شجب اللّامساواة والتغاضي عن أسبابها : توزيع أفضل للثروة، أم تحرير المجتمع من سلطة السوق؟ "دانيال زامورا*" - ترجمة وتقديم محمد عادل مطيمط

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم: يطرح الباحث البلجيكي "دانيال زامورا" في هذا المقال (من جريدة "لوموند دوبلوماتيك"، جانفي 2019) مسألة الانتقال من الطرح التقليدي لمسألة العدالة الاجتماعية- وهو طرح يرتكز على مفهوم الدولة الراعية وعلى التحليلات الاشتراكية الماركسية التي تعود إلى القرن التاسع عشر- والطرح المعاصر لدى علماء الاقتصاد وعلماء الاجتماع الذين واكبوا تطور الرأسمالية المعاصر والأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها. ففي حين يركّز الطرح التقليدي على نقد الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء وعلى ضرورة تدخل الدولة من خارج المنظومة الاقتصادية لحل مشكل الفقر واللامساواة (أي أنه يعتبر المشكل سياسيا واجتماعيا)، يتّجه الطرح المعاصر أكثر فأكثر إلى التعامل مع الفقر باعتباره حقيقة مستقلة عن الفوارق الاجتماعية بين الأفراد وعلى ضرورة معالجته معالجة مالية مستقلة لا تتضارب مع مقتضيات اشتغال السوق(بمعنى أنه يحوّل الفقر إلى مسألة اقتصادية بحتة). وهو ما يطرح أمامنا سؤالين اليوم: هل ستنجح المنظومة النيوليبرالية في التعامل مع الفقر بفصله عن جذوره الاجتماعية العميقة إلى ما لا نهاية؟ أم أن زخم التناقضات الاجتماعية سيعيد مسألة اللامساواة والفقر حتميّا إلى حلبة الصراع الاجتماعي والى الجذور الحقيقية للمشكل؟ أهمية هذا المقال تتأتى من كونه يرصد في إيجاز مراحل تطوّر التفكير الاقتصادي المعاصر في مسألتي الفقر واللامساواة وينظر في مدى مشروعية المقاربة النيوليبرالية لهما.

ملاحظة: العبارات الواردة بين معقوفين من إضافة المترجم.

المقال:

بالانطلاق من الاستنتاج القائل"إن الأثرياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا"، والذي لم يتوقف الناس عن ترديده، يتسنى استخلاص تصورات متضاربة بالمعنى السياسي للعبارة: فالبعض يقرّ ضرورة التخفيف من وطأة الرأسماليّة، في حين يذهب آخرون إلى القول بتأميم الثروة. وكان هذا الجدل قد اجتاز القرن العشرين، قبل أن يعود من جديد من خلال شعارات حركة "احتلّوا وال ستريتOccuppy Wal Street ". وهو ما يعني أن وضع مسألة اللامساواةInégalités  في مركز اهتمام الخطاب العمومي، هو أمر له تاريخ طويل.           

  لفد تم بيع أكثر من مليونين ونصف من النسخ عبر العالم من كتاب "توماس بيكتي"Thomas Piketty  رأس المال في القرن الواحد والعشرين Le Capital au XXIe siècle الصادر سنة 2013. ومنذ ذلك النجاح الكبير، انتشرت على نطاق عالمي فكرة قائلة بأن اللامساواة هي اكبر مشكل أخلاقي معاصر. وفي الولايات المتحدة، تبرز كتابات ماركس كأحد أفضل المبيعات لدى شركة "أمازون"Amazon. ثمّ إنّ المجلّة الأمريكية اليسارية حديثة العهد بالظهور، "جاكوبان"Jacobin ، هي مجلة مقروءة على نطاق واسع. غير أنه يمكننا التساؤل حول مدى انسجام هذه الموضة مع أفكار ماركس. ففكرة اللامساواة في الدخل كانت في حقيقة الأمر فكرة قليلة الاستعمال في القرن التاسع عشر، ثم إن التركيز عليها في النقاشات العمومية أدّى إلى إضعاف طريقة تفكيرنا في العدالة الاجتماعية بشكل كبير([1]).

ولعلّ أفضل طريقة لفهم التغير الذي حصل في طرح المشكل هي أن نتصفّح أحد أهم المصادر الكلاسيكية للنزعة الاشتراكية، أعني كتاب رأس المال. فعلى الرغم من أن الأمر يبدو غريبا، فإن عبارة "لامساواة"Inégalité  لا ترد في هذا المجلد الضخم للفيلسوف الألماني أكثر من أربع مرّات ( مع مراعاة الاختلافات في الترجمة). وفي الحقيقة، لم ينشغل أي مفكر، إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، بوضع الفرد في جانب والدخل العام في جانب آخر، كي يتمّ تقدير توزيع ذلك الدخل. لقد كان الموضوع المهم آنذاك هو الفوارق بين الطبقات وعوامل الإنتاج، وليس الفوارق بين الأفراد. ثمّ إنّ الأدوات الحالية لتقدير اللامساواة لم تبرز إلا بعد ظهور أعمال عالم الاجتماع الايطالي  "فيلفريدو باريتو"Vilfredo Pareto  (1848-1923). ففي ما يتعلق بماركس، لم يكن المشكل يتعلق بكيفية توزيع المداخيل بين الأفراد بل بكيفية تصور مجتمع متحرر من سيطرة السوق.

وسواء تعلق الأمر بالإنتاج أو بالعمل أو بالعلاقات الإنسانية، فان "مجتمع السوق" مثلما يسميه عالم الاقتصاد والانثربولوجي "كارل بولانييه"Karl Polanyi ، كان يُعتبر بمثابة  تهديد للديمقراطية لكونه يتيح للسوق أن تتدخل في النظام الاجتماعي لتغييره وليس العكس. فهذا الصنف من المجتمعات لم يقم فقط باستبعاد السؤال حول تخصيص الموارد في النفقات العمومية (L’allocation des ressources) من منابر النقاش السياسي، ولكنه غيّر في الوقت نفسه طبيعة المعاملات الاجتماعية بشكل عميق.

 

الغياب الطويل

هذا المعطى هو ما جعل عالم الاجتماع "ريتشارد تيتموس"Richard Titmuss  يدافع على الفكرة القائلة إن هدف دولة الرعاية الاجتماعية[2]L’Etat social  هو المحافظة على "روح دانكيرك"L’esprit Dunkerque ، حيث يتعلق الأمر بعبارة تحيل إلى عملية إنقاذ مئات الآلاف من جنود الحلفاء على السواحل الفرنسية خلال شهري ماي وجوان من سنة 1940، بفضل أسطول من مئات السفن المدنية، وحيث كان لذلك الحدث أثر نفسي عميق في المملكة المتحدة([3]). لقد رأى "تيتموس" في ذلك حالة جنينية تبشر ب"المجتمع السخيّ"La société généreuse  القادم. ومثلما قال، فإن " مزاج الشعب كان قد تغيّر وتغيّرت بتغيّره القيم" في صيف 1940. فبما أنه يُفترض في المخاطر أن تتوزّع بالتساوي على الناس فإن الأمر نفسه يجب أن ينسحب على الثروات. ولكن بدلا من أن تقتصر هذه المنظومة الجديدة على إعادة توزيع الدخل القومي، فإنها كانت تهدف إلى خلق مؤسسات ديمقراطية تكون قادرة على هزيمة ما يسميه "وليام بفريدج"William Beveridge – رجل الاقتصاد ومنظر دولة الرعاية الاجتماعية البريطاني – في تقرير شهير نُشر سنة 1942، ب"الخمسة الكبار": الفقر وانعدام الأمن والمرض والجهل والبطالة، وذلك من اجل تحفيز روح التضامن حتّى في زمن السلم.

ونتج عن ذلك أن "روح دانكيرك" قد وسّعت من نطاق الدور الموكول للدولة بشكل كبير، حتّى تضمن لشعبها تلك الحقوق الاجتماعية الكونية (الحق في الرعاية الصحية، الحق في التربية والحق في العمل والسكن). لقد سلكت انتفاضة المجتمع ضدّ موقف ال "دعه يعمل"Le « Laisser faire »  طريقا وسطى بين التشريعات الاجتماعية التي تمّ العمل بها في ألمانيا مع رئيس الوزراء "أتوف فون بسمارك"Otto von Bismarck في ثمانينات القرن التاسع عشر، وسياسة التأميم على نطاق شامل التي طبقها الاتحاد السوفياتي منذ أكتوبر 1917.

وبذلك تم تأميم قسم كبير من الأجور(Socialisation des salaires)  لتمويل منظومات الضمان الاجتماعي المُكْلِفة. ثم إن نسبة الآداءTaux d’imposition  المرتفعة المطبّقة على الأثرياء، تسمح بتركيز الخدمات الاجتماعية التي تشكّل قاعدة لملكية جديدة هي ال"ملكية الاجتماعية/المشتركة"Propriété sociale . كان الهدف من هذا المفهوم الذي اُستخدم في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا، هو إبعاد شبح حرب أهلية تنذر بتمزيق مجتمع ينفرد فيه كبار المالكين بالمواطنة التامّة. فتركيز الملكية المشتركة إلى جانب ملكية خاصةPropriété privée  قائمة سلفا، يتيح "لمن لا يملكون صنفا من المداخيل لا يندرج مباشرة في إطار الملكية الخاصة، ولكنه يمتعهم بالحق في ثروات وخدمات مشتركة ترتبط بمخطّط اجتماعي ([4])".

لذلك يجب أن نفهم مؤسسات الدولة الراعية على أنّها تجسيد لمقتضيات الديمقراطية (L’Impératif démocratique) التي تجعل من التكاثر الفيزيائي والاجتماعي للأفراد مسألة سياسية وتسمح بالاختيار الجماعي لنمط الحياة الإنسانية الذي يرغب المجتمع في إقامته. زاوية النظر هذه تفسّر لنا الأهمية التي ستكتسيها الخدمات الاجتماعيةServices publics  - وليس التحويلات الماليةTransferts monétaires  – بالنسبة إلى عدد من اقتصاديي بداية القرن العشرين. فعندما تفشل سياسة ال "دعه يعمل" في تأمين التكاثر المادّي لأفراد الشعب، يجب على الدولة أن تتدخل. وبهذا المعنى، لم يتردد عالم الاجتماع البريطاني "توماس همفراي مارشال" Thomas Humfrey Marshal في القول سنة 1950: إنه "لا يمكن إقامة المساواة الأساسية وحمايتها دون الإضرار بحرية السوق التنافسية".

سيتم تشجيع انتشار هذا الفهم الجديد لدور السلطة العمومية في العالم بأسره. ففي سنة 1944، نصّ "إعلان فيلادلفيا" الذي أعاد التأكيد على أهداف المنظمة العالمية للعمل OTT، على أن "العمل ليس بضاعة"، ووضع هدفا أساسيا هو "توسيع نطاق تطبيق نظام الضمان الاجتماعي". أما خارج حدود العالم المصنّع، وفي الفترة نفسها، فقد التزم قادة مثل "جواهرلال نهرو"J. Nehru  في الهند و"كوام نكرومة"Kwame Nekrumah  في غانا، أو "ليبور سيدار سنغور"L. S. Senghor في السنغال، بتحقيق وعود دولة الرعاية الاجتماعية التي بدا وأن صيتها قد امتدّ إلى خارج حدود العالم الامبريالي.

إنّ أوّل بلد أدّى فيه تنامي التركيز على مشكل الفقر إلى تغيير التصوّرات حول العدالة الاجتماعية هو الولايات المتحدة. فعندما قام المناضل الاشتراكي "مايكل هارينغتون"Michael Harrington  بنشر عمله الشهير أمريكا الأخرى The Other America سنة 1962، مثّلت برامج دولة الرعاية الاجتماعية في نظره جزء من المسألة. إن أمريكا الفقيرة وفق تعبيره "أغفلت المكاسب الاجتماعية للثلاثينات". فلم يتوقف الأمر عند عدم تمتيع الفقراء بمؤسسات للضمان الاجتماعي أو بالأجر الأدنى وبقوانين العمل والنقابات، بل تمّ العمل على "الغائها". بالنسبة إلى "هارينغتون"، يشكل الفقر وضعية مستقلة ومنفصلة عن مسألة العمل والسوق. وبما أنه لا يتنزّل في صميم العلاقة الأجرية Rapport salarial  بل على هامشها، فإنه يكون بذلك مختلفا جذريا عن معنى الفقر في القرن التاسع عشر. وإذا كان الفقير "يمثل منظومة مستقلة"، فانه سيكون منذ البداية مشكلا مستقلا. ومثلما سيبين ذلك الصحفي "دوايت ماكدونالد" Dwight Macdonald  في جريدة نيويوركرNew Yorker ، في تقديمه لكتاب "هارينغتون" سنة 1923 "ليس من الضروري اعتبار اللامساواة في الثروة في حدّ ذاتها مشكلا اجتماعيا كبيرا" أمّا "الفقر فبلى"([5]). ومن هنا، يصبح الانشغال الرئيسي هو تهيئة أرضية للأجور بدلا من تعميم نظام التضامن الاجتماعي.

لقد أدى تضخّم مشكلة الفقر في بداية السبعينات إلى بروز تصور للعدالة الاجتماعيةJustice sociale  يتركز بصورة حصرية على البعد المالي. فضبط مستوًى لا يمكن لأيّ فرد النزول تحته سيؤدي بسرعة إلى تهميش النقاش حول ضبط سقف للمداخيل أو حول ضبط الحدود التي يتحرك داخلها السوق. وعند هذا المستوى تحديدا، فإنّ فكرة  الدخل الشاملAllocation universelle [6] [الدخل الاجتماعي المضمونR.S.G.، الدخل الأدنى للإدماج الاجتماعي [R.M.I.  أو برامج ضريبة الدخل السلبيةProgrammes d’impôt négatif  التي دعا إلى اعتمادها الاقتصادي ذو الاتجاه المالي monétariste "ميلتون فريدمان"Milton Friedman([7])، قد شدّت انتباه المسؤولين رفيعي المستوى وكذلك الأحزاب السياسية، لكونها تمثل آخر ما تمّ التوصّل إليه من وسائل لمقاومة الفقر بصورة مباشرة. وفي فرنسا يعتبر "ليونال ستولرو"Lionel Stoléru ، المستشار لدى وزارة المالية والذي سيصبح كاتب الدولة لدى "جيسكار دستان" و"فرانسوا ميتران"، أن تركيز الاهتمام على الفقر هو ما يوفّر السياسة الاجتماعية الوحيدة والمعقولة داخل منظومة السوق الحرّ. وكما سيقر ذلك "فريدمان" نفسه، فان هذه السياسة "رغم أنها تشتغل بوساطة السوق" فإنها " لا تُربك حركة السوق ولا تعرقل اشتغاله"([8]). فحماية آليات السوق ومنظومة الأسعار تصبح في إطار هذا التصور للسياسات الاجتماعية موضوعا مركزيا. وإذا أفرزت "اليد الخفية"La main invisible للسوق أثرا سلبيا ما، يجب أن يكون الحلّ المفضل هو التحويلات المالية وليس تدخلات الدولة.

تشهد هذه الفكرة انتشارا سريعا في المؤسسات العالمية بزعامة "روبار مكنمارا"Robert McNamara. فبعد أن كان وزيرا للدفاع لدى "جون كيندي" و"لندن ب جونسون"، سُمّي سنة 1968 على رأس البنك الدولي حيث قام بتركيز استراتيجية لمقاومة الفقر لم تعد قائمة على توزيع الدخل القوميRedistribution ، بل على "إعانة الفقراء كي يتمكنوا من استرجاع طاقتهم الإنتاجية"([9]). ومثلما يقول المؤرخ "صمويل موين"Samuel Moyn في سياق تحليله لذلك، " فإن العدالة الاجتماعية قد تمت عولمتها والتقليص من صعوبة تحقيقها"، وهو ما أدى إلى ضبط خطّ " لا يسمح لأي كان بالنزول تحته"، ويتيح التصدي بصرامة لتلك المزاعم المساواتية لقيادات التحرر الوطني([10]). وقد قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديةOCDE وكذلك منظمة الأمم المتحدة ONU  خلال الثمانينات باستعادة مقاربة "مكنمارا". فبعد أن وقع سابقا تصور العدالة الاجتماعية من اجل حماية الفئات الشعبية من آثار السوق، أصبحت من الآن فصاعدا تمثل تدخلا يهدف إلى تمكين جميع الأطراف من المشاركة فيه. إن الغياب الطويل للمساواة باعتبارها محورا يهيمن على النقاش العمومي انتهى في أعقاب الأزمة المالية لسنة 2008. فحركة "احتلّوا وال ستريت"Occuppy Wall Street  سنة 2011 وكذلك شعار ال "99 في المائة"، ألهبا الخيال ووضّحا حقيقة ذلك التقاطب الحادّ بين الدخل والثروة الذي حصل خلال العشريّات السابقة. ولكن مثلما ابرز ذلك المؤرخ "ب. ر. بينتو"Pedro Ramos Pinto، لم يقد هذا النجاح إلى القطع مع التعريفات الكمية والمالية الصارمة. فإذا كانت عودة هذا المحور إلى النقاش العمومي تؤشر على تحسّن بالمقارنة مع عملية التركيز على الفقر، فإنها رغم ذلك تقتصر على ما يتعلق بالأفراد أكثر مما هي تتعلق بمقولات وعلاقات مرتبطة أكثر بالسياسة: يتم التركيز على "شجب الآثار السلبية أكثر مما يتمّ البحث عن الأسباب"([11]).

ولكن بأي طريقة يتوجب الآن الاهتمام باللامساواة؟ ثمّة إجابتان كلاسيكيتان على هذا السؤال تحدّد كلّ منهما رؤية معارضة للأخرى: هناك تصوّر يقتصر على الآثار السلبية، وبالتالي هو يركّز على مجرد التفاوت في الدخل، وهو يقود إلى تعميق المساواة بالتقليص من الفارق المالي بين الأغنياء والفقراء. وينتج عن ذلك عالم يكون فيه التنافس الاقتصادي بلا رحمة، ولكنه عالم لا يخشى فيه أيّ كان عملية الخصخصة. إنه عالم لم يخطر على بال أيٍّ من المفكرين الاشتراكيين في القرن التاسع عشر، لكونهم كانوا يقيمون ربطا وثيقا بين اللامساواة ومشكل الليبرالية الاقتصادية.

وهناك تصور ثانٍ يسعى إلى تحقيق المساواة عبر حركة مضادة للسلعنة Demarchandisation وعبر دمقرطةDémocratisation  الثروات مثل العناية الصحية والتربية والنقل والطاقة، الخ. وهو تصوّر لعالم يقلّص من التبعية للسوق من حيث كونه يعمّم ويضمن حصول الجميع على العناصر الأكثر أهمية لحياتنا، وهو بالتالي يقلّص من التبعية لتلك الآلية المسؤولة عن أشكال اللامساواة([12]). لقد مرت فترة طويلة دون أن يُتّهم هذا المشروع بالطوباوية حتى من قبل أولئك المصلحين الأكثر اعتدالا.

ويمكننا أن نتساءل بطبيعة الحال حول سبب التمادي في المطالبة بهذا التقليص في اللامساواة في زمن يبدو فيه هذا الهدف المتواضع في حد ذاته مستحيل التحقيق. ورغم ذلك فإن حرية التعبير عن المواقف الايديولوجية سجلت عقب سقوط جدار برلين عودة قوية خاصة في جانب التيارات اليمينية. ويفترض في التيارات اليسارية في خضم هذا التحوّل الدرامي أن تشجع على بروز رؤية أكثر جرأة  لعالم يتجاوز يوتوبيا السوق. فقوّة الأفكار العظيمة لا تكمن في كونها تسعى إلى مجرّد إعادة توزيع بعض الأوراق، بل في تغيير قواعد اللعبة. هذه الرؤية الواعدة لمستقبل أقل فردانية وأكثر أخوية مثلت سنة 1942 دعاية  لتقرير "بفريدج". لقد دفعت بآلاف الأشخاص إلى الوقوف في صف الانتظار الطويل وفي البرد القارس، من أجل اقتناء نسخة من هذا النصّ التقني الجاف، نص لم تَقِلّ مبيعاته عن 635000 نسخة. ومثلما يقول كاتبه: "إن لحظة ثورية في تاريخ العالم، هي لحظة للثورات وليس للإصلاحاتRaccommodages ".

 

)[1]( Pedro Ramos Pinto, « Inequality by numbers : The making of a global political issue ? », dans Christian O. Christiansen et Steven B. Jensen (sous la dir. de), Histories of global Inequality: New Histories, Palgrave, Londres, à paraitre.

([2]) وليس الدولة الراعيةL’Etat providence .  نحيل القارئ هنا إلى المقال العلمي الدقيق للباحثة "ايزابيل كاسييهIsabelle Cassiers : "De l’État providence à l’État social actif : quelles mutations sous-jacentes ? », in Regards économiques, no 36, novembre 2005.  ، حول الانتقال من الدولة الراعية الى دولة الرعاية الاجتماعيةEtat social (المترجم),

)[3]( Lire “L’Esprit de Dunkerque”, quand l’élite cède…” dans : « Royaume Uni, de l’Epire au Brexit », Manière de voir, no 153, juin-juillet, 2017.

)[4]( Robert Castel, « La propriété sociale : émergence, transformation et remise en cause », Esprit, no 8-9, Paris, aout-septembre, 2008.

)[5]( Dwight Macdonald, « our invisible poor », The New Yorker, 19 janvier, 1963.

 ([6] ) يتمثل الدخل الشاملAllocation universelle  )  وله تسميات عديدة مثل : الدخل الاجتماعي المضمون Revenu social garanti، أو الدخل الأدنى للإدماج الاجتماعيRMI...)في قيمة مالية تدفع لجميع مواطني بلد ما، بغض النظر عن دخلهم وثروتهم ومركزهم المهني، تمكّن كل فرد على حدة من تلبية احتياجاته الأساسية (الغذاء والسكن ، الملابس وسائر الاحتياجات الأساسية). الهدف من الدخل الشامل هو أن يكون وسيلة فعالة للخروج من حالة التبعية للغير.(المترجم)

([7]) إن فكرة الأداء السلبيImpôt négatif  التي وضعها "فريدمان" في بداية الأربعينات هي صورة أخرى عن الدخل الاجتماعي الأدنى  الAllocations universelles  . ويتمثل المبدأ في ضمان حد أدنى من الدخل للجميع من خلال منظومة الأداء.

)[8]( Milton Friedman, « The distribution of income and the welfare activities of government », conference au Wabash College, Crowfordsville (Indiana), 20 juin 1956.

)[9]( Rob Konkel, « The Monetization of global poverty in Word Bank history, 1940-1990»,Journal of Global history, vol. 9., no 2, Cambridge, Juillet 2014.

)[10](  Samuel Moyn, Not enough : Human Rights in Unequal Word, Harvard University Press, 2018.

)[11]( Pedro Ramos Pinto, « The inequality debate : Why now, why like this ? » Items, Social science Research Couneil, 20 septembre 2016, https://items.ssrc.org

)[12]( Lire Bernard Frio, «En finir avec les luttes défensives », Le Monde Diplomatique, novembre 2017.

باحث في علم الاجتماع في جامعة بروكسال الحرّةULB.  ، وهو مؤلف كتاب فوكو والنيوليبراليةFoucault et le néolibéralisme  (Aden, Bruxelles, à paraitre en 2019)  ، أدار صحبة  "ماتيو ألالوف"Mateo Alaluf  عملا جماعيا بعنوان: Contre l’allocation universelle , Lux, Montreal, 2017.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟