هو سبيل غير آمن ؛ سبيل نحو المجهول ، سبيل نحو الجهم و العتمة . فالعلاقات الاجتماعية ، في بعدها الروائي ، تعيش حالة من الانحسار والتأزم والاحتقان، و هذا يفضي إلى خلق انفتاح على واقع موبوء ، ينتظر رجة الإبداع.
- المتن الغائب في رواية " السبيل لعيش آخر"  
   في قراءتنا لرواية السبيل لعيش آخر ، تتماثل أمامنا رؤية محمد زفزاف الواقعية في رواية محاولة عيش . فالعيش عيشان . عيش يركبه الأمل و التأمل " وقف يراقبهم من بعيد يتأمل حركاتهم ..." (1) . و عيش ملؤه الأمل ، لكنه أمل بئيس " ترفع عينيها في الأجواء العالية . تتأمل زرقة السماء المنمقة ببياض غيوم في فضائها الرحب الشاسع" (2). أمل يخبو في تضاريس واقع موبوء ، مشلول الحركة و التحرك ، غير قادر على أن يبدع لنفسه فنون رؤية جديدة ، و الذهاب به نحو نقطة اللاعودة .   
  فالزهرة البزازية امتداد شرعي لأحمد الزفزافي ؛ بائع الجرائد المطارد من قبل مؤسسات مجتمع لا يرحم. يتوالد الفقر و يتولد مولود، ووالد وما ولد ، ولد مشوه تشبع بجينات إملاقية من خلال براكة، تلفظه كلما قرر الزواج، تحت حراسة نظرية مشددة من قبل المقدم . أما
الزهرة البزازية، فهي مطاردة من قبل ذئاب لا تكف عن الارتواء. طامعة ، مستلذة ، متشبقة ، تلهت وراء زهرة الربيع التي مافتئت تتفتح نضارة و جمالا . ما لم يصرح به بزاز صرح به زفزاف . بما هو أكثر جرأة في معالجة هذه المنعطفات ، التي يمر منها الآدميون . فالزهرة تذبل بين مطرقة البقال و سندان عمر . ويمكن أن نقول إن رؤية العالم ،عند الكاتب، ميسمها أخلاقي لا تركن إلى المبتذل المنحط ، البذيء، المتسارع نحو الرذيلة، التي لا ينضب معين امتلائها. خلف الركح ثمة ستار صفيق يعمل في الخفاء ، كصمام أمان يؤمن العبور المشدود إلى حبله السري.  
    في البدء كان الصراع ، كما كانت الكلمة ؛ صراع أحمد من أجل لقمة العيش ،  وصراع زهرة من أجل تأمين مستقبل غبشي، لا يكف عن الارتجاج. مغامرة أحمد ضد مستخدمه ، ومغامرة زهرة من أجل الظفر بالكارزماتي . فالمغامرة، إذن ، شرط وجود عند الوجوديين ، فأنا أغامر إذن أنا موجود. تخطت أعراف الدوار لتبحث عن ذات فقدت بريق طموحها . انقطاع عن الدراسة و هروب ، بسبب زواج جائر غير متكافئ يجمع بين السكون و الحركة ، بين الحر و القر ، بين الذبول و النضارة ، بين الارتواء  وجيل  الظمأ و العطش..
   اختار زفزاف العيش المجهول ، غير المعرف التائه في زحمة اللامعنى ، يصارع المجهول بالمجهول ، ويقارع العدم بالعدم ... عيش ليس كالعيش المعرف البائن والواضح ، فبلاغة الغموض أكثر وقعا من الحسام المهند. أما سبيل بزاز فهو ارتماء في حضرة البائنات و الواضحات و المشرقات ، فضد الإبهام و الغموض ؛ الوضوح بما هو فريسة يسهل ارتيادها دونما مواربة أو إجهاد.
  الرؤية من أعلى حاضرة في كل من الروايتين؛ أصبحت ، هته الرؤية ، موشومة على أجساد المبدعين. فنهر الحكي في القنيطرة أبى إلا أن يصفعنا بهذه التراتبية المقيتة، تحتسيها في كل حرف و في كل عبارة من الرواية، بما هي رؤية العالم لمحمد زفزاف في مختلف إبداعاته القصصية منها و الروائية . يكتب "هروبا من الرئيس الذي يطوف في المدينة بسيارته ،متفقدا نظام البيع ... اختفى حميد في مكان معين ، بين المرحاض العمومي ،ومكاتب النقابة السياحية...(3)
بينما ينماز نهر الحكي في الخميسات ، جسدن هذا اللاتماسك في مجاز قد يكون مرسلا. علاقة تربط بين معنيين معنى حقيقي و آخر مجازي ، فالتراتبية ذاهبة نحو المحلية (الدوار ، القرية ، المدينة) و المقصود بها الحالين بهذه الأمكنة. يكتب " هناك ، في
دوارهم المعزول ، حياة قاسية و شاقة في غياب شروط عيش دنيا من سكن لائق يتوفر على الإنارة و الماء الشروب و قنوات الصرف الصحي ... فضلا عن مرافق أخرى أساسية من مستشفى و دار الشباب (4) .
   تتمأسس بنية الانفلات في الرواية على وضعيات مختلفة ، تعزف لحنا واحدا. مرورا بشخص رجل التعليم عمر الذي يدرس بالعالم القروي، بما هو صورة تعكس الأوضاع المادية الصعبة، التي يمر منها رجال التعليم بالمغرب. وكذا انشداد زهرة الوثيق للأصول عبر العودة المتعاقبة إلى الدوار الذي تنحدر منه ، بما هو ـ أي الدوار ـ يعيش التهميش  والبؤس و الفقر.
   بينما تتمحور بنية التوازن من خلال الدور التي انمازت به رحمة وسط مجتمع يستعذب العذاب ، فأضحت ومضة تضيء سمت زهرة نحو مرفإ ، قد يكون آمنا من عيون ذئاب جائعة . في كل هذه الخطيات السردية ، التي تمتاز بها رواية السبيل لعيش آخر ، لابد من الإشارة إلى الطابع المقيت و الرؤية السوداوية الفاقدة لأدنى إشراقة الأمل ، التي من الممكن أن تحوط بالكاتب في راهنية إبداعاته القريبة منها  أو البعيدة. فالتشاؤم و الإحباط ميسم انماز به العديد من الكتاب والشعراء والروائيين في تاريخ الأدب العربي؛ بدء بابن الرومي، وانتهاء بمحمد برادة ،عندما تكسرت أحلام الاشتراكيين بالمغرب .  
- الضمير الغائب  في رواية " السبيل لعيش آخر"  
  يتشرب الضمير ، عند عبد النبي بزاز ، من معين لا ينضب . تمأسس من خلال نظرة الكاتب لواقع موبوء . إحساس بالقرب و بالبعد في الوقت نفسه .  جدلية بين الابتعاد  والاقتراب على صفيحة ساخنة . يكتب : " بحثت عنها زميلاتها في كل المرافق من قاعة المراجعة و المطعم ، والمراقد إلى المراحيض" (5).
فاختيار ضمير الأنا و الهو و الهما كان جماليا ، رغبة في أن يعكس الضمير كل من دلف الحبكة البزازية .انظر معي:
ـ " نظر إلى ساعته ، وهو يخاطبها :
ـ وصلت قبل الموعد المحدد بخمس دقائق
ـ وأنت .متى وصلت ؟ هل انتظرت كثيرا؟" (6)
انظر معي ثانيا:
" كانا ينشدان تلاحما حميميا زاخرا بزخم المودة و البوح و المكاشفة." (7)
مزج بين الضميرين خلق قلقا دفينا و بوحا نادرا ما تبوح به شخوص المتن الروائي. فالشخوص في المتن تصادي شخوصا حقيقية من لحم و دم وعظام أيضا . وتحس كأننا نعيش الحدث من خلال ثلمه الضيقة ، التي تطل على الواقع . فبنية الضمير ينبض بالحياة  والموت أيضا .
  تلكم أهم ما انمازت به رواية السبيل لعيش آخر للكاتب ، بما هو يقاوم ببسالة الخمول الإبداعي ، الذي يهيمن فينا و يتربع على عروش الكسل و اللاإبداع .
تجربة فريدة تلك التي ينحتها عبد النبي بزاز . ضدا في حرونية الواقع ، أملا أن يكون مطواعا في يده يعجنه كيف ما أراد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                
(1)    محمد زفزاف ، محاولة عيش، منشورات الجمل ،ص.5
(2)    عبد النبي بزاز ، السبيل لعيش آخر، المطبعة السريعة، ص.11
(3)    محمد زفزاف ، محاولة عيش، منشورات الجمل ،ص.39
(4)    عبد النبي بزاز، السبيل لعيش آخر، المطبعة السريعة، ص.29
(5)    عبد النبي بزاز، السبيل لعيش آخر، المطبعة السريعة،ص.59
(6)    نفسه، ص.84
(7)    عبد النبي بزاز، السبيل لعيش آخر، المطبعة السريعة، ص. 85

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة