كتاب من تأليف المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 1990، وهو بمنزلة تأليف لمجموعة من الدراسات والأبحاث السابقة، التي تناولت جملة من القضايا الإشكالية المتشابكة في جوهرها، المتصلة بالفكر العربي ومدى قدرته على الصمود في وجه المتغيرات والرهانات المستقبلية التي تواجهه.
أولا: الفكر العربي بين التراث والحداثة
يذهب الكاتب إلى أن إشكالية "الأصالة والمعاصرة" لا يجدر بنا مقاربتها كمسألة اختيار أو مفاضلة بين نموذجين حضاريين (تراثنا الثقافي / الحضارة الغربية المعاصرة)، لأن النموذج الغربي قد فرض نفسه كأمر واقع، من خلال عملية تحديث شُرع في تطبيقها منذ الحقبة الكولونيالية دون تبيئة شروطها الداخلية، وذلك بالموازاة مع استمرار سطوة بعض البنى التقليدية الموروثة، الأمر الذي أفضى إلى ازدواجية سافرة في شتى المجالات (العمران، الاقتصاد، الإدارة، الثقافة... إلخ)، فضلا عن أنماط الوعي والتفكير.
كما أن تلك الإشكالية (= الأصالة والمعاصرة) ليست امتدادا للصراع الطبقي داخل المجتمعات العربية، في تقدير الكاتب، بحيث يفند الأخير الطرح القائل إن دعاة الحداثة يدافعون عن مصالح الطبقة البرجوازية، فيما ينزع الأصاليون إلى الذود عن الطبقة الإقطاعية التقليدية، فذلك الطرح – عنده – لا يتلاءم ومعطيات الواقع العربي. وبالمقابل يشدد الجابري على الطابع الثقافي الفكري المحض لتلك الإشكالية، باعتبارها تجسم الهوة التي يشعر بها المثقف العربي بين ثقافة ماضيه وتراثه من جهة، وثقافة الحضارة الغربية المعاصرة من جهة ثانية.
وهكذا فإن تلك الإشكالية المطروحة على الوعي العربي لا نجد ما يقابلها عند الأوروبيين، ولعل ذلك يعزى إلى أن الفكر الأوروبي يتعاطى مع التراث تعاطيا خلاقا وبناء، فالتراث عندهم يستوعب الماضي والحاضر في آن من دون أن يقيم بينهما تناقضا، إذ ينظر الأوروبيون إلى تاريخهم كصيرورة متصلة الحلقات، السابق فيها يؤسس للاحق، وبالتالي فإن التراث وفق هذا التصور يعد منطلقا للتجديد والمضي نحو المستقبل، الشيء الذي يملي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي متوسلين بروح نقدية وعقلانية، على نحو يؤسس للحاضر ويفتح أبواب المستقبل.
ثانيا: خلفيات أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر
تطرق صاحب الكتاب إلى أزمة الإبداع التي يعانيها الفكر العربي، الراجعة إلى جملة من العوامل وفي مقدمتها ما يدعوه ب "النموذج السلف"، الذي يحكم تفكير المثقف العربي مهما تنوعت منازعه الأيديولوجية (سلفي، ماركسي، ليبرالي... إلخ)، بحيث لا يجرؤ على التفكير من خارج قالبه. وعليه فإن المفاهيم التي يتوسلها الخطاب العربي المعاصر مستمدة إما من الماضي العربي الإسلامي الممجد، أو من الحضارة الغربية الحديثة، مما يؤدي إلى انقطاع الصلة بين الفكر والواقع العربي القائم بمشاكله وظواهره المعقدة، التي تستلزم تفكيرا نقديا واقعيا يقطع مع المسبقات والتفكير التجريدي.
هذا بالإضافة إلى العامل المتمثل في انتصار النظام المعرفي "العرفاني" في الثقافة العربية، القائم على التصوف وما يشوبه من معتقدات لاعقلانية سرعان ما وجدت طريقها إلى عامة الناس حيث الأمية متفشية، في مقابل اندحار النظامين المعرفيين البياني والبرهاني المستند إلى الفلسفة اليونانية، منذ عصر الانحطاط الذي أعقب العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. وصولا إلى عامل خضوع الفكر العربي لتأثير السياسة بمصالحها وهواجس مشروعيتها، فارتبط مصيره مدا وجزرا بمصيرها. ومن هنا، يقترح الكاتب بعض المداخل القمينة بتجاوز الاستعصاء الجاثم على الفكر العربي، من قبيل تعميم المعرفة باللغات الأجنبية من حيث هي مفتاح الولوج إلى حضارة العصر بعلومها وتقانتها وفكرها، فضلا عن نشر المعرفة العلمية لا بمنتجاتها الاستهلاكية فحسب، وإنما - في المقام الأول – بطرائق التفكير المنتجة لها، ونعني بذلك الروح النقدية العقلية، في أفق التحول إلى مساهمين في إنتاج الحضارة المعاصرة، بدل أن نبقى مجرد مستهلكين ومتفرجين سلبيين.
ثالثا: الفكر العربي وتحديات المستقبل
يضيء الجابري على ثلاثة نوازع للمشروع الحضاري العربي – الإسلامي في صبغته التاريخية، والتي بوسعها أن تلهم أي أفق نهضوي مستقبلي في الوطن العربي:
1) النزوع الوحدوي: عملت الدولة العربية الإسلامية (ابتداء من دولة المدينة) على توحيد الشعوب والقبائل العربية، والتي كانت منقسمة ومتصارعة في ظل عدم انتظامها في كيان سياسي واحد، إذ يشدد الكاتب على راهنية تحقيق الوحدة العربية كشرط ضروري للنهضة المنشودة.
2) النزوع إلى التمدين عبر الانتقال من مجتمع البداوة (القبيلة والعشيرة) إلى مجتمع المدينة، بوصفها محركا للانطلاقة الحضارية الكبرى، والعكس صحيح، فقد اقترن عصر الانحطاط بالارتداد إلى البداوة مثلما لاحظ ذلك ابن خلدون. وهكذا فلا مندوحة عن تجاوز البداوة بمعناها الواسع (العمران، الاقتصاد، الاجتماع، السياسة، الثقافة... إلخ.
3) النزوع إلى العقلنة: عقلنة الدين (الانتقال من الوثنية إلى التوحيد)، عقلنة الفلسفة بفصلها عن الدين، عقلنة العلم بفصله عن السحر والكهانة... إلخ.
كما انصرف المؤلف إلى تناول إشكالية نقل التكنولوجيا إلى الوطن العربي، والتي تفرض نفسها بقوة لا سيما في سياق الانتقال من العصر الصناعي إلى عصر الثورة العلمية والتكنولوجية. إن نقل التقانة إلى الدول النامية عموما، والوطن العربي خصوصا، يصطدم بجملة من العوائق، بعضها موضوعية تتعلق برفض الغرب تصدير التكنولوجيا المتطورة إلى دول "العالم الثالث"، وأخرى داخلية بنيوية من قبيل ترييف المدن، تفشي الأمية مما يؤدي إلى خصاص في المهندسين والفنيين، هجرة الأدمغة، شح الميزانية المخصصة لهذا القطاع... إلخ. وعليه فإن السعي لبلوغ أية تنمية حقيقية يقتضي – في نظر الكاتب – تحقيق الوحدة العربية أو نوع من التنسيق العربي للتحرر من براثن الاحتكارات الأجنبية، بالإضافة إلى محو الأمية ونشر الثقافة العقلانية النقدية كموجه للسلوك والتفكير.
ومن جهة أخرى، انصرف المؤلف إلى قراءة نقدية لثورة 23 يوليو ومشروعها القومي العربي الذي جسمته الناصرية في مصر، وهي الثورة التي استندت إلى ثلاثة مفاهيم تؤلف المضمون الحقيقي لها: الوحدة، الاشتراكية، التحرر، الأمر الذي أسفر عن ثلاثة أنماط من الوعي متزاحمة يصعب تركيبها، ولعل ذلك يُعزى - في تقدير الجابري – إلى أن الثورة كانت نتاج التجربة ورد فعل على واقع مأزوم أكثر من كونها وليدة نظرية متماسكة، وهو أمر يمكن تفهمه في ذلك السياق التاريخي، الذي اتصف بارتفاع منسوب الحلم الأيديولوجي التقدمي في ضوء الزخم الذي عرفته حركات التحرر الوطني.
على أن المشروع القومي العربي لثورة 23 يوليو يواجه جملة من التحديات الوجودية (وجب التنويه هنا إلى صدور هذه الدراسة في فترة الثمانينيات)، إذ ينبه الكاتب إلى "ضمور الروح" فيه منذ خروج مصر التي تشكل بؤرته من الصف العربي، فضلا عن تحد موضوعي قديم تمثله "الإمبريالية العالمية وربيبتها إسرائيل"، دون إغفال تحديات جديدة ظهرت على نحو صارخ بعد نكسة 1967 التي أفسحت المجال ل "عودة المكبوت"، والمقصود هنا ظواهر التطرف الديني والتعصب المذهبي والاقتتال الطائفي، بالإضافة إلى مشكلة الأقليات في الوطن العربي، والتي تتطلب في مجموعها حلا ديمقراطيا برأي الكاتب.
وفي الختام يرى الجابري بأن مهام الفكر العربي في عالم الغد يجب أن تتركز على نقد الواقع بثوابته الموروثة من الماضي والمعرقلة للتقدم، وذلك بنقد المجتمع (من مجتمع القبيلة إلى المجتمع المدني الحديث)، نقد الاقتصاد (من اقتصاد الغنيمة والريع إلى اقتصاد الإنتاج)، نقد العقل (من العقل الطائفي الدوغمائي إلى العقل النقدي المؤمن بالنسبية).