يقود الحس بالمسؤولية بالضرورة إلى الحس بمراقبة الذات والمحيط، كونه يعزز لدى الفرد الميل إلى الانتباه للذات والمحيط، والرغبة في مراقبتهما وإدراكهما قصد الرفع من قدراته على تفسير ما يحدث له وما يحدث في محيطه. ذلك أن سلوك الإنسان يتأثر بالكيفية التي يفسر بها الأحداث والوزن الذي يعطيه لهذه العوامل أو تلك، حيث أن هناك من يعطي وزنا أكثر للعوامل المرتبطة بالظروف أو بالحظ في تفسير ما يقع له، ولا يعترف لنفسه إلا ببعض السلطات على ذلك. في حين أن هناك من له ميل إلى تفسير ما يحدث له بعوامل ذاتية ويشعر أن له مسؤولية في ذلك.
إن من يفسر ما يحدث له بعوامل ذاتية ليس كمن يعزي كل شيء إلى عوامل خارجية. إذ أن من له حس بالمسؤولية اتجاه ما يقع له، تتقوى ثقته أكثر في فعالية قدراته الشخصية، ويزداد استعداده لمواجهة مخاوفه وأخطائه ومكامن ضعفه، من خلال استعمال موارده الذاتية والموارد المتوفرة في محيطه بشكل جيد وفعال. لذلك فإنه مؤهل أكثر للانخراط في فهم العالم الذي يعيش فيه والانخراط بحيوية في تحسين وتطوير الوضعيات التي يوجد عليها من خلال إنماء قدراته وإمكانياته. في حين أن من يرى أن كل ما يقع له ناتج عن الصدفة أو الحظ أو الظروف... أو من يفسر أن سبب ما يحدث له هو الآخر بناء على مقولة سارتر‹‹الآخر هو الجحيم››... أو من يرى أنه تابع لحتميات وإرادة خارجة عنه... أي أن كل من لا يدرك ويحس بمسؤوليته اتجاه النتائج التي تترتب عن أفعاله، سوف لا تكون له أي إرادة في تحسين وضعيته وتطوير إمكانياته، ولا يكون له أي استعداد للانخراط في بناء مصيره، لأن اعتقاداته تقوده إلى عكس ذلك أي إلى قصور ذاتي وإلى اللامبالاة والتراجع والاستقالة.
يعزز الحس بالمسؤولية عدة مواقف أهمها الميل إلى الانتباه للمحيط والرغبة في إدراكه وتقييمه... ثم النزوع إلى توقع واستباق نتائج الفعل الذي يقدم عليه الفرد... وكذا النزوع إلى التطلع إلى المستقبل وتوسيع طموحاته. وتعتبر هذه المواقف المحرك الرئيسي لإرادة الفرد وتعبئة إمكانياته لمواجهة المستقبل واختيار المصير الذي يريده لنفسه. ويبدو أن تنمية أو إهمال هذه المواقف يرتبط، في جزء هام منه على الأقل، بالتربية القائمة في البيت وفي المدرسة.
توجد دون شك فوارق متباينة بين الأطفال فيما يتعلق بالميل إلى الانتباه إلى المحيط. وترتبط هذه الفوارق بإدراكات الأطفال وتقييماتهم لهذا المحيط، حيث أن من يعتبره قابلا للتغيير ليس كمن يعتبره ثابتا ولا يمكن تغييره. ويبدو أن الانتماء السوسيو ثقافي للأسرة يقف وراء هذا التباين، ذلك أن الأطفال المنحدرين من أوساط اجتماعية ميسورة يفترضون إمكانية الفعل في المحيط وتغييره من خلال الجهد. غير أن الأطفال الفقراء عكس ذلك لا يضعون هذه الفرضية نظرا لإشاعة القدرية في أوساطهم.
كما توجد فوارق في قدرات الأطفال على التوقع واستباق نتائج الفعل، وترتبط هذه الفوارق بالقيم التي تروج لها الأوساط الأسرية. إن القيم التي تثيرها وتتمسك بها غالبا الأوساط المستضعفة تشدد على الطاعة والخضوع والامتثال للمعايير السائدة، في حين تستند غالب الأوساط الراقية على القيم التي تؤكد على المبادرة الذاتية وعلى المحددات الفردية للطفل. ذلك أن الأسر التي تؤكد على الطاعة والخضوع للكبار، فإنها تثمن بذلك الأنشطة التي تدعم التبعية. وعكس ذلك فإن الأسر التي تحاول تنمية الفضول والفكر النقدي فإنها تثمن الأنشطة الذاتية للطفل. وندرك الدور المحرك الذي تلعبه الأنشطة الذاتية للطفل (بياجي) في تطوير بنياته الفكرية والرفع من استعداده وقدراته لإدراك ذاته ومحيطه وقدراته على التنبؤ بنتائج الفعل الذي يقوم به.
وعلى سبيل المثال فإن مراقبة بسيطة للأطفال المتعثرين تجعلنا نقف على الصعوبة التي يجدونها في استباق نتائج أفعالهم والصعوبة في اتخاذ قرارات تهم مصيرهم، كونهم لا يمتلكون حسا بمراقبة المحيط ولا يتبنون مواقف نشطة تعتقد في ضبط هذا المحيط وإمكانية تغييره، ولا يستطيعون، في مواجهة ذلك، سوى التهرب من المسؤولية والتمرد والعصيان ورفض الواقع والبحث باستمرار عن مساعدة من الآخرين أو إنقاذهم.
توجد أيضا فوارق تتعلق بطموحات الأطفال وتطلعاتهم، وترتبط أيضا هذه الفوارق بالانتماء السوسيوـ ثقافي للأسرة، حيث يمكن ملاحظة بسهولة أثار القدرية والحتمية الاجتماعية على تطلعات وطموحات الأطفال المنحدرين من الأوساط الاجتماعية المستضعفة. لقد أكدت كثير من الأبحاث أن مستويات الطموحات لدى الأطفال تقل عندما ينحدر المستوى السوسيوـ ثقافي للعائلة. ذلك أن هذا العامل الاجتماعي، الذي يثقل إرادة هؤلاء الأطفال، يقلص من طموحاتهم وبالتالي يحول دون الرفع من حظوظ استثمار واستعمال مواردهم وطاقاتهم.
هكذا يتبين أن الانتماء السوسيو- ثقافي للأطفال عامل من العوامل الوازنة التي تقف وراء هذا التفاوت في الحس بالمسؤولية والحس بمراقبة المحيط وإدراكه. كيف يمكن إذن تنمية هذه القدرات والمواقف في المدرسة والحد من آثار الانتماء السوسيوـ ثقافي للأطفال في أفق إقامة عدالة في تكافؤ الفرص؟
لا شك أن التقليص من الفوارق الاجتماعية لإقامة عدالة في تكافؤ الفرص وعدالة اجتماعية هو صلب العمل السياسي. غير أنه من المفروض أن تتدخل المدرسة أيضا لمحاربة هذا التفاوت في تنمية الموارد البشرية وإقامة دمقرطة حقيقية في تنمية كل القدرات والطاقات والتخفيف من آثار وثقل الانتماء السوسيو- ثقافي للأطفال، وذلك بالاشتغال على الجانب الإرادي على الأقل، أي جعل الطفل يتحرر من قيود تلك الحتمية، ويوسع من مجال اختياراته وطموحاته ويقوي إرادته في إمكانية تغيير وضعيته والتحكم فيها، وإمكانية الانفلات من آثار عالمه الاجتماعي والعائلي والشخصي المهزوم.
وعلى هذا الأساس ينبغي أن تقود المدرسة هؤلاء الأطفال إلى تبني مواقف تعتقد في إمكانية ربط علاقة جديدة بالمحيط، علاقة تنبني على ثقافة جديدة تجعل الفرد معنيا بما يحدث له وما يحدث في محيطه. وتجعله يعتقد في قدراته وإرادته في إمكانية ممارسة بعض التأثيرات على وضعيته الحالية والوضعية المستقبلية. إن الطفل يقوي ويجرب إرادته عندما يوضع في وضعية اختيار أو فعل، أو حل مشكلات أو التعبير عن رأي أو ممارسة حكم نقدي، أو عندما تتوفر له فرص إبراز خبرته وتعلماته، وفرص التفكير في ما سيؤول إليه محيطه والإمكانيات المستقبلية الممكنة. عندما يقوم بكل ذلك من مكانة المعني والمسؤول والفاعل يصبح مرشحا أكثر للحس بالمسؤولية، وتتولد لديه الرغبة في مراقبة المحيط والانتباه إليه والتفكير فيه، والرغبة في بذل الجهد والإقدام على التعلم واختبار إرادته والرهان على استثمار موارده الذاتية. هكذا ستتقوى قدراته على مراقبة ما يحدث له وما يحدث في محيطه، وترتفع قدراته على التوقع واستباق نتائج الفعل الذي يقدم عليه، كونها تمكنه من الأخذ في الاعتبار كل التبعات المستقبلية لأفعاله التي ستمكنه من الاحتماء في المستقبل والاستعداد لمواجهة إكراهات المآل والمصير.
ومجمل القول فإن الحس بالمسؤولية والحس بمراقبة المحيط تشكل مواقف تكاد تعتبر مركز قوة الذات، حيث سيمكنه ذلك من الوعي بالمهام المنوطة به واكتشاف ما هو مطلوب منه من جهد واستثمار لموارده وموارد محيطه. هذا يحتم أن تكون التربية على الحس بالمسؤولية محور وظيفة المدرسة، حيث ينبغي أن تمنح الفرد مكانة المعني الذي يتعلم من تلقاء ذاته ويتكيف ويختار ويتفاعل ويتصرف بمسؤولية، محفزا بالمتعة التي يجلبها من الإحساس بالقدرة على إنجاز نجاحات في ذلك. ونقول مع أراقيرس (Aragyris ) ‹‹ لكي يحس الفرد إحساسا حقيقيا بالنجاح يحتاج إلى شعور حقيقي بامتلاك القدرة على مراقبة ذاته ومحيطه ويدرك إدراكا حقيقيا أن الأهداف التي يتبعها شخصيا تكون لها أيضا أهمية في المؤسسة التعليمية، وعكس ذلك يمكن القول أن الفرد المسلوب الإرادة والتابع والمدفوع بقوى لا يتحكم فيها ولا يراقبها، والذي يدرك أن أنشطته الذاتية تكون مهمشة، لا يمكن أن يفلح بالإحساس بالنجاح السيكولوجي››.
cite par R. etienne et col "le projet personnel de l'èléve"HACHETTE 1992 P25