عرف علي الوردي[1] كواحد من أهم الشخصيات الفكرية في العراق منذ أواسط أربعينات القرن الماضي، فقد كانت كتاباته متميزة في نقد وتقييم الكثير من الظواهر والمفاهيم الاجتماعية التي تعتمل في المجتمع العراقي. كان صاحب "منطق ابن خلدون" من أوائل المفكرين الذين حاولوا التقعيد لعلم اجتماع عربي مستقل عن النظرة الاستشراقية، من هذا المنطلق نال هذا الرجل شهرة واسعة تجاوزت حدود العراق.
يشكل هذا الكتاب الذي نقرأه" دراسة في سوسيولوجيا الإسلام أو دراسة التاريخ الاجتماعي للإسلام" محطة هامة في مشروع علي الوردي، لإرساء قراءة جديدة للتاريخ الإسلامي. فهذه الدراسة هي في الأصل رسالته التي تقدم بها لنيل شهادة الماجيستر من جامعة تكساس سنة 1948، ولم تترجم من الإنجليزية إلا بعد وفاته. نعتمد في هذه القراءة على الطبعة الثانية التي نشرت سنة 2019، عن دار الوراق للنشر، ترجمة رافد الأسدي. تقع هذه الدراسة فيما يقارب 150 صفحة من الحجم المتوسط، وتتشكل من توطئة ومقدمة بالإضافة إلى ستة فصول ثم خاتمة.
لاشك أن أي بحث بهذا الحجم مهما كان أمينا ومكثفا، سيستعصي عليه دوما الإلمام بمجال تاريخي واسع كالتاريخ الاجتماعي للإسلام، لذلك ووعيا منه بهذه الصعوبة المعرفية، فقد كرس الوردي هذا العمل لدراسة "جانب من جوانب سوسيولوجيا الاسلام، وهو: معضلة الإسلام أو بكلمة أخرى، الصراع بين المثالية والواقعية في تاريخ الإسلام"[2] . تروم دراسة عالم الاجتماع العراقي هذه الاستعانة بالنظريات الحديثة في علم الاجتماع، بالخصوص علم اجتماع الدين، من أجل فحص العلاقة المتبادلة والمركبة بين الإسلام والبيئة الاجتماعية التي يتفاعل معها. هذا الهم العلمي الموضوعي لن يتأتى إلا بتفنيذ معظم الأطروحات ـ سواء العربية أو الاستشراقية ـ التي لازالت تنظر إلى معضلة الإسلام وهي: الخلاف السني الشيعي أو ما يسميه الوردي بالصراع بين الواقعية والمثالية، تنظر إليه هذه الدراسات الكلاسيكية بمنطق حدي يبحث عن تأييد طرف عن أخر، بدعوى أن الحقيقة يملكها طرف بعينه دون الأخر، أو بإرجاع التسنن والتشيع لأسباب عرقية عربية وفارسية.
كل نظر في تارخ الإسلام يقود بالضرورة إلى الخلاف الذي نشأ بعد وفاة النبي، فقد استطاع النبي في حياته أن يجمع بين السياسي والديني أو بكلمة أخرى بين الديني والدنيوي دون أن يشكل ذلك أية معضلة، ولكن مباشرة بعد وفاته حدث الخلاف والصراع، وجوهر هذا الصراع لم يكن سوى بين طائفة متشبثة بالمثل الدينية دون الالتفات للواقع وما يجري فيه، وبين طائفة أخرى واقعية متمسكة بالمصالح الدنيوية. يصر الوردي هنا على ضرورة أخذ مفهومي المثالية والواقعية بمعنى الاستعمال الشائع للكلمتين وليس الاستعمال الفلسفي لهما. فكل الأنبياء والمصلحين الدينيين كانوا مثاليين يرسمون غايات وأهداف بعيدة متسامية وبالتالي فهم ثوريين على الواقع. الإسلام هو الأخر باعتباره مجموعة من المثل العليا، ظهر بين مجموعة من البدو لم يكونوا يستبطنون معنى المثالي ولا حتى لغتهم كانت تساعدهم على ذلك، هذا ما يفسر حسب الوردي الاضطهاد الذي تعرض له النبي في أول دعوته.
ليس الخلاف السني الشيعي الذي تبحثه هذه الدراسة في فصلها الأول إلا امتداد لكيفية نظر كل فئة منهما لهذا التاريخ المبكر للإسلام، فالسنة التي تمثل الاتجاه الواقعي، تنظر لتطورات الخلافة والتاريخ الاسلامي عامة باعتباره مسارا طبيعيا و نظاما مقدسا وفتحا مبينا لا سبيل للاعتراض عليه، هذا في حين يعتبر الشيعة أن المثل الإسلامية الحقة لم يتم احترمها على طول التاريخ الاسلامي، لهذا فهم لا يكنون التقدير العظيم للخلفاء كما يفعل السنة، هذا ما يسوغ بالتأكيد أن الشيعة كانوا ثوريين معظم حياتهم، لاعتبارهم دوما أن الخلفاء السنة كانوا غاصبين للخلافة. إذا أردنا أن نتبين هذه العلاقة الخلافية بشكل حديث، وفق الوردي يكون "من الصواب أن نقول بأن المذهب السني مثل الحزب الحاكم، بينما يمثل المذهب الشيعي حزب المعارضة"[3]. يعمق صاحب " مهزلة العل البشري" البحث في الفصل الثاني في قضية الخلافة، قصد الوقوف أكثر على أصل هذا التباين السني الشيعي، فلحظة وفاة النبي يصر السنة على أن الخلافة يتم تحديدها عن طريق الانتخاب( الإجماع)، غير أن الشيعة حملتهم مثاليتهم حسب الوردي التأكيد على عنصر الوحي كمحدد للخليفة كحال النبي، تعيين خليفة معصوم من الكبائر والصغائر، هذا الاختلاف مرة أخرى ليس مرده حسب الوردي إلى روح الإذعان التي تسكن الروح الفارسية المتشيعة بالطبيعة كما يحاول المستشرقون التأكيد، لا، فالسبب وفق السوسيولوجي العراقي مرتبط بالبلدان الزراعية مثل العراق وفارس والهند التي استوطنها الشيعة، في حين أن معظم بلاد البدو كانوا سنة، بتعبير أخر كان "هذا الصراع في مرحلة من مراحله صراعا بين الصحراء والأرض الزراعية[4]".
يحفر علي الوردي في الفصل الثالث والرابع في طبيعة هذا الإسلام المبكر وطبيعة الصراع داخله، والذي أنتج هذه الثنائية التي طغت على معظم تاريخ الاسلام إلى حدود اليوم، يؤكد أن النبي بجمعه في المدينة بين المثالي والواقعي خلف بعد موته نهجا كان على الخليفة اتباعه كما هو، ولكن كان ذلك أشبه بالاستحالة، ومن هنا بدأت الاعتراضات خصوصا من أولئك الذين يمثلون النزعة المثالية، وهذا ما يفسر اعتزال بعض أصحاب النبي للسياسة معتبرين أن الدين شأن عقائدي خالص. لم يكن هدف النبي حسب زعم الوردي هو إنشاء إمبراطورية ولكن هذا ما حدث بعد وفاته واتسعت رقعة بلاد الاسلام، هذا الحدث بدوره أجج هذه الفرقة بين المثالي والواقعي، حيث سعى البدو للغنائم والاستزادة من الأموال، في حين اعترض دائما أصحاب النزوع المثالية مؤكدين على الأهداف الروحية للعقيدة، من هنا سيصبح بعد ذلك التشيع مذهب المسحوقين والمضطهدين، هذا أيضا ما يفسر وفق الكاتب في الفصل الخامس تعلق الشيعة بالفلسفة والمنطق والفكر عموما مقارنة بالسنة، فهم سعوا من خلال هذا إلى تأسيس مثل عليا كتعويض عن غطرسة المضطهدين.
الذي يتوج معضلة الاسلام هذه، بين المثالية والواقعية هما علي ومعاوية،" قد يصح أن نستنتج هنا أن الصراع بين علي ومعاوية كان يمثل الصراع بين المثالية والواقعية في الاسلام"[5] إذ يؤكد الوردي في الفصل الأخير أن حياة علي، إمام الشيعة، كانت تجسيدا للمثل العليا، ولكن فشل في إقامة دولة وفق هذه المثل، بينما كان معاوية تجسيدا للواقعية السياسية واستمرارا للخلافة السنية.
جملة القول أن هذا الكتاب يتناول معضلة لاتزال تشغل المجتمع الاسلامي اليوم كما كان الأمر بالأمس، فقضية السنة والشيعة هي بدون مبالغة أم الخلافات الدينية والعقائدية في الشق الأكبر من العالم الاسلامي، تؤجج هذه المعضلة العنف وتكبح مسيرة التنمية في الدول. الهدف من قراءة هذه الدراسة كان هو تكوين فكرة أقرب إلى الموضوعية والحياد عن مشكلة مزمنة لاتزال تشكل معالم الحياة عندنا، فرغم مرور أكثر من نصف قرن على صدور هذه الدراسة، إلا أنه وحسب وجهة نظرنا لازال هذا البحث يحافظ على راهنيته، كونه عالج إحدى أعقد القضايا في التاريخ الاسلامي بعيدا عن الطائفية والتعصب الذي يطغى غالبا على مقاربة مثل هذه المواضيع الحساسة، فقد تحلى الوردي بنظرة باردة وعين نقدية فاحصة، عرفت عنه دوما في معظم دراساته. غير أنه يمكن اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرون أن نعاود التفكير في هذه القضايا الشائكة في ضوء المكتسبات التي راكمتها العلوم الإنسانية في العقود الأخيرة.
[1] عالم اجتماع عراقي ولد في مدينة الكاظمية ضواحي بغداد عام 1913 وتوفي 13 يوليوز 1995.
[2] علي الوردي، دراسة في سوسيولوجيا الإسلام أو التاريخ الاجتماعي للإسلام، دارالوراق، الطبعة الثانية، ص49.
[3] نفس المرجع، ص66.
[4] نفس المرجع، ص 84.
[5] نفس المرجع، ص 167.