بادئ ذي بدء، وبلغة فوكاوية أنطولوجية راهنية واقعية، بلغة كذلك، النحن والعقل التقني، وعلى واقع فلسفة الاختلاف، التشظي، الشتات والهامش، نقدم هذه القراءة الهامشية حول هامش الواقع التقني الذي يفرض نفسه بنفسه على سيكولوجيات متعددة ومختلفة باختلاف أجناسها وأعراقها، وكذلك نستقرئ ما يفرضه هذا الواقع التقني على الفيزياء الاجتماعية من خلال نماذج على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي نذكر منها الصفحات الزرقاء الفايسبوكية على وجه التحديد التي تعرف بكثرة تعددها وتشظيها وانتشارها بشكل كبير، بل بشكل مهول، على هذا البرنامج الأزرق أو التطبيق المسمى بالفايسبوك.
إن من الأمور التي لا يمكن لأحد منا نكرانها راهنا، هي أننا اليوم في زمن التقنية أو لنقل عصر التقنية وسلطة التقنية التي لا مناص منها لأحد، أي كان، من استعمالها في حياته اليومية، سواء من ناحية المواصلات، العمل، التواصل ... ربما قد نقول إن جاز لنا قول ذلك، إن التقنية اليوم استعمرت الإنسان من جميع النواحي، على الإنسان نفسه وكذلك على الطبيعة في حد ذاتها، وقد نقول بطريقة أخرى أو ما شابه ذلك، إن الإنسان أصبح عبدا للآلة! و نقول أيضا بطريقة ما أو تلك وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس على أن التقنية في جانب عقلها الأداتي تتمثل من خلال عقلانية السيطرة والاغتراب في ظل غياب العقل التواصلي الذي عبره يمكن إعادة قيمة الإنسان في المجتمع و كذلك التخلص من هيمنة العقل الأداتي.
ربما كان ما سبق ذكره، عبارة عن مقدمة فلسفية شمولية في الموضوع كان لابد من البدء بها، وذلك قصد وضع الموضوع المدروس في سياقه العام، السيكولوجي من جهة والسوسيولوجي من جهة أخرى. و كذا مقاربة الموضوع على مستوى أبعاده الفلسفية الأنطولوجية على وضع ما بعد حداثي وكذلك الابستيمية .
إن هذا الموضوع الذي أمامنا يضعنا مباشرة أمام جملة من الإشكالات السيكوسوسيولوجية- التقنية، التي لا حصر لها، حيث نجد الأفراد يتعاملون مع نوع جديد من السلطة البعيدة كل البعد عن السلطة التقليدية، التي لا تقتصر على شخص ما أو طبقة أو دول والتي يمارسونها وتمارس عليهم بوعي منهم أو من غير وعي منهم، هذا ما يعني أن المجتمعات أمام نوع جديد ومتعدد من تقنيات السلطة التي تعمل على بلوغ غايات معينة عبر منهجيات ووسائل تقنية حديثة. إن هذه السلطة التي تتواجد في كل شيء بلغة فوكاوية، المنتشرة وغير المتموقعة في مكان معين، نجدها متمثلة في هذه الصفحات الفايسبوكية التي تعتبر سيفا ذا حدين، التي لها من محاسنها ما لها، ومن مساوئها ما لها، إذ، قد تظلم أو تظلم، قد تبني أو تهدم، قد تنير أو قد تظلم، قد تحتج أو قد تلهي، قد تغير أو لا تغير .. كل هذا الأخير يستخدم حسب درجة وعي الأفراد الذي يشتغلون في إدارة هذه الصفحات الفايسبوكية، كل وهمه الشاغل في إنشاء هذه الصفحات و لنا في مسمياتها عجائب العجاب فمنها ما سمي على ما يفتقده المرء في واقعه، و منها ما سمي على وحي من الخيال، ومنها ما سمي بمسميات غريبة من أجل لفت الانتباه إليها، ليس إلا، بغية جمع أكثر عدد ممكن من المشاركات، و نذكر على سبيل المثال في هذا الأمر بعضا من المسميات لهذه الصفحات، ك: (الحراكة، المبوق،عندما يتبوق الفلاسفة، حماقة، السوييد بليز، أوريا بلييز،غير خليوني، تناكت، ولاد العبد، الفضايح + 18، الساخط على البلاد...) بالاضافة كذلك إلى هذا، نجد الكثير منها، أي من الصفحات الفايسبوكية، تنشئ من أجل غايات محددة كالتجارة، الطب، الدين، السياسة، الإشهار، الحب، العنف ... كل هذا يبين لنا إذن على أن الكل من الذين يشتغلون في هذا العالم الأزرق يعبرون عن أوضاعهم المجتعمية والنفسية سواء المفقودة أو الحاضرة لديهم عن طريق صفحات هذا الفضاء الأزرق الافتراضي، كأنها مصحات عقلية بتقنية جديدة ؟ إن هذه الجملة من هذه الصيغ المتعددة لهذه الصفحات و ما تحاول التعبير عنه يضعنا أمام عدة اشكالات مقلقة تتمثل على وجه التحديد، في ما مدى استقلالية الإنسان عن التقنية في حياته اليومية؟ و ما علاقة هذا بحرية الانسان؟ هل الإنسان أصبح حرا كما يدعي؟ ألا يمكن القول بأن التقنية سلبته حريته؟ هل ما يزال الإنسان فعلا يفكر بعقله؟ أم أن التقنية حلت محل ذلك؟ إن كان كذلك فأي نوع من التفكير تصنعه هذه الصفحات الفايسبوكية داخل هذا العالم الافتراضي؟ و كذا ما مدى انعكاساته سيكوسوسيولوجيا على الأفراد؟ و نتساءل كذلك إن كانت هنالك من ثقافة أو وعي بهذا الانخراط في استخدام هذه الصفحات الفايسبوكية؟ هل يمكن اعتبارها وسائل إعلام شعبية يعبر من خلالها الأفراد عن أنفسهم؟ هل هي نعمة أم نقمة؟ أم كلاهما معا؟ من نحن والتقنية في شخص صفحات الفايسبوك؟
نحن لا ننكر الدور الهام الذي تلعبه برامج التقنية وما تقدمه للإنسان من منافع، عندما تفهم بالشكل المطلوب وتوظف بالشكل الصحيح، ويتم التعامل معها بتحكم معقلن، مبني على الوعي الثقافي لاستعمال التقنية، التي تتجاوز مبدأ القول الشائع الذي يرمي إلى أن المجتعمات التي لا تستوعب مفاهيم معاصرة مثل العولمة، فلن يزيدها من ذلك سوى التخلف والتهميش المستمر، لأنها تتعامل مع اديولوجيات حديثة متمثلة في العقلانية التقنية المتمركزة والمنبثقة من المجتمعات الرأسمالية الكبرى. صحيح كذلك أن لهذه التقنية في مضمونها، السياسي والاديولوجي سيطرة عقلانية، تقنية -عمودية، تبدأ من الفوق إلى الأسفل، لكن بلغة التشظي اليوم كذلك لا يجب أن نجهل أن هذه السلطة تمارس من قبل الأفراد من خلال منبر تلك الصفحات الالكترونية، كنموذج نشتغل عليه. فعلا هي ليست بمثابة عقلانية السيطرة في بنيتها الفوقية، لكنها تبقى عقلانية للسلطة كذلك، مادامت كما أشرنا سابقا، السلطة ليست في يد شخص واحد أو طبقة معينة أو دولة على حد قول ميشال فوكو. و مادامت هي هكذا، فلنأخذ على سبيل الذكر أيضا في هذا الصدد استعمال البعض، للصفحات الفايسبوكية للتعبير عن أحداث عن الواقع اليومي، قد تفرض ذاتها، للنقد، أو للرفض، أو للتهكم، أو للاحتاج ... عن حدث معين على مستوى الواقع المادي، و بالتالي نقول إن لهذه التقنية في شكل الصفحات الفايسبوكية نوعا من السلطة في حد ذاتها .
إن راهنية هذه التطبيقات التقنية التي تفرض نفسها، جعلت من تفكير الإنسان تفكيرا من نوع آخر، ربما يمكننا نعته بالتفكير الآلي، بالإضافة إلى أنها غدت عقل البعض، يعني أن التقنية تفكر بدلا من عقلهم، ناهيك على أنها جعلت من الأفراد عبيدا لها، وبالتالي فهي تسلب حتى فكرة الحرية من الإنسان نفسه، وبالتالي ففكرة أن الإنسان حر في عصر التقنية يجب مراجعتها، مادام الإنسان غير قادر بما فيه الكفاية على التحكم في ما اخترعه بنفسه؟ وعلى هذه المراجعة أن تكون نقدية، نقدا معقلنا، كما ينبغي أن يتجاوز استعمال هذه التطبيقات ما يسمى بالوعي المؤقت أو اللحظي، بل على هذا الوعي أن يتسم بالاستمرارية مادام الراهن راهن التقنية، ربما قد نقول عليها بصيغة نتشوية أخرى، هي تقنية مفرطة في تقنيتها ! و زيادة على هذا فالأمر يستدعي أن تكون هنالك ثقافة لهذه التقنية، بمعنى أن تكون لدى المرء سلطة على هذه التقنية، لا أن تكون عليه سلطة، وفي نفس الوقت فهي نعمة لمن يجيد استعمالها و نقمة لمن لا يجيد ذلك بوعي.