من غرائب الصدف أو لنقل من غرائب صنائع ولاة الأمر المستبدين، أن يلقى المرء حتفه من الداء الذي حذر منه و ظل يدعو إلى استئصال شأفته، إنه داء متابعة الحكام المستبدين لرجالات العلم و مطاردتهم أينما حلوا و ارتحلوا، لا لجرم ارتكبوه و استحقوا بموجبه العقاب، و لا لقول تلفظوا به و لم يلاق هوى لدى الحاكم، و لا لمكتوب دبجوه و حمل في ثناياه ما يدينهم و يزج بهم في مهاوي التهلكة، بل فقط لأنهم تجرؤوا على تنوير العوام و توضيح الخير لهم و فضح الشر. و هذا لعمري أشد إيلاما على المستبد و أكثر فتكا بسلطته من غيره، كيف لا و "أخوف ما يخافه المستبدون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة أو أن يعرفوا النفس و عزها، و الشرف و عظمته، و الحقوق و كيف تحفظ، و الظلم و كيف يرفع، و الإنسانية و ما هي وظائفها، و الرحمة و ما هي لذاتها". الكواكبي ألف كتابه العمدة "طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد" و هو يمني النفس أن يرفع عن العوام جهلهم الذي هو مكمن دائهم و ما يعيشونه من ذل و هوان، لأنهم إذا جهلوا خافوا و إذا خافوا استسلموا. و الاستسلام أكثر ما يرغب فيه حاكم مستبد يرفل في النعيم حين يرفلون في البؤس و يسعد حين يتعسون. لأنه يدرك أنه لا "استعباد و لا اعتساف إلا مادامت الرعية حمقاء تخبط في ضلامة جهل و تيه و عماء.
على هذا كان الاستعباد و العلم، يقول الكواكبي، يتجاذبان العوام دون هوادة، يسعى العلماء الذين ينبتون في الغالب في مضايق صخور الاستبداد جهدهم في تنوير العقول و يجتهد المستبد في إطفاء نورها إدراكا منه أن خضوع العوام و خنوعهم إنما مرده إلى الخوف الناتج عن الجهل، فإذا ارتفع هذا الأخير "تنور العقل و زال الخوف و أصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، و عند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال."
و الحال أن ما انتهى إليه الكواكبي من تحليل يعكسه واقع حال بلداننا العربية، حتى و إن تعامل صاحب "الطبائع" مع هذه الظاهرة من موقف يكاد يكون محايدا و استنكف عن ذكر أسماء بعينها أو الإشارة إلى حاكم باسمه، يقول متخذا الحيطة و الحذر : " و أنا لا أقصد في مباحثي ظالما بعينه و لا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستعباد و ما يقضيه و يمضيه على ذويه..." قلت أن ما خلص إليه من تحليل نلفيه حاضرا داخل بلداننا العربية، إذ ظل العلماء و رجالات التنوير مطاردين منبوذين، لا يسمع لهم صوت إلا همسا و اختلاسا، و لا يخرج كتاب أو مقال بأقلامهم إلا و تتم مصادرته و يتم تشميع دار النشر المسؤولة. لهذا ظلوا في الغالب يرتحلون من مكان إلى مكان و يكتبون كتاباتهم غير ممهورة بأسمائهم، أو يلجؤون إلى استخدام أسماء مستعارة تموه عن هوياتهم الحقيقية فتبقيهم أحياء إلى حين، و هم مدركون أن مهمتهم تفوق مهمة الجنود في ساحات الوغى، فكلماتهم أقوى من طلقات الرصاص، إذا ما قدر لها أن تصل إلى العوام و تفعل فعلها فيهم صيَّرتهم قوة لا تصد و لا ترد لا يجد الحاكم معها سوى الفرار إن تأتى له ذلك أو الموت تحت الأقدام. و هذه النتائج هي التي تدفع المستبد إلى الخشية من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه، "لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، و خوفهم ناشئ عن جهل، و خوفه عن عجز حقيقي فيه، و خوفهم عن وهم التخاذل فقط، و خوفه على فقد حياته و سلطانه و خوفهم على لقيمات من النبات و على وطن يألفون غيره في أيام، و خوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، و خوفهم على حياة تعيسة فقط." و هذا الأمر لكي تدركه الرعية عليها أن تخرج من حالة الشعور بالنقص التي لازمتها بفعل التجهيل الطويل و من وضع الخصاء الفكري الذي جعلها تميل إلى العجز و الاستكانة و الاستسلام لواقع الحال. و لن يتم لها هذا الخروج إلا على يديها أولا بالإقبال على العلم و المداومة عليه، ثم على أيدي الفئات المثقفة المتنورة التي يلزمها إخراج الأفراد من حالة اليتم و القصور الذي تعيشه، لأنهم، كما يقول عنهم الراحل عابد الجابري "الذين يحملون آراء خاصة بهم حول الإنسان و المجتمع، و يقفون موقف الاحتجاج و التنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد و الجماعات من ظلم و عسف من طرف السلطات، أيا كانت، سياسية أو دينية."
خلاصة القول في ما أراد الكواكبي قوله حول العلاقة بين الاستبداد و العلم، أنها أبدا لم تكن علاقة ود و تآخي اللهم إلا إذا كان المقصود بالعلماء فئة المتملقين و الطامعين في لقيمات من موائد المستبد، أما غيرهم من العلماء الراشدين و المرشدين فإنهم يظلون في شد و جذب مع الطغمة الحاكمة المستبدة، و السبب كما قلنا عاليه تباعد الأهداف و تناقضها، و هي أهداف في المجمل تتمحور حول الرعية، التي هي من جهة قوة المستبد و سنده مادامت في حالة جهل يورثها الخوف المستديم الذي لا تقوى منه فكاكا بمفردها، و هي من جهة أخرى اليد التي تبطش بالمستبد و تسقطه من عليائه إذا استحكم منها علم العلماء و تخلصت من خوفها و كسرت قيودها.
ربما لا نحتاج إلى تأكيد انه ما من مجتمع تقدم و بلغ شأوا كبيرا في مختلف المجالات و تبوأ مكانة جليلة بين الدول إلا و كان للعلماء و رجالات الفكر فيه حظوة كبيرة و منزلة عظيمة بالنظر لجليل أعمالهم و دورهم الكبير في رفع ثوب الجهل و الغباوة عن الرعية و إلباسها ثوب العلم و تنوير عقولها، و بالمقابل ما من مجتمع أفلس أفراده و تقهقر وضعه و حلت به الفاقة و لبس ثوب الذل و الهوان بين الدول إلا و تجد أن الفئة المتنورة فيه قد لحقها العسف و شملها التضييق و طوردت في كل مكان حتى ينتهي بها الحال، في أحسن الأحوال، إلى بلدان أخرى تقدر قيمتها و تسعد بزادها. و الكواكبي مافتئ يذكِّر بهذا الجفاء في العلاقة بين العلماء و المستبد و الذي ينتهي بمطاردة العلماء و الفتك بهم، كما أسلفنا القول، مشددا على أن "السعيد منهم [ يقصد من فئة العلماء] من يتمكن من مهاجرة دياره" لأنه حين تضيق الأوطان بأصحابها لا يجد هؤلاء غير بلاد الغربة وطنا لهم يتنسمون داخله هواء الحرية من جديد و يقون أنفسهم و أبدانهم من التهلكة. و رغم أن صاحب الطبائع قد تمكن من الظفر بالنعمة الأولى خارج وطنه الأصل، أقصد نعمة الحرية، حيث تمكن من تدبيج كتابه هذا الموغل في التحرش بالمستبد و الكشف عن عوراته، فإن النعمة الثانية، نعمة حفظ النفس من الموت الذي يتربص بكل من تجرأ و رفع عقيرته بكل ما يسيء للحاكم المستبد، لم يتأت له الظفر بها لوقت طويل، إذ رغم هجرته الوطن، سوريا، و الإقامة بمصر التي لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني، طالته يد الاستبداد بعد أن دست له سما في فنجان القهوة، ليفارق الحياة بعدها في عام 1902م، و يكون موته صورة معبرة عن علاقة الاستبداد بالعلم التي لا يشفع فيها للعالم ادعاء الحياد في معالجته للاستبداد ما دامت صفة العالم لوحدها تهمة عقابها الموت في قاموس الاستبداد.