هؤلاء الإغريق الذين يسكنون وجداننا وتفكيرنا وتأويلاتنا وتصوراتنا بمختلف مشاربها وأزمنتها وأمكنتها، هل بإمكاننا التفكير خارج جبتهم في الفلسفة كما الكوسمولوجيا، وفي السياسة كما العلوم، وفي الموسيقى كما الفنون؟ إنهم يمثلون هذا الحاضر، بل قل إنهم الحاضر وقد تنطع من القوانين التي وضعوها.. كل تفكير إذن لا يمكن أن يخرج عن إطار ما هو إغريقي حتى ولو كان يضاده أو يناقضه تماما، بل أكاد أقول أننا لسنا سوى صدى وإعادة تكرار لما حصل خلال سبعة قرون بميثولوجياتها ولوغوسها، بفنها وأدبها، وبخَطابَتها فمنطقها.. أليست فلسفة العصر الوسيط تثمينا للصراع الضمني بين الأفلاطونية والأرسطية في ربط شيق بين الثيولوجيا والأكسيولوجيا؟ إضافة طبعا إلى أفلوطين والذي إن لم يكن إغريقيا بالجغرافيا فإنه إغريقي بالهوى. أوليس الصراع الذي طبع الفلسفة الحديثة بين المدرستين العقلانية والتجريبية يجسد الصراع الضمني بين المعلمين الأول والثاني على المستوى الفلسفي والإبستيمولوجي والمنطقي والسياسي..؟
ألم يعلي هيجل من شأن السوفسطائية باعتبارها تأكيدا لروح الجدل؟ وهذا نيتشه الفيلسوف الفريد، لنعد إلى كل كتبه وبدون استثناء كي نرى أنه كان مسكونا إلى حد التطابق بما تركه وخلفه الإغريق، بل قد لا نتفاجأ عندما نجد الرجل يقول بصريح العبارة: nous les grecs في تجسيد منقطع النظير لهذه التبعية المعلنة دون احتشام.. والفلسفة المعاصرة بدورها هل يمكن فهمها وقراءتها بمعزل وبمنأى عن بارمنيدس وهيراقليطس وزينون وبروتاغوراس وجورجياس وديوجين وأبيقور وسينيكا.. كل محاولة للانفلات من الإغريق كتفكير وكتصور هي اقتراب ودنو منهم أكثر مما كانت عليه في السابق، سواء بمنطق التسليم أو بالرغبة في الانعتاق.. ولقد اخترت هذا النص الجميل الذي كتب عن هيراقليطس، إذ لو لم يتم ذكر من كُتب عليه، لقلنا إنه فيلسوف معاصر يعيش اليوم بين ظهرانينا وليس قولا كتب على رجل يبعدنا بألفي سنة وما ينيف، بل إنه يجسد الفلسفة المعاصرة وقد وصلت إلى درجة الاكتمال. ليس صدفة إذن أن نجد هذا التأثر البليغ الذي أبداه كلا من نيتشه ثم هايدغر بهذا الرجل ومن قبلهما هيجل، بل من الفلسفة الإغريقية بصفة عامة، بل لنعد إلى كتابات نيتشه الشذرية كي نضع الأصبع على السر في ذلك، نصوص تتنطع من التأويل الوحيد، تعلن تحديها للطريقة الميتافيزيقية التي لا تتجسد فقط في بناء المعنى وإنما أيضا في فعل الكتابة، تضعك في نفس الوقت أمام المعنى ونقيضه.. فهل يمكن أن نغامر ونقول: أليس نيتشه هيراقليطيا؟ أليس ترجمة لفلسفة هيراقليطس من الإغريقية القديمة إلى الألمانية، أليس تحويلا فقط في الموضع من أفسيس إلى بايرويث؟ أليس نيتشه تلك النقلة المختصرة للزمن من القرن السادس قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر بعد الميلاد؟ الأجوبة على هذه الأسئلة وأخرى يمكن أن نعثر عليها في النص التالي:
عاش هيراقليطس بمدينة أفسيس خلال القرن السادس قبل الميلاد، حيث يُزعم أنه كتب على الأرجح مؤلفا واحدا بطريقة نثرية، لازال يُحتفظ به لحد الساعة ب 125 شذرة، وإن تبدت للبعض أن أغلبها اعتبرت جامعة مانعة لأفكار عدة، فإنها تتميز ببعض الغموض وهو ما يبدو جليا في صعوبة تأويلها وتفسيرها، من ثمة سنحاول في هذا المقام إثارة بعض منها وإن عرف إعادة تشكيل ومراجعة للفكر الهيراقليطي.
والحال أن القانون الذي يحكم الواقع برمته بالنسبة لهيراقليطس، يتجلى أساسا في الصراع الأبدي بين المتناقضات دون أن يؤدي هذا الصراع لا إلى غالب ولا مغلوب. في هذا الصدد لا يسعنا إلا أن نشير إلى التأثر المباشر والمعلن الذي طبع نيتشه إزاء هيراقليطس.. والذي يمكن أن نلمسه من خلال الفكرة التي ترى أن الواقع هو نتيجة التوازن بين القوى المتناقضة: النظام واللانظام، الليل والنهار، الحق والظلم، والذي نسميه عادة بالخير والشر. هكذا نقول أن الواقع سيعدو بذلك نتيجة لهذا الصراع الأبدي بين المبدأين معا، إنه صيرورة مستمرة دون هدف، ودون غاية أيضا. بل إن هذا القانون سيجد لنفسه تعبيرات عدة لهيراقليطس، نقرأ مثلا في الشذرة 51: "لا يفهم الجاهلون كيف أن الأشياء المتنافرة هي التي تحقق الانسجام مع نفسها: فلنتأمل ذلك الاتحاد المتوتر بين القوس والقيثارة." ويضيف على سبيل المثال في الشذرة 59 قائلا: "إن الطريق نحو الأسفل والطريق نحو الأعلى واحد." ويزيد عن هذا في الشذرة 62 كاتبا: "الخالدون فانون والفانون خالدون، يعيشون موتهم ويفنون حياتهم."
هكذا نجد لدى هيراقليطس رفضا ضمنيا لمبدأ عدم التناقض وإن كان لم يعرف تشكله وتكونه في تلك اللحظة بما أنه ظهر بعدئذ ولأول مرة مع أرسطو. من ثمة فالحقيقة بالنسبة لهيراقليطس متناقضة، بل إنها تحمل في جوهرها التناقض. وعلى هذا النحو فالمتناقضات ليست مكملة فقط، وإنما تتعدى ذلك عندما تتحول بطريقة دائمة من واحدة لأخرى، متبعة بذلك قانونا ثابتا، وهو الأمر الذي عبر عنه هيراقليطس بصريح العبارة في الشذرة 88: "إن الشيء نفسه يكون حيا وفانيا، نائما ومستيقظا، في مقتبل العمر وشائخا، لأن الأول هو الثاني بعد فعل التغير، والثاني يتحول إلى الأول بعد التغير من جديد." والواقع أن ما أراد هيراقليطس أن يقصده في هذا المقام هو أن الأشياء تعود دائما، فالشاب على سبيل المثال سيعدو بعدئذ عجوزا، والحي سيموت في يوم ما، بينما النائم لا بد أن يستيقظ... هكذا نجد أن هيراقليطس قد كان مهووسا بفكرة الصيرورة التي لا تعرف أي ثبات على أرض الواقع، ولسان حالها يقول : كل الأشياء تتحرك، كل الأشياء تتغير. يكتب الرجل في الشذرة 51: "إن أم كل شيء هي الحرب، بل إنها أسمى من كل الأشياء، ففي بعضٍ منها صَنعت الآلهة، وفي بعضها الآخر جاءت بالإنسان، ولقد جعلت من هؤلاء الآلهة كائنات حرة، في المقابل جعلت من الإنسان عبيدا." ويعود الرجل بعد ذلك وبالتحديد في الشذرة 49، حيث عمل فيها على وضع قانونه الشهير بالفيض الأبدي: "إننا ننزل ولا ننزل في النهر نفسه، إننا نكون ولا نكون في نفس الآن." في المقابل فقد عمل ديوجين اللائرسي على إعادة صياغة هذه الشذرة حينما قال: "إن كل شيء يجري مثل النهر." لذا وباختصار نقول أن هيراقليطس بنى تصوره الفلسفي إزاء الواقع بكونه صيرورة أبدية لا تتوقف على حال بتاتا، إنه يحمل التناقض في جوهره، أو قل إنه يتبع نسبية كونية وجدت من يحافظ عليها كقانون فلسفي على غرار كراتيل، وأيضا بفضل السوفسطائيين كبروتاغوراس.
يكتب هيراقليطس في الشذرة 61: "في البحر: يوجد الماء الأكثر صفاء ونقاء، كما يوجد فيه أيضا الأكثر ضحالة واتساخا، إن الماء الصحي والصالح بالنسبة للأسماك فيه، هو نفسه غير الصالح والمميت بالنسبة للإنسان." إنه فعل للتجربة يرسم هذا التناقض الصارخ الذي يسكن البحر. وفي هذا الصدد يكتب الرجل في الشذرة 102: "كل شيء بالنسبة للإله جميل وخيّر وعادل، بيد أن الإنسان لا يكف على اعتبار أن بعض الأشياء عادلة وبعضها الآخر بخلاف ذلك." وكنتيجة لهذا فقد رأى كراتيل التلميذ الشهير لهيراقليطس أن شذرات أستاذه تمثل نموذجا للعبارات المؤسسة للنسبية الكونية، تتمثل بالأساس في أن ما قد يراه الفرد منا حقيقيا قد يراه الآخر عكس هذا، ولسان الحال يقول كل شيء نسبي، بل إن كل شيء ليس إلا مجرد وجهة نظر لا غير.. لا وجود لحقيقة ثابتة مثبتة، وهو الأمر الذي سيكذبه أرسطو بعدئذ في نظريته الشهيرة بالثني.
وعلى غرار الفلاسفة قبل سقراط، فقد كان لهيراقليطس أيضا قول سديد في الكوسمولوجيا، وبما أن قانون الواقع الذي لا يخرج عن إطار التناقض، أو قل مبدأ صراع المتناقضات، فإن العنصر الرئيسي الذي يحركه هو النار، إذ النار حسب فيلسوفنا هي المادة التي تجسد بحق الحركة الدائمة والأبدية، ولقد كتب بخصوص هذا الأمر في الشذرة 30: "هذا العالم الذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يخلق لا من طرف الإله ولا من طرف الإنسان، بقدر ما أنه كان منذ الأزل وسيبقى دوما، نار حية أبدية تشتعل بمقياس، وأخرى تنطفئ أيضا بمقياس." ويضيف في الشذرة 90: "كل شيء يتبادل انطلاقا من النار، والنار أيضا تبادلُ كل شيء، تبادلَ الذهب بالأشياء والأشياء بالذهب." لهذا نقول أن كل شيء مُكون من طرف النار، والحال أنه على المستوى الكوسمولوجي ستأخذ النار اسما آخر وهو الأثير، الذي اعتبر منذ القدامى حتى عصر النهضة بمثابة العنصر الخامس من الأسطقسات. هذا العنصر الخالص المُتلألئ الذي يُفعم ويملأ أقاصي وأعالي السماء، وبخلافه تشغل الرطوبة أدناها ـ السماء ـ أي كخليط بين التراب والماء. ولقد اعتبرهما هيراقليطس بمثابة نار منطفئة، بينما اعتبر الروح التي تسكن الإنسان نارا وقد بلغت حالتها الخاصة والمحضة. إنها تعبير مصقول يعبر على الواقع النسبي. كتب في الشذرة 45: "إذا قررتَ خوض مهمة السفر سعيا إلى بلوغ حدود الروح، فإنك لن تصلها حتى ولو سلكت كل المسارات والدروب، إن معناها لعميق بشدة." حكمة بليغة إذن تلك التي قالها هيراقليطس في هذه الشذرة. والحال أننا لحد الساعة نشتغل في دروس تاريخ الفلسفة المعاصرة عن سبب تأثر وولع نيتشه بهذه النصوص، إنها لبحق نصوص تثير وَجدنا لأنها تحتمل كل شيء ونقيضه في نفس الآن، فمن بإمكانه إذن أن يجد لنفسه فيها موطئ قدم بتأويلاتها اللامتناهية هذه؟ إنها تجل لهذا الارتياب الذي يسكن النصوص، ومقاومة لما يقبله العقل، وهو الأمر الذي أغرى نيتشه.