في الطبيعة ليس هناك من عقاب و لا ثواب، بل هناك نتائج
روبرت جي إنغرسول
إن مقولة "لا كرامة لنبي بين قومه" لم تأت من فراغ، فكل نبي يعتبر خارجا عن أعراف قومه، متمردا على عاداته الاجتماعية والدينية، ولا كرامة لخارج عن الأعراف، لا قيمة لم يقلب نظام القوم الروحي أو السياسي ـ وهما بتاريخهما متداخلين، قبل فصل الكنيسة عن الدولة. كل نبي يعتبر ملحدا بنظر قومه، طالما أنه يلحد/ينفي أسس الديانة بادعاءه لمبادئ أخرى، توحي بتنزيل ديانة أخرى من إله ـ هو غير مقبول بالغالب من السلطة القائمة. وهذا طبعا ينطبق على كل تفكير يخرج عن مألوف الحاضر الاجتماعي الروحي/السياسي، ذلك ما دفع إرنست همنغواي ليقول بأن كل المفكرين ملحدين، بمعنى أن التفكير هو عملية إلحاد بالموضوع الذي لم يعد بعد قابلا للتصديق من جهة المفكر ـ ونظرا لخطورة الموقف في بعض الحالات، بما يترتب عنه من تحريض ضد السلطة أو قلب النظام، تتم معاقبة المعني دركا للفوضى (كتبرير)، أو وسمه بالجنون كتبعيد مقصود له عن الناس، وعدم أخده بجدية. وهذا ينطبق كذلك على الشعراء العرب، كما في تأكيد أدونيس : "في تاريخ المسلمين لم يوجد شاعر واحد عظيم ومؤمن. أبداً"(عن El País). طالما أن الشعر تفكير خارج المألوف والسلطة، والدين/السلطة يحمي "المألوف" ضد كل تجاوز/تحرر فكري ينبثق من التساؤل، خاصة حول جوهرية الدين/السلطة.
إن إلحاد النبي/الشاعر/المفكر إنما ينبثق من إلحاد الإله، طالما أن الإنسان على صورة الإله، الشكلية وحتى النفسية ـ حسب المعاني الدينية. أفلا يتصرف النبي بما يأتيه من إلهه ؟ وينطق بما يوحيه إليه ؟
كل إله ملحد.. فقبل أن يعلن أي إله عن نفسه، فإنه ينفي الآلهة التي قبله. طبعا يُعرّف الإلحاد، بنفي الألوهية من مبادئ أي ديانة : بمعنى أن نصوصها وطقوسها تفقد علاقتها بماهية الإله، كأنسنة (نسبتها للإنسان بدل الإله). انطلاقا من ذلك يرتكز حضور أي إله كإله، على نفي الآلهة الأخرى، هذا ما تجلى في الأديان الإبراهيمية بأوضح صورها، طالما أن الإله نفى بقية الآلهة، كإعلان عن وحدانية ألوهيته، بما هي (ألوهيته) إلحاد بالآلهة المتواجدة نظريا.
إن الإشكالية تطرح نفسها وبقوة ـ يتم تعتيمها غالبا ـ حينما يجرم الإله إرادة الإلحاد في أتباعه، وهو طبعا يرتكز معتمدا على الإلحاد كتبرير لوجوده، فوجوده/ظهوره/تجليه تم عن طريقه إلحاده بالإله أو الآلهة الأخرى التي تجرم من جهتها إرادة الإلحاد : التي تبنّاها هذا الإله نفسه !
حتى النبي الذي يُعرّف بإلهه أو يتكلم عنه، يعتمد مبدأ الإلحاد بما هو متوفر من نصوص ومبادئ الديانة المتوفرة، فيلحد بالإله هذه الديانة، كشرط لإبراز إلهه، ثم يضع قانون تجريم كل من يتّبع ممارسته الفكرية المنطلقة من الإلحاد، على اعتبار أن الإلحاد جُرم : وكأن لا اعتبار لإلحاد يأتي بعد إلحاد النبي ـ هنا يتمظهر صراع الإلحاد، أي أن إلحادي يجب أن يتغلب على إلحادك ويحتويه، يقوم النبي بخوصصة الإلحاد في ديانته في رمز إله ملحد (بمن سبقه). يصبح إلحاد من يأتي بعد ذلك ممنوعا، لأنه سيبرز تغلبه على إلحاد النبي الذي أسس منطق الديانة وتجلي الإله، فهنا يجب أن يظل إلحاد النبي وإلهه أقوى من إلحاد الأتباع، فالإلحاد كقوة تهدم سابقاتها (من الممارسات الإلحادية) كتشكك وحذر وإعادة إنتاج لممارسات أخلاقية تلائم الواقع، تكسب المدافع عن هذا التغيير (كإلحاد بالمتوفر والقديم) الأولوية والتصدر، سواء من جانب اجتماعي أو اقتصادي، أو حتى روحي. بما يعنيه من تدمير لمؤسسة النبي، بالعودة لتدمير قاعدتها، بالعودة للإحاد بشكل أقوى، انطلاقا من القاعدة كتغيير/هدم للقاعدة الإلحادية السابقة للنبي.
تاريخ الإلحاد، لم يكن تاريخ نفي لألوهية العالم أو نفي الخطة البديلة التي تحرك مجريات التاريخ والنجوم. بل كان في مجمله تاريخ نفي الإله السابق أو بعض مبادئه، فالإلحاد هو تلك المسافة بين كل ديانتين، طبعا تاريخ الإلحاد الحديث هو الذي أبرز فكرة الإلحاد العمومية كنفي لألوهية العالم والتخطيط السماوي المدوّن (قبل الخلق)، هذا التاريخ الذي برز مع التطور الصناعي والتكنولوجي، أما الإلحاد كتاريخ، فهو المسافة فاصلة بين ديانتين، أو مدة الإنشاء/التأسيس بالنسبة للديانة الجديدة. خد مثلا المسافة بين الإسلام والمسيحية، لقد كان لزاما على الإسلام حتى يتأسس، أن يلحد بألوهية المسيح (الإنسان الذي يحتوي داخله الرب)، بما في ذلك إلحاده بآلهات المنطقة العربية التي ترسم أقدار الناس. تطلّب الأمر إلحادا لوضع أسس الديانة ومبادئها المستقاة من التراث التاريخي السابق ـ فلا وجود لديانة تأتي بأشياء من عندها، فالأمر هنا لا يخرج عن طفرات اجتماعية نصوصية تدفعها نزعات إلحادية/شكوكية نافية، تعيد هيكلة التراث وتصحيحه (من زوايتها/منظورها).
أفلم يتم اعتبار "أخناتون" بنظر الديانة الفرعونية ملحداً، حينما حاول نفي الآلهة الفرعونية وتجاوزها، حد تحنيط ابنه "توت عنخ أمون" لدى موته منتصب القضيب ـ احتجاجا على إلحاد أبيه بما يرمز له انتصاب القضيب من تأكيد للإله أوزوريس، كمقاومة ضد الأب بما هو ملحد/عدو نافٍ لسلطة الآلهة القائمة ؟!
الإلحاد ليس في الناس وليس في الإنسان، الإلحاد في الإله، الإلحاد ثقافة يعاد إنتاجها كصيرورة للتاريخ السياسي/الاجتماعي.. كل إيمان أسس إيمانه على الإلحاد، فمبارَكون هم من يدركون إلحادهم في ثقافتهم، في أنفسهم ـ بما أن الثقافة تشكل نفسية الأفراد. الإلحاد هو الدافع للتاريخ، عرفت ذلك أم لم تعرف، فإنه الذي حرك ثقافتك لتجعلك أنت كما أنت : مؤمنا بما تؤمن، ومكذبا لما تكذب.