اليسار الشعبوي".. هل هو الحل لمواجهة اليمين الشعبوي؟ - ترجمة: فرح عصام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة
تطرح المنظرة السياسية البلجيكية، شانتال موف، خيار الشعبوية اليسارية كحل لمواجهة استفحال اليمين الشعبوي في أوروبا، وهو استفحال ترى أنه مجرد عارض على سخط الكثير من الفئات على غياب الديمقراطية بما هي ممارسة سياسية تمنح المعنى للحياة السياسية. فكيف يمكن بناء هذا اليسار الشعبوي؟ وأين يختلف مع اليسار بدلالاته الحالية المعاصرة؟
س: لماذا تعتقدين أن الوقت قد حان "من أجل يسار شعبوي"، كما كان عنوان كتابك الأخير؟
إننا نعيش حاليا في مجتمعات ما بعد ديمقراطية، ويعود هذا بالدرجة الأولى إلى ضبابية الفوارق بين اليسار واليمين، وهي حالة أسميها "ما بعد السياسة"، والتي تنبع من حقيقة أن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية قبلت مبدئيا بفكرة عدم وجود بديل للعولمة النيوليبراليّة. ولذا، عندما يذهب المواطنون للتصويت، فإنهم لا يملكون خيارا بسبب ضبابية الفوارق الجوهرية بين برامج اليمين المعتدل، واليسار المعتدل.

كما أننا كنا نشهد في الآونة الأخيرة انتشار ظاهرة الألجرة (Oligarchization) في المجتمعات الأوروبية، بحيث بتنا نرى اتساعا في الفجوة بين مجموعة ضئيلة جدا من الأثرياء وبقية السكان. لكن الجديد هذه المرة أنه مع سياسات الخصخصة، وبالتحديد منذ بدأت سياسات التقشف، انتشرت أيضا ظاهرة إفقار وإضعاف الطبقات الوسطى، التي ترزح هذه الأيام تحت وطأة السياسات النيوليبرالية، وهو ما يفسّر ظهور الكثير من المقاومة لتوافقات الوسط.
إن ما أطلق عليه "لحظة شعبوية" يتسم بتعدد أشكال المقاومة لما بعد الديمقراطية. وتفصح هذه الأشكال عن نفسها بالعديد من الطرق المختلفة، ليس بالضرورة أن تكون تقدمية. وتُعبِّر هذه المقاومة بطريقة ما عن "مطالب ديمقراطية"، مطالب بالمزيد من الديمقراطية، وبأن يكون هناك صوت للشعب. لكن من الممكن التعبير عنها من خلال كراهية الأجانب. ولهذا شهدنا تطوّر شعبوية الجناح اليميني التي تدّعي أن "سبب الأزمة هو المهاجرون". لكن من الممكن التعبير عن تلك المطالب بطريقة أكثر تقدمية، على شكل مطالبات بتوسيع نطاق الديمقراطية وتجذيرها، وهو ما أسميه "شعبوية يسارية".
في كتابي الصادر عام 2015، "في السياسي"، والذي ناقشت فيه ظاهرة ما بعد السياسة، جادلت بأن نهج "الطريق الثالث" لم يُمثِّل تقدما للديمقراطية، وأن نقص التوتر الجدلي بين الخيارات المختلفة مَثَّل خطرا على الديمقراطية بما أنه أتاح هامشا لتطور شعبوية الجناح اليميني. إن التفكير في السياسة باعتبارها توافقيات وإجماعات هو تصور خاطئ، فلا بد للسياسات الديمقراطية أن تكون استقطابية. إنها تتطلب تأسيس مسافة بين اليسار واليمين، ولا يمكنها أن تكون ديمقراطية دون جدالات محتدمة بشأن الخيارات المحتملة.
س: من هو ناخب اليسار الشعبوي في رأيك، وكيف يمكن حشد هؤلاء الناخبين؟
اليوم، هناك المزيد من قطاعات المجتمع التي تضررت بفعل سياسات العولمة النيولبيراليّة ومن الطريقة الجديدة في تنظيم الرأسمالية أكثر من أي وقت مضى. في الحقبة الفورديّة كان الضرر مقتصرا على العمال في المصانع. لكن مع تطوّر الرأسمالية التمويلية (Financial Capitalism)، وما يُطلق عليه أحيانا السياسة الحيوية[1]، طال الضرر جميع الفئات لأن الكثير من جوانب حياتنا يتداخل مع الرأسمالية. وهذا، بالطبع، أمر سلبي، لكنه يُمثِّل فرصة لأنه يعني أن احتمالية الظفر بمناصرين أكبر لتجذير الديمقراطية باتت أكبر من قبل. إننا لا نتحدث عن الطبقة العاملة فحسب، فهناك العديد من القطاعات المهمة التي يمكن الظفر بها من الطبقة الوسطى.
لقد تأسست جبهة اليسار السياسي بناء على الطبقة؛ حيث كانت هناك طبقة عاملة، أو البروليتاريا، مقابل البرجوازية. أما اليوم، وبالنظر إلى تطور المجتمع، فهذه ليست الطريقة التي ينبغي فيها للمرء تأسيس الجبهة السياسية بعد الآن. هناك سلسلة من المطالب الديمقراطية التي يصعب تأسيسها بالاستناد إلى الطبقة، وعلى سبيل المثال، فمن المهم أن نأخذ في الحسبان المطالب النسوية، ومناهضة العنصرية، وحركات المثليين ومناصرة البيئة.
هذه المطالب لا تتلاءم مع العداء التقليدي بين الطبقة العاملة والبرجوازية. وعلينا أن نبني جبهة بطابع شعبوي، أجد أنه سيكون أكثر تقاطعيّة، في مواجهة "الشعب" ضد "الأوليغاركية". هناك الكثير من القطاعات التي يمكن أن نكسبها إلى جانبنا في صراعنا ضد المشروع النيوليبرالي، ومن الضروري توحيدها من خلال بناء "شعب"، أي إرادة جماعية. إن من غير الممكن تأسيس جبهة سياسية بالاستناد إلى أساس طبقي صرف. لكن هذا لا يعني أن علينا أن نغض الطرف عن مطالب الطبقة العاملة، ولكن أن علينا التعبير عنها من خلال مطالب ديمقراطية أخرى. وهذه هي الميزة الرئيسية لليسار الشعبوي والفارق الرئيسي عن بناء الجبهة ضمن محددات الطبقة.
gaiche populiste 123كتاب "من أجل يسار شعبوي" لـ "شانتال موف"ولكي نتمكن من بناء شعب فإننا سنكون بحاجة إلى فهم بواعث الناس على التصرف. لماذا، على سبيل المثال، يخرج الناس على أشكال معينة من الخنوع؟ لماذا يقولون إنهم تعرضوا للظلم؟ أعتقد بأن فكرة المساواة، فكرة العدالة الاجتماعية، فكرة السيادة الشعبية هي قيم جوهرية في المخيال الديمقراطي الاجتماعي، وبأن هذه هي الطريقة التي يتواصل ويتشكّل فيها المواطنون الديمقراطيون سياسيا، فلا عجب أن يُظهِروا أنواعا مختلفة من المقاومة إن شعروا بأن تلك الأشياء تُسلب منهم. وأعتقد أن ما يدفع الناس للتحرك في السياسة هو المطالبة بالمساواة والديمقراطية. لهذا نشهد في الوقت الحالي مقاومة لما بعد الديمقراطية أو ما يمكن تلخيصه في إحدى المقولات الخالدة: "إننا نمتلك صوتا، لكن لا صوت لنا"، حيث يشعر الناس اليوم أن صوتهم غير مسموع. وهذا [السخط] هو ما تُعبِّر عنه لحظة الشعبوية، ومن الضروري توفير جواب تقدمي على المطالب التي تنبع منها هذه المقاومة.
بدلا من رؤية اليمين الشعبوي بوصفه تعبيرا عن المطالب التي هي في جوهرها مطالب عنصرية ومتحيزة جنسيا، فإن علينا أن نرى بأنها تُعبِّر في الواقع عن نداء بالديمقراطية، عن المطالبة بأن يكون للناس صوت. وهذا هو الحال مع التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبيّ في بريطانيا. لقد صوّت الكثير من الناس لصالح الخروج من الاتحاد، ليس لأنهم كارهون للأجانب، لكن لأنهم شعروا بأن المؤسسة لا تأخذ مطالبهم بعين الاعتبار. وهي مطالبات بالديمقراطية، لكن من الممكن التعبير عنها بطريقة تحدّ من عمل الديمقراطية نفسها، أي من خلال استعادة الديمقراطية لجماعة محدودة من الأشخاص، هم أصحاب النزعة القومية.
أو أن من الممكن تشكيل هذه المطالب بطريقة تزيد من عمق وتجذّر الديمقراطية، مهما كان هذا الأمر صعبا. بالنسبة لي، فإن المهم هو أي نوع من الشعبوية سيتمكّن من بسط هيمنته، ويلبي تلك المطالب. إنني على قناعة بأن الطريقة الوحيدة للنضال ضد شعبوية اليمين هي عبر تطوير نوع من الشعبوية اليسارية. ما أعنيه هو شعبوية تشمل كل أنواع المقاومة ضد "بعد الديمقراطية" وتمنح أتباعها نوعا من التعبير الذي يؤدي بدوره إلى استعادة ونشر القيم الديمقراطية.
في فرنسا، يقول البعض في اليسار إن "علينا حتى ألا نخاطب أولئك الذين قاموا بالتصويت لماريان لوبان، لأنهم فاشيّون في الحقيقة ومن المتعذر استعادتهم". وأنا أختلف مع ذلك بشدة. فمن المعروف في فرنسا أن الكثير ممن أدلوا بأصواتهم لصالح ماريان لوبان كانوا من المصوتين لصالح الحزب الاشتراكي فيما مضى. لكنّ الديمقراطيين الاجتماعيين تخلوا عنهم ولوبان كانت الوحيدة التي قالت لهم: "إنني أتفهم مخاوفكم بشأن المهاجرين". لحسن الحظ، بدأت الأمور تتغير لأن نشطاء حزب "فرنسا الأبيّة" [حزب جان لوك ميلينشون، والذي غالبا ما يتم اعتباره يسارا شعبويا] كانوا يذهبون إلى الدوائر الانتخابية التي تصوّت لصالح لوبان لنقاش الناس.
في الانتخابات الأخيرة، كان من المثير أن نرى بأنه في عدة مناطق مهمة، على سبيل المثال، في مارسيليا، تصدّر حزب ميلينشون تلك الدوائر التي كانت قد صوّتت لصالح ماريان لوبان من قبل. وحصل الأمر عينه في أميان، مع فرانسوا روفين، الذي كان قد انتُخب في معقل الجبهة الوطنية. وهكذا ثبت لأولئك الذين قالوا "إن مَن أدلوا بأصواتهم لماريان دو لوبان لن يصوّتوا أبدا لصالح جان لوك ميلينشون" بأنهم كانوا على خطأ. وقد قيل لي إن 16% ممن صوتوا لصالح حزب الاستقلال في بريطانيا قاموا هم أنفسهم بالتصويت لصالح كوربين في هذه الانتخابات [عام 2018]. وهذا يؤكد لنا أن مطالب الطبقة العاملة ليست بالضرورة تقدمية ولا كارهة للأجانب: إن الأمر في مجمله يعتمد على كيفية التعبير عنها. وإحدى طرق التعبير عن هذه المطالب يتم من خلال كراهية الأجانب عبر شعبويي الجناح اليميني، وهكذا فإن التحدي أمام اليسار الشعبوي يتمثّل في تقديم شكل مختلف من الاستجابة لتلك المطالب.
س: لماذا نناشد شعبوية "اليسار" تحديدا، في تلك الحالة، ما دام أن الكثير من الناس لا يتعاطفون مع اليسار أصلا؟
أولا عليّ أن أوضح بأنني عند الحديث عن "شعبوية يسارية" فإنني أحيل على تصنيف تحليلي؛ فأنا لا أقول إن عليك أن تخرج وتنادي بأنك "يسار شعبوي". عندما أقول إن أحدا ما ينتمي لفئة "اليسار الشعبوي" من حزب فرنسا الأبية، أو كوربين، أو حزب بوديموس الإسباني، فإن ما أعنيه هو أن من الممكن تمييز سياسة هذه الأحزاب بوصفها إستراتيجية يسار شعبوي. وعلى هذا الأساس يمكنهم تشكيل جبهة وبناء حركة جماهيرية تتمحور حول صيغة "الشعب" في مواجهة "الأوليغاركيّة". لكن هذا لا يعني أن عليهم تسمية أنفسهم "يسار شعبوي". وعلى سبيل المثال، اسم فرنسا الأبية يوحي بفرنسا حرة، وهو ما أعتقد أنه اسم رائع يمكنه أن يوحّد تحت لوائه الكثير من أشكال النضال.
صحيح أنه بالنسبة إلى الكثير من الناس فإنَّ مصطلح "يسار" يحمل الآن دلالة سلبية. في إسبانيا على سبيل المثال يقولون إن فكرة اليسار سيئة السمعة، لأنهم عند الحديث عن اليسار، يفكر الناس عادة في خونة الديمقراطية الاجتماعية. وفي فرنسا الأمر مماثل، عندما تتحدث عن اليسار فالكثير من الناس يرفضونه لأنه يرتبط لديهم بفرانسوا هولاند. وسبب آخر للتخلي عن هذا المصطلح هو أنه لا يتلاءم مع الطابع التقاطعي للإستراتيجية الشعبوية. وكما يقولون في "بوديموس": "إننا نريد أن نخاطب أيضا أولئك الذين لا يعتبرون أنفسهم من أنصار اليسار". وأنا أتفهم هذه المخاوف، ولهذا أشدد على أن الجبهة لا ينبغي أن تُنسب لوضع اليسار واليمين بتركيبته التقليدية.
لكن هنالك معنى آخر لليسار، معنى أكثر قيميّة. اليسار يحيل على قيم محددة، مثل العدالة الاجتماعية، سيادة الشعب، المساواة. وأعتقد أن علينا الدفاع عن تلك القيم، وإنما أتحدث عن شعبوية "يسارية" بهذا المعنى. وأعتقد أن الحديث عن "شعبويّة تقدمية" لا يكفي. في فرنسا، تعبير "تقدمي" استولى عليه ماكرون. كما أن تعبير "الشعبوية الديمقراطية" ينطوي على تناقض. إننا نحتاج إلى مصطلح أكثر استقطابية، وأكثر حزبية. وأعتقد بأن الحديث عن "شعبوية يسارية" يمكننا من إعادة تأسيس الصراع المحموم بين اليسار واليمين، لكن بطريقة شعبوية.
س: كيف برأيك تمكّن حزب عمال كوربين من تجنّب الانحدار العام للديمقراطية الاجتماعية في أوروبا في مرحلة ما بعد الديمقراطية؟
إن حزب العمال البريطاني بقيادة كوربين هو حزب ديمقراطي اجتماعي يشهد تحوّلا بفضل تبنيه إستراتيجية اليسار الشعبوي. وهذا يُفسِّر كيف تمكّن الحزب من تلافي مصير الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا. هذا لا يعني أن الديمقراطية الاجتماعية تتعافى؛ حزب كوربين ليس حزب طوني بلير، حيث ثمة محاولة واضحة للقطع مع حالة ما بعد السياسة التي اقترنت بحزب العمال الجديد.
المهم في حالة بريطانيا هو أن نرى بأن هدف كوربين هو تحويل حزب العمال إلى حركة جماهيرية. فإستراتيجية اليسار الشعبوي تتطلب تأسيس جبهة، وهذا ما كان يفيد به بيان الحزب بعنوان "من أجل الكثيرين، لا من أجل القلة". وأعتقد أن من المدهش أن هذه العبارة كانت من استخدام بلير لكي يتجنب الحديث عن الاشتراكية. لقد قاموا باستعادتها وتغييرها لرسم خط مواجهة بين "القلة" و"الكثرة"، الناس في مقابل الأوليغاركية.
س: كيف يرتبط اليسار الشعبوي بالفئات السياسية الموجودة على اليسار؟
بشكل عام، بإمكاننا التمييز بين ثلاثة أنواع من "اليسار". الأول "الإصلاحي الصرف" لليبراليين الاجتماعيين، الذين تقبلوا فكرة عدم وجود بديل عن العولمة النيولبيرالية ويعتقدون أن كل ما بوسعهم القيام به هو إجراء إصلاحات طفيفة للنظام القائم دون أي تحدٍّ للمهيمن الحالي. على الطرف الآخر، لديك اليسار الثوري الذي يقول إنه يريد تأسيس قطع تام مع مؤسسات الديمقراطية الليبرالية. إنهم يعتقدون أن الدولة لا يمكن أن تتغير وأن من الواجب إلغاءها. وهناك نسخة أخرى تؤيد البحث عن إستراتيجية هجر وترك المؤسسات التقليدية.
وأخيرا هناك يسار يؤيد سياسات "الإصلاح الراديكالي"، وسياساته تشتمل على تنفيذ إصلاحات من خارج إطار النهج الإصلاحي [2] (Non-Reformist Reforms)، وهي إصلاحات ستحمل بلا شك أثرا عميقا على علاقات القوة القائمة. هذا اليسار لا يرفض أي مؤسسة رئيسية من مؤسسات الديمقراطية الجماعية، لكنه يهدف إلى تأسيس هيمنة أخرى مختلفة، دون نبذ إطار الديمقراطية الليبرالية.
اليسار الشعبوي هو بلا شك إستراتيجية إصلاح راديكالي، والهدف من هذه الإستراتيجية هو الوصول للسلطة عن طريق الفوز في الانتخابات. كما أنها تعتقد بضرورة مشاركة المؤسسات القائمة واحتمالية تغيير الدولة. أعتقد أن هذه هي الإستراتيجية الأنسب، لأن هذه هي الطريقة للقطع مع الهيمنة النيوليبرالية وتأسيس هيمنة مختلفة تهدف إلى تجذير الديمقراطية.
س: هل تعتقدين أن برنامج كوربين راديكالي بقدر خطابه؟ فهو يوصف بالخيار التغييري من ناحية، لكن الناس يقولون إن مطالبه متواضعة نسبيا، كما هو الحال في مجمل الديمقراطيات الاجتماعية.
صحيح أن هناك بعض النقاط المشتركة بين الشعبوية اليسارية وبين الديمقراطية الاجتماعية (وإن لم تكن بالطبع نسخة الطريق الثالث). لكن من الواضح أن إستراتيجية اليسار الشعبوي لا تهدف ببساطة إلى استعادة أكثر أشكال الديمقراطية الاجتماعية تقدمية، لأن كل تلك الأشكال من الديمقراطية الاجتماعية كانت كنزية في واقعها. المشكلة اليوم هي أننا إن قررنا أن نأخذ مسألة النظام البيئي على محمل الجد، فإن الحلول الكنزية جزء من المشكلة لأنها تقدم نموذجا قائما على الإنتاج. وأعتقد أن التحدي القائم اليوم، إن كنا نرغب في أخذ النظام البيئي على محمل الجد، هو القطع مع هذا المذهب.
أضف إلى ذلك أن الديمقراطيات الاجتماعية كانت كثيرا ما تتمركز حول المطالب الاقتصادية: لقد كانت ترى نفسها ممثلا لمصالح الطبقة العاملة. اليوم، يريد اليسار الشعبوي أن يُمثِّل قطاعات أوسع. في لحظة تم فيها تحجيم مطالب الطبقة العاملة من قِبل الأحزاب الليبرالية الاجتماعية، فمن المهم بالطبع تمييز أهمية هذه الفئة، على أن يتم هذا بالترافق مع تحصيل مطالب مجموعات اجتماعية أخرى تضررت من النيوليبرالية.
من وجهة النظر هذه، أجد مفهوم التراكم عبر نزع الملكية الذي طوّره ديفيد هارفي مثيرة للاهتمام حقا. إنه يجادل كيف أن النيوليبرالية خلقت أنماطا جديدة من الضدية التي لم تكن موجودة في السابق ألقت بظلالها على الكثير من الناس خارج حدود الطبقة العاملة. وعلى إستراتيجية اليسار الشعبوي الرامية إلى تجذير الديمقراطية أن تأخذ في الحسبان كل تلك الأنماط الجديدة من الخصم. عليها أن تأخذ في الحسبان أيضا المطالب الديمقراطية التي تنادي بها الجماعات النسوية، وجماعات مناهضة العنصرية والتحيز الجنسي.
س: هل هناك ما يتعلق بالسياسات الشعبوية يتطلب حضورا قياديا، جريئا وكاريزماتيا؟ فهذه تبدو عوامل مهمة في العديد من الأماكن.
من الضروري أن نفهم بأن هدف إستراتيجية اليسار الشعبوي هو بناء "الشعب"، أي الإرادة الجمعية، من خلال التعبير عن العديد من المطالب الديمقراطية المتغايرة. لكنَّ المهم حاليا هو كما أوردت في كتابي الذي ألّفته برفقة ارنستو لكلاو، هو أي "هيمنة وإستراتيجية اجتماعية" تلك التي نسميها "سلسلة التساوي". إننا عندما نقرّ بأن النضالات الديمقراطية لا ينبغي أن تتقارب بالضرورة، ندرك ضرورة إيجاد شكل من المبدأ التأسيسي الذي يشمل كل المطالب الديمقراطية المتغايرة التي تحاول الحركة الشعبوية التعبير عنها، مثل مبدأ يحقق دمج سلسلة التكافؤ تلك، ويكون بمنزلة "مؤشر على الهيمنة" يُمثِّل وحدة المطالب المختلفة.
وليس بالضرورة أن يكون ذلك المؤشر على الهيمنة شخصا. فيمكن، على سبيل المثال، لمطلب بعينه أن يرمز لنضال مشترك. بعد ذلك الحشد الهائل للنساء في يوم النساء العالمي حدث هناك نقاش في إسبانيا بشأن الدور الذي يمكن أن يلعبه النضال النسوي في هذا الشأن، وجادلت بعض النسويات بأن مطالب النساء يمكن لها أن تكون المبدأ التأسيسي للإرادة الشعبوية الجمعية.  
لكن عادة ما يكون شخص القائد هو الرمز لكل المطالب، ولا شك أن الجماعي لا يمكن بناؤه دون بلورة روابط مؤثرة مع قائد يمكن له أن يلعب دورا مهما في هذه العملية. يدّعي الكثير من الناس أن هذا أمر خطير لأن القيادة الكاريزمية تعزز الاستبداد. لا أرى أي مشكلة في ذلك الأمر، على الرغم من أن القائد لا يقيم علاقة استبدادية مع أتباعه. يمكن اعتبار القائد هو "أولًا بين متساوين"، وأعتقد أن هذا هو الحال مع كوربين. إنه بالتأكيد ليس شخصية استبدادية، ولا أعتقد أنه "شخصية كاريزمية" أيضا، لكنه أصبح بوضوح رمز التحول في حزب العمل.

هامش
1- Biopolitics، بحسب فوكو، يشير المصطلح إلى ممارسات وصلاحيات شبكة السلطة التي تدير تخصصات الجسد والسكان. إنها منطقة لقاء بين السلطة ومجالات الحياة، الذي يتحقق بشكل كامل في عصر معين: عصر الانتشار الكامل والشامل للرأسمالية.
2- Non Reformist Reforms إصلاحات تدعو إلى إلغاء أو استبدال الدولة الحالية؛ أي أنها إصلاحات جذرية للنظام القائم.

هذا المقال مأخوذ عن Red Pepper

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟