صدر مؤخرا للدكتور حميد الصولبي، أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة القاضي عياض بمراكش، والمهتم بقضايا التحديث في الفكر المغربي خصوصا وقضايا الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي عموما، كتاب "الفقه والسياسة_نماذج من التفكير المنهجي في دراسة العلوم الإنسانية". والكتاب المطبوع في المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، في 2014 يقع في 197 صفحة من الحجم المتوسط، وهو عبارة عن دراسات سابقة شارك بها المؤلف في مناسبات علمية وأكاديمية داخل الجامعة المغربية وفي محيطها الثقافي والاجتماعي؛ قدمها في فصلين ومقدمة مسهبة - جاءت في ثلاثين صفحة - بين فيها المؤلف الخيط الناظم لمضامين الكتاب وهو قضية المنهج في العلوم الإنسانية، ليعرض الفصل الأول تحت عنوان: مقاربة في منهج القراءة دراسة في المشروع العلمي للدكتور سعيد بن سعيد العلوي، وقراءة في كتابي "المناظرة في أصول التشريع الإسلامي: دراسة في التناظر بين ابن حزم والباجي" للدكتور المصطفى الوضيفي، و"القول الجامع في تاريخ دمنات وما وقع فيها من الوقائع" للمؤرخ الحاج أحمد نجيب الدمناتي. أما الفصل الثاني، والذي جاء تحت عنوان: مقاربة في منهج دراسة المفاهيم، فخصصه المؤلف لمقاربة مفاهيم التحديث والاجتهاد والتجديد في الخطاب المقاصدي، وفي الخطاب الديني المعاصر.
إن الهم الأساسي في الكتاب هومشكلة الخطاب الديني في الإسلام من حيث هو خطاب منتج للمعرفة الدينية لكنه في الوقت نفسه لا ينفك عن الخطاب السياسي تأثيرا وتأثرا، ذلك أن المسلم المتعبد لله عز وجل والمتحرك في الدنيا سعيا لتحقيق مصالحه والتدافع مع الغير من أجل تحصيلها وحمايتها يريد من الفقيه أن يقول له قولا يبقي حركته هذه داخل شرعية الإسلام حتى لا يخرج عن دائرة العبودية لله عز وجل الذي إليه المعاد دون أن يفيت عليه هذا القول مصالحه الحيوية في المعاش. وكل خطاب مرتبط بالمصالح هو خطاب سياسي بامتياز، ولذلك فعندما يتحدث الفقيه عن الشريعة التي إنما جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد فإنه ينتج خطابا في الفقه كما ينتج خطابا في السياسة. لكن كيف لنا أن نتعامل مع خطاب سياسي مرتبط بالمصالح والمفاسد المتحولة والمتغيرة والمتجددة حسب تحول الواقع وتغيره وتجدده، والمتنوعة بتنوع فئات المجتمع وطبقاته وطوائفه وأحزابه، لكنه خطاب مرتبط في الوقت نفسه بثوابت الدين وقيمه وأخلاقه؟
من وجهة نظر المؤلف الجواب على هذا السؤال الإشكالي مرتبط بالجواب على سؤال المنهج في العلوم الإنسانية، أي تحديد طبيعة "الرؤية المنهجية للعمل النظري في العلوم الإنسانية"[i]، فالمنهج هنا بمعناه الفلسفي الذي يرسم الخط النظري للباحث لا بمعناه التقني من حيث هوخطوات وأدوات وإجراءات البحث والتحليل.
ويرى د.حميد الصولبي أن الوظيفة الأساسية للمنهج في العلوم الإنسانية هي ارتياد آفاق المستقبل بعد فهم الواقع واستيعابه، ولهذا فإن الاجتهاد المؤسسة قواعده على مبادئ الشرع الحكيم "لابد أن يمتلك القدرة النظرية والعملية التي تمكنه من حسن استيعاب الواقع بمصالحه المتجددة"[ii]. فحدود أي منهج في العلوم الإنسانية هي قدرته على الإبداع والتجديد؛ فعلى قدر اقترابه من الواقع المجتمعي، أي من حياة الناس ومصالحهم الضرورية والحاجية، وقدرته على اجتراح الحلول المبتكرة لمشاكل العصر وتحدياته، على قدر ما يحوز من الشرعية ويتصف بالموضوعية بما في ذلك مناهج البحث في العلوم الشرعية، "فمقاصد أسرار الشريعة ومقاصد أسرار الحياة متكاملتان، وفي الوعي بإدراك دورهما ننجح في الحفاظ على حقيقة الإنسان الذي أراده الله تعالى أن يكون في جميع أطواره مستخلفا ومكرما"[iii]. وليتصف منهج ما بالشرعية والموضوعية يضع المؤلف شروطا، هي:
1. النسبية:
أي الابتعاد عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة والتمترس خلف نظرة وثوقية جامدة ومتصلبة. فالمقدمة النظرية التي ينبغي أن ينطلق منها الباحث في العلوم الإنسانية هي أن "المعرفة في العلوم الإنسانية، على مختلف مجالاتها ومصادرها، هي معرفة نسبية"[iv] وأن "النهاية التي يمكن أن يؤول إليها كل اجتهاد هي نهاية نسبية"[v]. إن هذه المقدمة تضمن لنا استقرار المجتمع على أساس قبول تعددية الآراء واختلاف الاجتهادات وتنوعها، وتقينا شر القلاقل والفتن الناجمة عن النظرة الأحادية الإقصائية الرافضة للآخر التي تقضي على روح التوافق والوئام داخل المجتمع وتفتح الباب على مصراعيه أمام الصراعات والإحن. فالفقيه عندما يُنظر لمصالح المجتمع انطلاقا من رؤيته الخاصة لمقاصد الشريعة الإسلامية عليه ألا يصبغ اجتهاده بصبغة القداسة ويدعي امتلاك الحق المطلق، وعليه أن يقر بنسبية اجتهاده تبعا لنسبية المصالح التي يسعى لتحصيلها أوالمفاسد التي يسعى لدرئها.
إن من حق الفقيه أن يتكلم في مصالح الناس، أي في السياسة، بل من الواجب عليه ذلك وإلا فقد الإسلام صفة الشمولية لجميع مناحي الحياة، لكن عليه وهو يقوم بذلك "الاعتراف بالنسبية في تمثيل الإسلام سياسيا"[vi]، أي الاعتراف بنسبية التفسير الشرعي للممكن السياسي، وأن يميز بين تخليق السياسة عندما نمارسها انطلاقا من القيم الدينية الإسلامية وبين الحكم عليها بالقدسية، "هذا هو التمييز الإجرائي الذي لابد من الانتباه إليه حتى لا يسقط المجتهد في تفسير أعمال سياسية معينة بأنها أعمال دينية فيجره ذلك، من حيث لايشعر، إلى القول بشرعية الاستبداد"[vii].
إن القول بالنسبية في مناهج العلوم الإنسانية يعني - بالإضافة إلى استقرار المجتمع والدولة على أساس التعددية والاختلاف وقبول الرأي الآخر كقواعد أساسية من قواعد تدبير حرية الفكر والرأي والتعبير والتداول - مسايرة التطور تبعا للواقع المتغير والمصالح المتبدلة، فاستخدم نفس المنهج والحكم له بالصلاحية الأبدية يعني الحصول على نفس النتائج، الشيء الذي يعني العقم والجمود وتوقف حركة الحياة. إن تجديد المنهج شرطُ وضرورةُ جدلية الفكر والواقع، والنظر والتطبيق، والمعرفة والسياسة. ولهذا فإن الاجتهاد ينبغي أن يكون تعبيرا دائما عن وجهة نظر قابلة للتجديد باستمرار[viii]، وإنما تتحقق إمكانية ذلك في القول بنسبية المناهج والاجتهادات لابادعاء امتلاك القول الفصل والحق الثابت المطلق.
2. النظرة الشمولية:
وهي هنا الشمولية المعرفية وليست الشمولية الإيديولوجية التي تدعي امتلاك المبدأ السحري لتفسير الكون والتاريخ والمجتمع والإنسان، والتي تؤسس للأنظمة الشمولية الكليانية المنغلقة في الحكم والسياسة. فالنظرة الإيديولوجية رغم ادعائها الشمولية هي نظرة متحيزة لأنها لا يمكن أن تشمل مصلحة المجتمع بكل أطيافه لأنها باعتقادها امتلاك التفسير "العلمي" الوحيد لا تفسح المجال أمام الآخر ولاتعترف بحقه في ممارسة الاجتهاد بناء على منهج مخالف. في حين أن الشمولية المعرفية "تمتلك قوة الطرح الشمولي لقضايا الناس"[ix] بعيدا عن التمييز الإيديولوجي فتكون بذلك أقرب للموضوعية لأنها تخدم مصالح المجتمع لا مصلحة الحزب أوالطبقة أوالطائفة أوالفئة.
انطلاقا من هذا المنظور فإن النظرة الشمولية شرط في نسبية الدراسة المعرفية في العلوم الإنسانية، فـ"الحق في مناقشة الأفكار وانتقادها هو حق لن يكون مشروعا إلا إذا كان مبنيا على شرطه وهو المعرفة المسبقة بالموضوع المدروس". فالإلمام بوجهات النظر المختلفة حول الموضوع المدروس يؤسس لمعرفة مشتركة تعطي إمكانية الحوار والتلاقح في الأفكار وإجراء المقارنات اللازمة من أجل التقويم والتصويب.
إن الحد الأدنى من الإحاطة بالموضوع المدروس، والتحرر من إصر النظرة الإيديولوجية، والالتزام الأخلاقي بمصالح المجتمع ككل هوالذي يعطي العالِم إمكانية النظرة الشمولية.
3. الاستقلالية:
يرى المؤلف أن الاستقلالية خاصية فطرية فريدة من خصائص الفكر الإنساني وأنها التعبير الأوسع عن الحرية الفكرية، ولذلك لا ينبغي التحجير على الباحثين في العلوم الإنسانية في مسالة الاختيارات المنهجية بدعوى "العلمية" ولافرض الوصاية الإيديولوجية عليهم. فالاختيارات المنهجية عملية مرنة مرونة الواقع المتغير وليست اختيارات جامدة لاتتبدل ولاتتغير.
والاستقلالية الفكرية لابد أن تكون مبنية على الحرية المسؤولة التي تحترم المجتمع وواقعه ومصالحه، فـ"لانقصد بالاستقلالية الفكرية هنا (يقول المؤلف) التعالي على الناس أوالإضرار بحقوقهم وباستقرار النظم المجتمعية التي يعيشون عليها، كما لانقصد بتلك الحرية الخروج على جماعة المجتمع في هويته وسيادته ودينه، أوتجاوز بلاتقدير ولاحساب لرموزه"[x].
4. الرؤية النقدية:
وهي مطلوبة سواء مع الذات أومع الآخر. وهي تعني نبذ التقليد لأنه استقالة بليدة بين يدي الآخرين لا تمت بصلة إلى فاعلية الفكر المستقل الذي لا يتلعثم أمام الواقع وخوض تجربة الغوص فيه وإدراك تفاصيله وجزئياته، وتجربة أخذ المسافة اللازمة منه للتنظير لنظام مصالحه وآفاق تطوره وترقيه.
إن الرؤية النقدية تمنعنا من التلقي بالتسليم كل ما أنتجه علمائنا السابقون والوقوف عند حصيلة اجتهاداتهم لزمانهم نستنطقها لتجيب عن أسئلة زماننا فاقدين الثقة في أنفسنا عاجزين عن خوض تجربة الاجتهاد كما خاضها من قبلنا. كما تمنعنا من تلقف ما تنتجه الحضارات المعاصرة من مناهج هي وليدة بيئة وقيم مغايرة لبيئتنا وقيمنا دون أن نطرح عليها أسئلة النقد لكشف ما فيها من الزيف مكتشفين في الوقت نفسه من خلال المقارنة والحجاج ما معنا من المزايا والخصوصيات الحضارية والفكرية والدينية دون أن يمنعنا ذلك من "استعارة المناهج من القيم الحضارية للآخر إذا كان الهدف هو الاستعانة بها في عملية تقوية تجاربنا في محاولة قراءة مشاكلنا وأوضاعنا وتاريخنا"[xi]، فدعوى الخصوصية لاينبغي أن تكون مبررا للانغلاق على الذات وعدم الانفتاح على التجارب الإنسانية ما دمنا مسلحين بالرؤية النقدية، وما دمنا نخوض تجاربنا في الاجتهاد والتجديد، وفي الإصلاح والتحديث بفكر حر ومستقل لامقلد وتابع.
5. الروح العلمية:
وهي الاتصاف بالأمانة العلمية، والتزام المسؤولية الأخلاقية في الوقوف بجانب الحق ومناصرته، والانحياز للمبادئ والقيم الإنسانية. فـ"أن يكون العالم موضوعيا معناه أن يتحرى الحق في أبحاثه، الحق الذي يخدم مصالح المجتمع الذي يعيش فيه، بل في المجتمعات التي يباشر التعامل معها"[xii]؛ وهذا يفرض على الباحث أن يسلك مسلك الوضوح في الإعلان عن نتائج أبحاثه قياما بواجب الالتزام تجاه مجتمعه ووطنه لا أن يسلك مسلك التبرير دفاعا عن مصالحه الشخصية أوالحزبية أوالفئوية الضيقة.
6. على سبيل الختام:
على ضوء هذه الشروط/المبادئ الخمسة التي جاءت مبثوثة في ثنايا مقدمة الكتاب عرض المؤلف عبر فصوله مقاربته لمجموعة من التجارب في تراثنا الإسلامي في إنتاج المعرفة الفقهية والسياسية، وتقعيد المناهج المنتجة لهذه المعرفة، كما عرض لتجارب التحديث والإصلاح في المغرب المعاصر في علاقتها بالتراث الإسلامي واستلهام مناهجه وعلاقتها بالمناهج الوافدة من الغرب المتفوق حضاريا، كل هذا من خلال محاورته لمشاريع علمية وأكاديمية خاض أصحابها تجربة قراءة التراث الإسلامي وتفسيره، و قراءة تجربة الإصلاح والتحديث في المغرب المعاصر. كما قام المؤلف نفسه بتجربة هذه القراءة من خلال مقاربة مفاهيم الاجتهاد والتجديد في الخطاب الأصولي المقاصدي، وفي الخطاب الديني المعاصر وهو ما أترك للقارئ الكريم تجربة اكتشافه من خلال قراءته الخاصة للكتاب.
[i] - الفقه والسياسة_نماذج من التفكير المنهجي في دراسة العلوم الإنسانية – د.حميد الصولبي (ص:7)/المطبعة والوراقة الوطنية – مراكش، الطبعة الأولى 2014.
[ii] - نفسه (ص:172).
[iii] - نفسه (ص: 170-171).
[iv] - نفسه (ص:7).
[v] - نفسه (ص:8).
[vi] - نفسه (ص: 174).
[vii] - نفسه (ص: 174).
[viii] - انظر الصفحة 190 من المرجع نفسه.
[ix] - الفقه والسياسة – د.حميد الصولبي (ص:27).
[x] - نفسه (ص: 16).
[xi] - نفسه (ص: 32).
[xii] - نفسه (ص: 20).