"الفاشية ظاهرة عابرة للحدود الوطنية، ولفظ استعمل أولا لوصف الديكتاتورية الموسولينية، ثم اتسع خلال فترة ما بين الحربين ليشمل أنظمة أخرى، وحركات قومية ومعادية للديمقراطية..تبلور ضروبًا من الرفض: فهي نزعة مضادة لليبرالية، وللبرلمانية، وللرأسمالية، وللماركسية".
(قاموس البحر الأبيض المتوسط،2021)تخصص الباحثة هذا الفصل من أطروحتها التاريخية للبحث في مآلات اليهود المغاربة حسب الخيارات المتاحة أمامهم فترة ما بين الحربين، وتداعيات أحداثها على المغرب.
وهي فترة تعددت وقائعها الكبرى سواء داخل المغرب، أو في محيطه الإقليمي المتوسطي، وعبر العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت أبرز عناوينها الأساسية :- صعود الجبهة الاشتراكية للحكم في فرنسا سنة 1936، الدولة المستعمِرة للمغرب وبلدان الجوار بالشمال الإفريقي، وتولّي "ليون بلوم" رئاسة الجمهورية، وهو الشخصية السياسية التي يُنظر إليها بصفته أول مرشح يهودي اشتراكي يأخذ مقاليد الحكم في فرنسا (ص59).
- سياسة الإدارة الاستعمارية منذ 1930 التي كانت سببا في شرارة أول حركة وطنية جماهيرية كبرى في المغرب، وعاملا مساهما في صعود قضية الهوية الوطنية المغربية، والانتماء الوطني، في مواجهتها لمنطق الإقامة العامة الذي انتصر لمبدأ "المواطنة اللاتينية"(ص81) الذي يسعى للفصل بين مكونات الأمة المغربية بناء على اعتبارات إثنية ولسنية- ثقافية تحت ذريعة إصلاح القضاء وهياكله.
- انعكاسات الأزمة الاقتصادية 1929، التي هزت أركان العالم الرأسمالي والمستعمرات المرتبطة بمحور الامبريالية، على أوربا وبلدان الضفة الجنوبية من المتوسط (المغرب-الجزائر-تونس-الشرق الأوسط..) وتبعاتها في تفاقم النشاط العمالي والجماهيري المناهض للفاشية(ص104) ثم دور حرب الريف1920-1927 في تسييس المغاربة وانخراطهم في دعم سياسات التحرير الوطنية الراديكالية (ص67)ونضالاتها القومية .
- انتقال الدعاية الفاشية والنازية خارج مواطن نشأتها الأولى، وتزايد خطر الدعاية الألمانية المتفشية في بلدان المغارب(ص82) وتطور المنظمات اليسارية والشيوعية التي شكلت الملجأ لليهود المغاربة لحماية وجودهم ضد معاداة السامية، وتأمين حقوقهم في الانتماء للوطن، خاصة مع تأسيس فروع محلية لتلك المنظمات بالمغرب (الاتحاد المغربي لليهود والمسلمين-تنظيم "لِيكا" اليساري-المنظمة العمالية العالمية- لجنة مناهضة الفاشية بالمغرب منذ1935- فرع الحزب الشيوعي الفرنسي بالمغرب منذ1،1934،وهو تاريخ انضمام ليون سلطان بعد أن وصل إلى الدار البيضاء سنة1929 قادما إليها من قسنطينة بجنسية فرنسية) ودور الطلبة المغاربة في باريس لمواجهة الدعاية النازية ودعم الحركة الوطنية المغربية، متأثرين في ذلك بالتحولات الجارية في المشرق العربي(الانتداب –الحركة الوطنية بالشام، العراق ومصر..) وبالأفكار المناهضة للفاشية التي كانت تذيعها الصحف اليسارية(صحيفة "ماروك سوسياليست"1934-جريدة "لومانيتي"..) .
تفحص المؤرخة ألما راشيل هيكمان تلك القضايا بتفصيل دقيق، وبحث في الجزئيات، بل وتعرض بشأن بعضها معطيات ومصادر جديدة تتعلق بتعقيدات الحياة السياسية المغربية، سواء بالنسبة للمسلمين أو المغاربة اليهود، مرحلة الثلاثينات، والتي غالبا ما يُساء فهمها بفعل محدودية الاهتمام العلمي الكافي والمقنع بها وبسنوات ما بين الحربين عموما، هو ما جعل المغرب يصير وكأنه مجرد غرفة انتظار للأحداث الدرامية للحرب(ص62) .
وإذا كانت الرواية التاريخية التي تقدمها المؤرخة حول المسارات السياسية لسنوات ما بين الحربين بالنسبة لليهود المغاربة، والتأرجح ما بين الولاء لدولة الحماية(فرنسا) ومشروعها الاستعماري، ثم الانتساب للمنظمات اليسارية والشيوعية، وتأييد الصهيونية، فإنها تبحث في ترابطات الأحداث التاريخية وتعقيدها على مجال جغرافي واسع يشمل أوربا الوسطى والغربية، والمشرق العربي (فلسطين تحت الانتداب) وبلدان الشمال الإفريقي، لترصد التيارات التي حكمت خيارات اليهود المغاربة، وقد كانت تيارات متداخلة ممثلة في تيار الرابطة التي تأسست في باريس سنة 1860 وأنشأت لها مجموعة من المدارس تمتد من المغرب إلى إيران بهدف تثقيف اليهود (الولاء لفرنسا ) وتيار الصهيونية ووعود حركتها(دعم الوطن لليهود دون التشجيع على الهجرة أو مغادرة المغرب موقف اشتهرت به صحيفة "لافونير إلُّوسْتري") ومنظماتها (يعود ظهور أول جمعية صهيونية بالمغرب إلى بداية القرن العشرين بمدن مثل الصويرة وتطوان) ثم تيار الجبهة الشعبية، ومعها فرع "ليكا"(شيوعية وحقوق الإنسان ومناهضة للفاشية) التي كان مقرها في باريس، وانتشر تأثيرها في كافة أنحاء شمال إفريقيا منذ 1934، اشتهرت بالدعوة للتضامن اليهودي-الاسلامي ومواجهة الفاشية وتهديدها، بتزامن مع ثورة الثلاثينات بفلسطين، وقد كان لتلك الجماعة دور في تأسيس للحزب الشيوعي، بينما يعود تاريخ تأسيس أو فرع لها بالمغرب إلى حدود 1935 بمدينة وجدة، وذاعت أفكارها بفضل المحاضرات التي كان يقدمها "بيرنار لوكاش" داخل دور السينما التي غالبا ما تكون في ملكية اليهود، بالمدن المغربية الرئيسية مثل فاس، مكناس، الرباط والدار البيضاء، يحضرها المغاربة المسلمون كما المغاربة اليهود(ص100).
كشفت المؤرخة على أنه من بين العوامل التي دفعت اليهود المغاربة نحو العمل السياسي، والانتماء لليسار ومنظماته الراديكالية، أحداث ما بعد الحرب الأولى، وانتهاك حقوق الأهالي بالمستعمرات، والثورة البولشفية1917،وحرب الريف، ثم أزمة 1929 وثورات القدس (1929-1930) والصعود المأساوي للفاشية والنازية(ص80) بالإضافة إلى دور السياسة الفرنسية منذ 1930 التي كانت لصالح المغاربة في صناعة وحدة الموقف الوطني بتأييد من زعماء القومية العربية والجامعة الإسلامية . تعتبر المؤرخة أن الفضل في انطلاق الحركة ضد ما عرف "بالظهير البربري" يعود إلى شكيب أرسلان/ص83 وهو الذي كان من جهة ثانية على اتصال بألمانيا النازية وضباطها، بل سافر إلى العاصمتين روما وبرلين على نفقة الفاشيين/ص95.
حالة الارتباك في الاختيارات، والتأرجح فيما بين التيارات، وخاصية المرونة الإيديولوجية طبعت سنوات الثلاثينات وتجلت في مقالات الجرائد والصحف ،وفي التقارب الذي ظهر فيما بين الوطنيين المغاربة(محمد الفاسي-محمد بلحسن الوزاني..) والاشتراكيين والشيوعيين داخل المغرب(الحزب الشيوعي –فرع ليكا- جماعة أصدقاء الاتحاد السوفياتي)وفي الجزائر(مصالي الحاج) وبأوربا(فرنسا-إسبانيا) وفي الموقف من أحداث سياسية حملت التهديد للمكونات المختلفة منها تولي ادولف هتلر السلطة وانتشار معاداة السامية والتخوف من توترات ومواجهات ما بين المسلمين واليهود بقسنطينة شهر غشت1934، خاصة وأن الحدود ما بين المغرب والجزائر سهلة "شفافة وسهلة الاختراق"، وهي نفسها العامل الحاسم في اختيار اليهود المغاربة للعمل من داخل المنظمات اليسارية المعادية للفاشية، والمدافعة عن الحقوق الأساسية لليهود داخل ألمانيا وفي باقي المناطق التي تتعرض لخطر الدعاية الفاشية.
امتد تداخل تلك الاختيارات ليؤثر على مواقف الوطنيين المغاربة، وأنصار الجامعة الإسلامية(شكيب أرسلان) واليهود المغاربة، ونشأ عنه نوع من "المرونة الإيديولوجية" لدى اليهود المغاربة (تعطي المؤرخة المثال عنها بتجربة ليون سلطان روني) الذين كان عليهم الاختيار ما بين مفاهيم المواطنة والتحرر كما تبنتهما الرابطة اليهودية العالمية، والصهيونية الدينية والعلمانية، ثم حركية النضال السياسي اليساري(ص70) وإن كانت غالبية الطائفة اليهودية تعبر عن تخوفها من الدخول في مجال العمل السياسي الذي ترى فيه سببا في فقدان المزايا التي يتمتع بها أفرادها وعلاقتهم بالإدارة (الإقامة العامة) وبالمخزن (سلطة نظرية).
فضلا عن ذلك، تعرج المؤرخة في منحى بحثها الاستوغرافي عن مواقف المغاربة اليهود مرحلة ما بين الحربين، عبر انعكاس العوامل الاقتصادية وخاصة الأزمة العالمية 1929 ودورها في إذكاء التحريض السياسي من داخل المنظمات السياسية والعمالية ذات الاتجاه اليساري الاشتراكي والشيوعي.
فقد تضافرت عوامل الطبيعة(الجفاف) والاقتصاد(أزمة1929) والسياسة(الدعاية الفاشية والإدارة الاستعمارية) لتزيد من درجات الحنق الاجتماعي وسط اليد العاملة الزراعية والصناعية، وظهرت في الدار البيضاء، وقد صارت مدينة مستقطبة لآلاف المهاجرين من البادية المغربية، ومثلهم من الوافدين من الأوربيين والمعمرين(عدد الأوربيين بالمغرب سنة1930 حسب المؤرخة بلغ 104.700 أوربي في ساكنة مغربية تقارب6مليون نسمة) وموطنا لإقامة بنية تحتية استعمارية متنامية، نواةٌ صاعدة للطبقة العمالية المغربية احتكت بالعمال الأوربيين ومكتسباتهم السياسية والإيديولوجية، وكذا بأشكال تنظيمهم النقابي (أول منظمة عمالية تأسست في المغرب كانت هي الجمعية العامة سنة1919).
أصبح العمال المغاربة والحرفيون والعاطلون تحت تأثير التّسييس رغم محاولات الإقامة العامة (تيودور ستيغ) التخفيف من حدتها، والحفاظ على ولاء المغاربة اليهود لدولة فرنسا(ص78) وفرض التضييق على المظاهرات اليسارية التي وجدت في مدن وأحياء الصفيح وتجمعات الوحدات الصناعية (كاريان سنترال-روش نوار- بن مسيك) البيئة، والظروف المناسبة للاستقطاب، والتأطير، هو ما ستعززه الحركة الوطنية المغربية لَمّا رفعت وثيقة المطالب 1934 مشجعةً على بناء أمة مغربية موحّدة بالمساواة ما بين كل مكوناتها.
وبقدر ما كانت درجة معاداة السامية ترتفع، وتهديد الفاشية (ساد إيطاليا-ألمانيا-إسبانيا) يزداد، كانت وتيرة التسييس في صفوف اليهود المغاربة تنمو وتتسع، رغم تحفظ غالبية اليهود من العمل السياسي، وإن ظلت الاختيارات مضطربة ومتداخلة.
انتقل الحزب الشيوعي المغربي إلى مرحلة الأنشطة العلنية، وحقق التقارب، ، مع اليساريين الأوربيين- ولو أن علاقاته كان يكتنفها الغموض- بفضل دور قياداته، ومنهم ليون سلطان روني، كما ازداد إقدام اليهود على بيع الصحف اليسارية، هو ما جعلهم عرضة لاتهامات اليمين الأوربي بالمؤامرة اليهودية-البلشفية، ومحاولاته إقناع المغاربة والمسلمين عموما بالخطر اليهودي الشيوعي، والدفع في اتجاه تغذية السلوك العدائي والكراهية نحو القيادات اليهودية في الحزب الشيوعي وفرع "ليكا"، ودعوة الطائفة اليهودية للابتعاد عن القضايا السياسية، ثم التنديد باستخدام أماكن العبادة للاستقطاب ضد مصالح دولة الحماية(ص120)
سنة 1937 بلغ عدد المنخرطين في الحزب الشيوعي المغربي 800 عضو، معظمهم من قاطني المراكز الصناعية، وتضاعفت حدة المظاهرات والاضرابات العمالية في المواقع المنجمية(خريبكة) والاشتباكات العنيفة ضد المعمرين وسياستهم (أحداث بوفكران) وعمّ التسييس المغاربة المسلمين واليهود على السواء، وأصبحت جريدة "الأمل" سنة 1938 لسان حال الحزب الشيوعي بالمغرب(ص117) ومع حلول سنة 1939 بدأت تقارير الإدارة الاستعمارية تشير إلى وجود عدد قياسي من المغاربة اليهود داخل الأجهزة التنظيمية المركزية للهيئات اليسارية، كما دخلت النساء المسلمات واليهوديات تحت لواء اللجنة العالمية للنساء المناهضات للحرب والفاشية في مختلف المدن المغربية الكبرى(ص125) مؤيدة بذلك مواقف الجبهة الشعبية وطموحات الأممية الاشتراكية، وتعززت جبهة العمل السياسي للمنظمات اليسارية لمواجهة الفاشية ومعاداة الامبريالية، قبل أن ينتقل الحزب الشيوعي المغربي إلى وضع الحزب المغربي الصّرف(ص129) بقيادة ليون روني سلطان، ومعه اليهود المغاربة الذين عملوا إلى جانب باقي المغاربة لأجل مغرب مستقل، وستدشن مرحلة الحرب العالمية الثانية، وتداعياتها، فترة جديدة أمام المغاربة اليهود مخاضاتُها كانت اختبارا عسيرا(ص129) بفرص واحتمالات جديدة.
19يوليوز2023- أنفاس.