بدأ "علم الاجتماع الأكاديمي" الحديث وتحليل موضوع الدين في عام 1897 مع دراسة معدلات الانتحار بين فئة الكاثوليكي والبروتستانتي، مع السوسيولوجي إميل دوركهايم (Émile Durkheim)، في ظل محاولة هذا الأخير لتأسيس وتمييز علم الاجتماع عن التخصصات الأخرى، مثل علم النفس.
علم اجتماع الدين (Sociologie de la Religion)، هو دراسة المعتقدات والممارسات والأشكال التنظيمية للدين باستخدام أدوات المنهج في علم الاجتماع. ويمكن أن تشمل هذه الأساليب استخدام المنهج الكمي (الدراسات الاستقصائية، واستطلاعات الرأي، والتحليل الديموغرافي والتعداد) والمنهج النوعية مثل "الملاحظة بالمشاركة" (L'observation participante)، وإجراء المقابلات، وتحليل المواد التاريخية والوثائقية[1].
وإذا ما حولنا طرح سؤال: ما سوسيولوجيا الأديان؟ سنجد الأجوبة متعددة بتعدد البحوث، وفي محاولتي الشخصية للإجابة على هذا السؤال نجد عدة أجوبة من بينها أن سوسيولوجيا الأديان هي الدراسة الاجتماعية للأديان، والتي ترد الظاهرة الدينية إلى أسسها الاجتماعية. فالدين ظاهرة اجتماعية، والمؤسسات الدينية جزء من المجتمع، [...] وتهدف إلى البحث في التأثير الذي يحدثه الدين في المجتمع. [...] فسوسيولوجيا الأديان تبحث في الشروط الاجتماعية لانتشار الأديان في المجتمعات المختلفة. كما تدرس الجماعة الدينية ذاتها باعتبارها جزءًا من المجتمع: كيفية تكوُّنها، والآليات التي تحكم تأسيسها وتطورها، وأنماط الفعل والسلوك التي تدعمها أو ترفضها[2].
ظهرت سوسيولوجيا الأديان باعتبارها فرعًا من علم الاجتماع على يدي رواده دوركايم، وفيبر، وماركس، ولم تقتصر على دراسة الأديان السماوية، بل تطرقت أيضًا إلى دراسة الأديان البدائية السابقة على ديانات الوحي. كانت للدراسات السوسيولوجية الكلاسيكية، والنظريات التي أنتجت في أواخر التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أهمية بالغة في اغناء الدراسات المعاصرة لسوسيولوجية الدين، خصوصا تلك التي تتعلق بالدين وآثارها على المجتمع التي قام بها كل من ماركس ودوركايم ثم فيبر. فارث السوسيولوجية الكلاسيكية افسح المجال أمام كل من "بيتر بيرغر" (Peter Berge)، و"وليام سيمز (William Sims)، " و"وبريان ويلسون" (Bryan Wilson)، و"كريستيان سميث" (Christian Smith)، وغيرهم للمواصلة في دراسة الدين بعين سوسيولوجية.
اختلطت سوسيولوجيا الأديان في كتابات هؤلاء (أقصد رواد سوسيولوجيا الأديان) بأنثروبوجيا الأديان البدائية، مثل دراسة لـ "جيمز فريزر" بعنوان "الغصن الذهبي". فنجد في الكتاب الواحد منظورات سوسيولوجية وأنثروبولوجية في تجاور واختلاط، وخير دليل كذلك عما نقول أعمال كل من دوركايم "الأشكال الأولية للحياة الدينية" وفي أعمال "مارسيل موس" ومالينوفسكي وموريس جودلييه[3].
فإذا ما سلمنا بأن الدين بُعد هام لجميع المجتمعات، وأنه يستمر في لعب دور المؤثر تقريبا في جميع جوانب الحياة المعاصرة. سيتجلى لنا أهمية سوسيولوجيا الدين؛ فهي تسعى لفهم الدين في مظاهر متنوعة كالمؤسسات الاجتماعية والممارسة الثقافية، ونتيجة لنمط من المعتقدات والأنشطة التي شكلتها الظروف الاجتماعية والتي بدورها تشكل هذه الشروط[4].
تتميز سوسيولوجيا الدين عن فلسفة الدين (Philosophie de la religion)، في أنه غير مبني على تقييم صحة المعتقدات الدينية؛ ففي دراسة الدين من منظور سوسيولوجي، يجب الوصول إلى درجة القدرة على دراسة الدين موضوعيا في سياق اجتماعي وثقافي.
كل إطار اجتماعي كبير لديه وجهة نظره في الدين؛ على سبيل المثال، من المنظور الوظيفي، الدين هو قوة تكاملية في المجتمع لأن لديه القدرة على تشكيل المعتقدات الجماعية. ويوفر التماسك في النظام الاجتماعي من خلال تعزيز الشعور بالانتماء والوعي الجماعي. وأيد هذا الرأي اميل دوركهايم.
قضى اميل دوركهايم، مؤسس الوظيفية، الكثير من مسيرته الأكاديمية في دراسة الأديان، وخاصة تلك المجتمعات الصغيرة. (Totetism)، أو نظام القرابة البدائية لدى سكان استراليا الأصليين كشكل أولي للدين. شكل بحث "النماذج (الأشكال) الأولية للحياة الدينية"، أساس في الدراسات الدينية فيما بعد، وهي بالتأكيد الدراسة المعروفة في علم اجتماع الدين. ينظر دوركهايم للدين في سياق المجتمع بأسره واعترف بمكانته وتأثيره على التفكير وسلوك أفراد المجتمع.
يرى دوركهايم أيضا أن الدين لا يتعلق بالاعتقاد فحسب، بل يشمل أيضا الطقوس والاحتفالات العادية من جانب مجموعة من المؤمنين، باعتبار هذه الطقوس والاحتفالات تلعب دورا هاما في تطوير وتعزيز الشعور بتضامن المجموعة. وتعتبر طقوسا ضرورية للربط بين أعضاء جماعة دينية معينة، وتسمح للأفراد بالهروب من الجوانب الحياة الدنيوية واليومية إلى عالم آخر. وتعتبر الطقوس المقدسة والاحتفالات ذات أهمية خاصة لوسم مناسبات مثل الولادة والزواج، أوقات الأزمات، والوفاة.
لقد تطرق إيميل دوركايم في كتابه" الأشكال الأولية للحياة الدينية إلى مسألة الإيمان وأدرج أبعادها بين قطبين مختلفين حددهما في مفهومي المقدس والدنيوي حيث قال " إن جميع أنواع الإيمان الديني المعروفة سواء كانت بسيطة أو معقدة تتمتع بميزة مشتركة، فهي تفرض ترتيب الأمور الحقيقية أو المثالية التي يتصورها الانسان في طبقتين أو نوعين متعاكسين يُعرفان عادة بتسميتين مختلفتين تعبّر عنهما كلمتا مقدس ودنيوي بشكل كاف" [5]
ويظهر أن تعريف المؤمن عند دوركايم يستند على الناحية الديناميكية في الشعور الديني فقد قال: " إن المؤمن الذي اتحد مع ربه ليس مجرد انسان يرى حقائق يجهلها غير المؤمن ، بل هو ذو قدرة أكبر على التصرف، فالمؤمن يشعر بمزيد من الطاقة لتحمل مشاق الحياة أو لقهرها، فكما لو أنه يسمو فوق البؤس البشري لأنه يسمو فوق وضعه كإنسان، فيَخال نفسه مُخَلَّصا من الشر مهما كان مفهومه للشر. إن العامل الأول في أي إيمان هو الاعتقاد بالخلاص من خلال الإيمان"[6]
وفقا لدوركهايم الدين يساهم في صحة واستمرار المجتمع بشكل عام وربط أفراد المجتمع من خلال دفعهم لتأكيد قيمهم المشتركة والمعتقدات على أساس منتظم.
أما فيما يخص ماكس فيبر، فيرى الدين من حيث الكيفية التي تدعم المؤسسات الاجتماعية الأخرى. يعتقد وماكس فيبر أن النظم العقائدية الدينية وفرت الإطار الثقافي التي تدعم تطوير المؤسسات الاجتماعية الأخرى، مثل الاقتصاد.
شرع ماكس فيبر في دراسة واسعة النطاق حول الأديان في جميع أنحاء العالم. كان اهتمامه الرئيسي في بالديانات الكبيرة، العالمية التي تضم الملايين من المؤمنين بها. وفي هذا الصدد أجرى دراسات متعمقة حول اليهودية القديمة والمسيحية والهندوسية والبوذية. وفي كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (1904/1958)، فحص فيبر تأثير المسيحية على التفكير والثقافة الغربية.
وكان الغرض الأساسي من البحث فيبر اكتشاف تأثير الدين على التغيير الاجتماعي. على سبيل المثال، في البروتستانتية وخصوصا "أخلاقيات العمل البروتستانتية،" رأى فيبر جذور الرأسمالية. ومن جهة أخرى رأى على أن الهندوسية تشدد على تحقيق مستويات أعلى من الروحانية التي تحتم الهروب من شراك العالم المادي الدنيوي.
ينظر معظم مؤيدي الماركسية وخصومها إلى عبارة "الدين أفيون الشعوب" الشهيرة علي إنها خلاصة المفهوم الماركسي عن الظاهرة الدينية. علي أننا يجب أن نتذكر بادئ ذي بدء أن هذا التعبير ليس ماركسيا بشكل خاص، فالعبارة نفسها يمكننا العثور عليها، في سياقات مختلفة، في كتابات كانط وهيردر وفيورباخ وبرونو باور وهاينريش هاينه[7]. على الرغم من أن الناس يفترضون عادة أن ماركس لا يرى مكانا للدين، وهذا الافتراض ليس صحيحا تماما. لكنه يرى أن الدين بمثابة ملاذ من قسوة الحياة اليومية والاضطهاد من قبل الأقوياء.
[1] الموقع الرسمي لمعهد هارتفورد للأبحاث الدينية.
[2] أشرف منصور، الرموز والوعي الجمعي: دراسات في سوسيولوجيا الأديان (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2010)، ص:9-10.
[3] المرجع نفسه.
.[4] الموقع الرسمي للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع
[5] إيميل دوركايم " الأشكال الأولية للحياة الدينية" منشورات PUF كارديج سنة 1912 ص: 50 .
[6] نفس المرجع ص: 595.
[7] الماركسية والدين، مايكل لوفي، ترجمة: بشير السباعي، مجلة القاهرة، العدد ،134 في يناير 1994