يَأسُ المُربّين انتصارٌ للإرهابيين.
بهذه العبارة ينهي فيليب ميريوه توطئة مؤلفه الجديد الذي وسمه بعنوان مثير"التربية بعد الاعتداءات" فنحن-يضيف-نعلم أن الحياة كانت دوما هشة،والإنسان كما الديمقراطية خلال لحظات يصيران تحت تهديد القوى التقليدية التي لا تزال تقطن عالمنا،ونعرف أن كل ما يشدنا في العمق قاتل،والحلكة يمكنها ذات يوم سحب الأمل في قدوم النور...
فما الذي يمكننا القيام به بهدف إسماع المنطق وصوت العقل لمن اختار سبيل اللاَعقل؟
مشاعر ديمقراطية:
واجب جَرد المكاشفة وواجب الابتكار.
يلزمنا،فعلا،القيام بجرد بيًنٍ للطريقة التي بها تركنا مؤسساتنا تنحرف لدرجة صارت تفقد معها جزءا كبيرا من الثقة.لقد عبَر كل من"فرانسوا جُورو" كما "إيريك فافي"الكاتب العام المساعد لعصبة المدرسين حول ذلك الموضوع ومنبر"المقهى البيداغوجي"،وذكروا بأن المدرسة لا تفِي حقا بوعودها،وأن الحق في تربية ذات جودة من أجل الجميع يظل وبشكل عريض مجرد أمنية...
ينبغي الإنصات لهم،دون الميل نحو الاتهام المثير للدموع بعبارات مثل"كان علينا أن..."ولكن،وهو ما يفرض نفسه الآن،وبتحمَل النظر إلى الأمام،بالقول:"يجب علينا أن...". كيف يمكن تَحمُل زحزحة القارات المدرسية التي ظهرت في بلدنا؟كيف يمكن تبرير الطابع المشين الشكلي للتربية المدنية والفنية؟كيف يمكن تقبل حرمان عدد من الشباب (في الثانويات المهنية ومراكز التكوين)من التكوين الفلسفي بينما-حسب دراسات ميدانية-هم يرغبون في ذلك؟كيف يمكن التساهل مع فقدان الطابع المؤسساتي للمرافق المدرسية حيث نوع من العَملقة-باسم اقتصاديات السُلم الشهيرة-يزرع اللامبالاة،ويترك الضغط والعنف يتطوران؟ كيف نبرر هذا التخلي الطوعي والمرغوب عن "مستقبل مشترك" يفرض نفسه اليوم أكثر،وحيث الاختلافات(عدم الاعتراف بها) تُهدِّد،إن لم يتم حصرها ضمن مشروع جماعي،بتفجير هياكلنا الاجتماعية؟
ينبغي التأكيد،طالما محاولات التفكير السهل والمزدوج كبيرة،أن هذا لا يبرئ في شيء الإرهابيين،والحركات المتطرفة،والدول النذلة التي تدعمها من مسؤوليتهم الجسيمة. غير أنه من اللازم توجيه النظر دون مواربة صوب أولئك الذين دفعناهم نحو صنف من"الصناعة"،أو لم نعرف كيف نهديهم اختيارات أخرى تمنح المعنى لحياتهم من دون القتل الهمجي.
الجرد مطلوب بشدة،ويمكنه أن يقودنا نحو نوع من التأنيب الداخلي العميق ،أو أسوأ من ذلك،نحو التخلي المتناغم عن نبوءة شرٍَ لها دوما ضمانة ثبوت: إنها تسمح،بالفعل،بادعاء القدرة على توقع الكارثة حين قدومها،والعمل على تحاشيها إن لم تأت.كل ذلك باختيار الإقامة،بانجذاب،ضمن اللاَأمل والذي يوفر داخل حلقات موضة عناصر الإعجاب النرجسي. لأجل ذلك،وفيما وراء الجَرد،فإن المربين،الذين يقومون بمهنة المستقبل مدعوون إلى الابتكار.ابتكار سياسي واجتماعي عليهم طبعا أخذ نصيبهم منه.
هو أيضا ابتكار بيداغوجي يرتبط بخصوصية انخراطهم المهني.إنها الفرصة،إذن، لتغذية تفكيرنا بالعودة لإنتاجات الكبار في البيداغوجيا: "بيستالوزي" وهو يواجه البؤس والعدائية تجاه يتامى "سانطاس" وقد قرر،مع وضد الجميع،تربيتهم،و"فرناند دوليني" وهو في مواجهة "الطائفة المحتقرة" "للحزمة الكبيرة" قبل أن يتحمل،وفي مواجهة مباشرة متألقة، الاهتمام بالأطفال المصابين بالانطوائية،وله كتاب(بذور الرعاع) يظل مؤلفا متميزا يجب أن يكون موضوع دراسة ممنهجة في كل المدارس العليا لتكوين الأساتذة .
إنها أيضا فرصة لإعادة قراءة واستكشاف كتاب الفيلسوفة الأمريكية"مارتانوسبوم" بعنوان"المشاعر الديمقراطية" وهو عمل له أهمية كبيرة بالنسبة للبيداغوجيين كتبته متخصصة في الأدب وتتجه لتطوير،إلى جانب"أمارتيا سِن"،مقاربة بيداغوجية تحت اسم"capabilitésأي قدرات جوهرية ذات وجود فعلي لا قدرات مجردة وشكلية.
مقاربة علينا منحها للأفراد حتى يتمكنوا من ممارسة حريتهم في إطار وضعيات ملموسة.
تبدأ"مارتانوسبوم"كتابها بتحديد ما تراه غاية نهائية رئيسية للتربية:تكوين التلاميذ للقدرة الفعلية على المشاركة في الحياة الديمقراطية،وتبرز، بعد ذلك،بدقة الأهداف البيداغوجية التي ينبغي علينا الاهتمام بها قصد بلوغ تلك الغايات:أن نعلم تلاميذنا الدخول في علاقة مهادِنة مع الآخرين والتفاعل جماعيا ضمن احترام متبادل بهدف الوصول إلى الخير المشترك،بعد ذلك،ولوضع مقترحات ملموسة تتساءل الكاتبة عن العملية الفكرية(الذهنية) التي يجب القيام بها لبلوغ تلك الغاية وتعرفها كالتالي:"ينبغي أن يتعلم الطفل كيف يتحدد في علاقة بمصير الآخرين،والنظر إلى العالم من خلال أعينهم والإحساس بآلامهم واستعمال الخيال لأجل ذلك.وبهذه الطريقة،فقط،يصير الأفراد(الآخرون)البعيدون حقيقيين ومساوين له "
بهذا تلتحق المؤلفة بالملاحظات الثمينة ل"أدورنو" الذي تساءل في "التربية بعد أوشفيتز"عن كيفية بناء عالم يصير تكرار الرعب فيه ومعاودته مستحيلا.يشير "أدورنو"إلى أنه،لأجل ذلك،من الضروري النضال ضد ما يسميه ب"الفتور":اللامبالاة المطلقة تجاه ما يحدث للآخرين باستثناء بعض الأقرباء الذين نختارهم.آخرون يعتبرون فقط بمثابة"مواضيع" ووعي مُتَشَيءٍ بتعبير "أدورنو"حيث أمكن لأفراد وبوعي مهني مثير "تخيل نظام نقل يقود الضحايا بسرعة أكبر وبسهولة قصوى نحو "أوشفيتز"،كل ذلك عبر نسيان ما سيحدث لهم هنالك".يعرف الجلادون المتلاعبون ذلك:لقد فهموا إلى أي درجة يمكن أن يصير أفراد صانعين بارعين للهمجية،مبَرمجين على طاعة الأوامر الأكثر رعبا،بمجرد ما أن يجدوا مُتعتهم في الشعور بميزة خدمة عمل جماعي،ولهم اليقين في عطف موعود من لدن القائد أو الإله، والسعادة بالحصول على تقدير أقرانهم ومكافأتهم مقابل العمل المنجز بعناية"(...)
التربية بعد "أوشفتز" كما التربية بعد الاعتداءات هي إذن نوع من إعادة السياسة،وإعادة القدرة للبشر من أجل تشييد مدينة على الأرض وإن كانت رديئة،ومساعدتهم على الابتعاد عن محاولة رفع،والسلاح باليد،مُطْلَقٍ غير قابلٍ للسؤال.
تدريس الشك يجب أن يكون دون التأرجح نحو النزعة المتشائمة(فلسفة كلبيةcynisme)،وتحُمل اللاّيقين دون الترخيص بأي شيء.الترخيص لكل واحدة وواحد بمقاومة الخضوع للضغوط الهدامة التي تمارسها جماعة،والسماح بالتعبير عن الأسى والارتِياع النابع من نتائج الأفعال الخاصة،ثم إثارة،ولدى الجميع،التفكير النقدي حول الذات".
هل ينبغي لأجل هذا،يتساءل "أدورنو" أن نحرص على"الوعظ للحب"،هذا لا يفيد في شيء،حينما نطلب من كائنات بأن ينصتوا لشيء لا ينتمي لتكوينهم الفكري"ويفترض لدى الذين نتوجه إليهم بنية أخرى مميزة غير تلك التي نرغب في تعديلها"
نحن لا نُقنع،ولا يمكننا أن نرغم أحدا على أن يُحب.لكن هل من الضروري على الرغم هن هذا اللجوء إلى ذلك "الفتور" وآثاره المرعبة؟ أبدا.
إذا كان العجز عن التَحدَد(تعرف الذات)بالنسبة للآخرين هو،وفي جزء منه على الأقل،المسؤول عن المرور نحو الهمجية،فعلى التربية أن تسمح بالوعي بذلك "الفتور" وبأسباب وجوده،لذا يلزم تَحيين مساراتها المُضمَنة،والتي يسمح لنا التاريخ النقدي برصدها،وتَحملُها في العادة أعمال الثقافة.
إن الولوج إلى تلك المنطلقات يمكنه أن يفتح بعض التصدعات داخل كتلة اللامبالاة الغرانيتية.
وأبدا لا تكون العملية بطريقة ميكانيكية لان اللقاء بين التاريخ المفرد للذات وبين "كلمة"/وعد حول العالم لا يُبرمَج بشكل عابر وسريع وأن التكوين النفسي الدفاعي يستعيد بسرعة تفوقه،وفي سريّة، لأنه من الصعوبة الإفصاح عن ذلك لأي كان،وبشكل خاص للأستاذ الوسيط الذي يلزم إذن الاعتراف له بنوع من المسؤولية(التزام ودَين خاص) كما أن المربّي لا يمكنه أن يصير سوى مزودا عنيدا للفرص،ومن دون إيحاءات حول صعوبة الدور،وأيضا دون التخلي بالمقابل عن أهمية الرهانات.
عليه ان يتواجد في "مكامن" النصوص والمؤلفات التي يمكنها إثارة بعض انتقالات وجهات النظر،وبعض إضاءات التعاطفية،وبعض الانبثاقات المبهرة للذكاء، ثم القطع بالتالي مع التقوقع داخل اللامبالاة.
إن منح تلك المزايا دون انتظار أقل إشارة حول صلاحيتها الفورية،ولا فرض أدنى اعتراف، ثم إرفاقها بممارسات بيداغوجية،يمكنه السماح لكل واحد بالوعي، وبالدخول في تفكير لا يغلقه بسرعة هاجس الفعل الفوري،وفي النهاية الولوج بتدرج نحو الاستقلالية بالمعنى الكانطي: فلتكن لديك الجرأة على التفكير الذاتي !
التربية على الديمقراطية،ممكنة !
هو ما تقوم به،فعلا،"مارتا نوسبوم" وتقترح علينا في مؤلفها ثلاث حلقات ملموسة مقرونة بعدة أمثلة :ممارسة النقاش ،وهاجس تكوين "مواطني العالم" ثم عرض التخيَل من خلال الأدب والفنون.
وهكذا،تجاه مؤسسات-أو مرجعيات-تضع جنبا إلى جنب،غالبا،غايات طموحة وممارسات روتينية بأقل تكلفة،تعيد"مارتانوسبوم" للانخراط التربوي استمراريتَه الضرورية بين غايات ومتغيرات.إنها تسمح لنا بالخروج من حالة سكيزوفرينيا بين النظرية والممارسات،سكيزوفرينيا تنزع الشرعية بقسوة عن كل فعل تربوي.إنها تدعونا،حسب تعبير ومقاربة "دانييل هاملين" للسير دون كلل في اتجاهي السلسلة التي تربط بين ما نريده وما نقوم به،غير أنها لا تقوم به بطريقة ميكانيكية أو تطبيقاتية، بل وهي تعي بأن الابتكارية البيداغوجية،ووحدها التي يمكنها،بعيدا عن أنظمة الرقابة التكنوقراطية،أن تربط بأصالة بين المبادئ والأفعال بقصد ملء دائرة الوعد باقتدار.
تنطلق"مارتانوسبوم" في عرض استدلالها بالتمييز بين نظامين من أنواع التطور دون أن يكون لهما وجود "في حالة خام" بالمعنى الفعلي،ولكنهما يمثلان نماذج مرجعية تسمح بالنظر إلى كيفية تموقع كل بلد وكل مؤسسة في العلاقة معهما.صدام الحضارات الذي تتحدث عنه يختلف عما نتداوله غالبا حوله ويجري داخل كل مجتمع. إنه يضع التعارض بين نموذج يتمركز حول النمو الاقتصادي أيَا كان الثمن،ونموذج يتمركز حول التنمية البشرية.
في النموذج الأول،يكون الأساسي بداية هو خلق تنافس بين الأفراد باعتباره المحفز على الثروات المادية،وتوزيعها يكون بناء على الاستحقاق.
في النموذج الثاني،الأساسي هو مبدأ المساواة في الحقوق الحيوية للأفراد: الحق في الصحة،وفي التربية،وفي ممارسة نشاط معترف به داخل جماعة متضامنة،والمشاركة فعليا في النقاش الديمقراطي.
تبرز"نوسبوم" من خلال تحليل،وبشكل خاص،أمثلة من الصين والهند بأن الولوج إلى الحرية والمساواة بين الأفراد لا يرتبط أبدا بالنمو الاقتصادي،بل على العكس،إن النمو اليوم-حينما يوجد أو يكون مطلوبا بأي ثمن-يخلق حالة تنافس،وينمي الفوارق ويثير كافة أشكال الانحراف...
وحتى التربية التي تقترحها البلدان التي تنظر للنمو الاقتصادي باعتباره هدفا أوليا فهي تتأسس على "مزيج"من التطوير التكنولوجي وإذعانا لفكر"إنها تستند على شعور قلق معرض للجرح من أجل نشأة مشاعر لا شيء فيها ديمقراطي": النفور والنظر بإحجام إلى الآخرين باعتبارهم تهديدا،والانطواء العشائري والهوياتي تجاه دسيسة أولئك الذين ينقصهم النضج(موضوع بذاءة) والعدوانية ثم العنف المدمر.
يسمح النموذج الديمقراطي،ضدا على هذا النوع من الشعور،لكل طفل ومراهق طيلة فترة تربيته بالاعتراف بالآخرين-كل الآخرين-باعتبارهم أفرادا يستحقون الولوج إلى نفس الحقوق لأنهم يتقاسمون معه نفس الشرط.(الانتماء الإنساني).
حينما تصف التربية المؤسسة على الربح والسلطة العالم بطريقة،ودوما آلية، مَانَويّة،واضعة التعارض بين "الأخيار" وبين"غيرالطيبين"،بين "المنتخَبين" و"المقصيين" يجب على التربية القائمة على الديمقراطية أن تفضي إلى قراءة الواقع المعقد للوضعيات والتناقضات التي تَعبُر كل واحد بيننا والطريقة الممكن بواسطتها تجاوز تلك المحاولات التراجعية لأجل المساهمة في "الخير المشترك".إنه ما يستحق كل تقدير الآداب إذ تسمح بذلك الاكتشاف،وتقدم فرص الولوج إلى تعقيد الكائنات،وتساعد على فهم إمكانية تجاوزه،وأكثر من ذلك فالتربية على الديمقراطية تزرع "الآمال الديمقراطية"التي تؤسس إمكانية،والرغبة في، العيش معا.
ثلاث ممارسات بيداغوجية من أجل مواقف و"مشاعر ديمقراطية" :
طوّرت لأجل هذا"مارتا نوسبوم"ثلاثة محاور قوية تكشف ضرورة محوريتها ضمن هيكلة أنظمتنا المدرسية:
ممارسة النقاش الحجاجي المبني على الاستدلال والعمل على إرساء الارتباطات المتفاعلة داخل المواد وفيما بينها،ثم أخيرا السير نحو حقل الفنون والانفتاح عليها.
إن ممارسة النقاش،هي بالفعل،ضرورية ومنذ البدايات الأولى ،غير أنه هنا لا مجال للمزج بين النقاش القائم على التبادل الودّي للآراء والمناقشة ب"العصي المنكسرة" حيث يمكن لفئة قليلة من التلاميذ الجيدين أو من ذوي الزعامات الكاريزماتية فرض وجهات نظرهم،لهذا في رأيي ينبغي ممارسة فعل المناقشة عبر وضع قاعدة بيداغوجية أساسية : العمل على تبادل-وبتناوبٍ- الأدوار،حتى يمكن لكل واحد التحوّل للدفاع عن وجهة نظر الغير بعدما كان في وضعية الدفاع عن رأيه الخاص .
هذا الاقتراح،والذي نجده لدى كثير من البيداغوجيين يبدو لي،بالفعل،أنه حاسم لأن المدرسة ليست أبدا مجالا ديمقراطيا،بل هي مجال للتكوين على الديمقراطية،والنقاش يلزم أن يكون فيها شيئا آخر لا مجرد جدال لفظي سطحي أو مواجهة عنيدة مُتَعنِّتَة. ينبغي أن يساهم النقاش في تكوين المتعلم ودفعه نحو هيكلة تفكيره،ومن الضروري إذن أن تسهم قواعد دقيقة وتجنّب كل واحد من التقوقع حول آرائه،وتسمح له بإعادة فحص ما يعتقد المعرفةَ به قصد الارتقاء والتقدم نحو الأفضل.
ينبغي عليه،بمعنى مّا،الدخول في لعبة الأدوار مع الغير والمحاججة ثم البرهنة حتى يصير اقتراحه نفسه غَيرِيّاً( ينتقل إلى حقل الآخر) ويستطيع تحمّل تطوره من غير جحود وإنكار.
لقد كشف "جيرارد دو فيشي" حديثا أن تلك الممارسة بعيدة عن أن تكون محصورة عند مواد دراسية معيّنة مثل التربية المَدَنيَّة،اللغة الفرنسية،أوالفلسفة، بل يمكنها أن تشمل كافة المواد،وهذا منذ طور المدرسة الابتدائية. طبعا ينبغي فحص الوسائط الملائمة ووضع عدّة تدابير مناسبة ثم إنجاز عمل وثائقي قبلي،وإن كان النقاش الجيد تحضيرا وتسييرا،بعيدا عن يفضي إلى نوع من النسبَويّة المعمّمة حيث تتساوى فيها وتتناسب كل الآراء، يسمح بتسجيل ضرورة الدقة والضبط في خضم الممارسات داخل القسم .
يمكننا لذلك الاستناد على تساؤلات التلاميذ،أو الانطلاق من التعارضات العلمية التاريخية،أو القيام بتحليل نقدي لنصوص تعميمية تبسيطية أو حتى فحص "أسئلة حيّة"(راهنة). يسمح، بالتالي، الطابع السطحي الذي يفرضه أسلوب تناوب الأدوار،في حلقة دائرية،للمدرسة بالقطع مع الممارسات الاجتماعية المألوفة للمناقشة،ويفضي إلى تقعيد المعارف،والتي تفقد في أعين التلاميذ خاصيتها الاعتباطية . تشكل المناقشة في القسم، إذن، مناسبة للبحث عن الحقيقة وفرصة لتفاعل وتبادلات ديمقراطية ،كما أنها تُوحِّد،ومن الوجهين معا، وبهدف نفس الضرورة المؤسِّسَة للمدرسة : تكوين المواطن .
الاقتراح الثاني ل"مارتا نوسبوم" يقود إلى نوع من الالتزام داخل كل مادة وفي كل الأعمال حيث تتقاطع المواد،ثم التصرف عبر تمديد الحقل بوتيرة نسقية من أجل السماح باكتشاف التبادلات(التفاعل داخل الفصل) وأشكال التضامن. يتعلق الأمر هنا بتكوين "مواطن العالم" ليس فقط عبر تعليمات وصيغ جزئية،ولكن أيضا عبر اكتشاف الارتباطات المعقدة التي يقيمها الأفراد (تبعية متبادلة) فيما بينهم ومع العالم. إن التفاعل يعتبر فعلاً قائما قبل أن يكون قيمة بتعبير "ألبير جكارد".
نحن بعيدون هنا عن مجرد تثاقف بيني نسبَوي يقوم على الطابع الفلكلوري للاختلافات، ومزج كل مرجعية إيتيقية وجمالية. يتعلق الأمر بشيء آخر تماما : اكتشاف متدرج للصور، ومعنى ما يحيط بنا بغاية فهم كيف أن كل ذلك "يصنع نظاما"،وبالتالي نماذج من مفهومية حول الذات وحول العالم فيها،وبفضل جسارة الفهم والإقدام إليه، نُؤسِِن الغيريّة والغرابة.
تلح،أخيرا "نوسبوم"على اللقاء الضروري بالأدب والفنون:إنها تعتبر ذلك ضروريا بالنسبة لتكوين الحس والمشاعر الديمقراطية بما تسمح به من الولوج إلى "الخيال السّردي" .
أعني بهذا،كما تشرح ذلك،القدرة على تخيّل الأثر الذي يحدثه التموقع مكان الآخر،وتأويل،بذكاء،تاريخ ذلك الشخص،وفهم المشاعر والأماني والرغبات التي يمكن أن تكون لديه لأن تعلّم رؤية كائن إنساني آخر ليس بمثابة شيء بل باعتباره شخصا،لا يأتي تلقائيا :إنه تعلّم وبناء ،والفن،لأجل هذا،ضروري إذ أنه يفضي،وفي نفس الآن، إلى رؤية
الهويّة والغيرية. إنه يسمح بالتعرف على الذات،و"التعرف على الذات كآخر" حسب العبارة المثيرة ل"بول ريكور".
نجد هنا الاقتراحات التي وضعتها حديثا الأستاذة الجامعية "هيلين ميرلان كاجمان"في كتابها " Lire dans la gueule du loup "حيث تقول أن" تدريس الأدب تحوّل مع حلول مواد مليئة بدراسة النصوص في العلوم الإنسانية والاجتماعية.لقد كان الربح لافتا في المجال الإبستيمولوجي،إلا أن النصوص الأدبية ينظر إليها،بعد الآن، كما لو أن لها وجودا خارج الروابط الانتقالية التي تحيكها لأجلنا" والنتيجة هي أن "التقاسم الانتقالي" الذي ينشأ عبر الآداب في الأقسام قد تراجع فاسحا المكان لمقاربة تركز على الموضوع وأكثر تقنوية .لم يعد الأدب ينتج "التقبُّل العاطفي" بين الأطفال أوالمراهقين والراشدين.إن التقاسم الأدبي الذي يسهم في بناء هذا العالم المشترك،والذي نطمح إليه،صار محلّ تراضٍ (واتفاق).ينبغي إذن الاشتغال على نصوص،بعيدا عن خلق حالة اللامبالاة،تخاطب مستويات ومناطق الفرد الإنساني،والتي هي أساس وجودنا،وليس العودة إلى الممارسات الديداكتيكية الشكلانية القديمة كما الحديثة .
تقاسم الحسّ الأدبي"عاطفة أدبية" يمكنه أن يتم دون انتهاك حميمية الذات ،وبالحرص على تخفيف حالة الإضطراب/الصدمة التي يمكن أن يحدثها:"القارئ لا ينبغي أن يكون مرغما لا بالكشف عن حميميته ولا بكبتها،ولكن أن تكون له القدرة على تحويلها وتغيير مكانها"بتعبير "هيلين ميرلان".
تسمح له ،فعلا،القوة الرمزية للنص بالتعرف فيها على ذاته ورسم مسافة معه،حيث الخطاب الأدبي يقحمه في ذاتيته،ويبعده في نفس الوقت من نرجسيته.الشخصيات تجسد ما يعيشه دون أن تشابهه،تعلن فَرادَته وهي تربطه آناً مع الآخرين،فيمكنه بالتالي تكوين هويته وهو منخرط ضمن ما يصنع المجتمع .
حتى تشيّد التعاطفية مجتمعا .
إن تلك المقترحات تؤكد أطروحة"نوسبوم" حيث الممارسات البيداغوجية يمكنها تغذية المشاعر الديمقراطية،وتبدو لي هذه النقطة مهمة اليوم،وبشكل مطلق.
على الرغم من ذلك ،أعتقد أنه يلزم إتمام هذا التحليل. إن التعاطفية بالفعل حيوية تفاديا للمعاملة غير الطيبة،ولأجل بلوغ لقاء مميز بالآخر،ولكن هل ينبغي،مرة أخرى،بتعبير "أندري بِّيريتي"، أن ندخل في مرجعية الآخر..دون أن نتيه فيها"؟."دون تيه" يعني التوفر على وسائل الرجوع إلى الخلف،والخروج من التَحَدُّدِ، وبناء تبادل بفضل التحكم في اللغة،وعبر تعلم يومي ل"ما معنى أن نتكلم". هنا ضرورة الدقة والعدالة والحقيقة .إن الانفلات من التداخل المنهجي بين المعرفة والاعتقاد مطلوب دوما،وبذل الجهد لأجل ذلك،حتى لا نطلب من أي كان "الاعتقاد بشخص بناء على قول" ولكن عبر فحص المصادر وإعادة البرهنة والذهاب للنظر عن قرب أكثر،كل هذا ضروري .
ويبدو لي أنه من الأساسي التأكيد على بناء الجمعي،والإمكانية الممنوحة لكل فرد في الحصول على مكان ضمن ذاك الجمعي هي مسؤوليته،والقيام بنوع من التجريب للسلطة المشروعة،تلك التي تمارَس بنفس القدر الذي نضع فيه سلطة تصرف في خدمة مسؤولية ضمن المصلحة المشتركة .أخيرا،أؤكد على ضرورةٍ-وهي بشكل خاص مهمةُ اليوم بالنسبة لي-أن نمنح للتلاميذ دلالة وقواعد الاكتشافات المنجَزَة وتسجيلها ضمن إطار مؤسساتي،لهذا أتساءل منذ زمن طويل حول إمكانية والحاجة لإدراج القانون باعتباره مادة للتمرين في منهاج التكوين،وهذا يكون من طور الابتدائي إلى مستوى الثانوي. بعد كل هذا،وفي مجتمعنا الحالي،لم تعد التعاليم هي ما "يمسك الأفراد معا" بل إنه القانون،وينبغي أن يفهم التلاميذ بأي معنى يحميهم القانون،وما الذي تعنيه مبادئ مثل "لا أحد يمكنه أن يطبق عدالته بنفسه" "و"لا أحد يمكنه أن يكون في نفس الوقت قاضيا وطرفا في القضية" من حيث أنها (المبادئ) عناصر مُحَرَِّرَة .
ألسنا نحن هنا ضمن مفارقة قصوى؟ نحن الذين نعلن أن "لا أحد له الحق في الجهل بالقانون" ونرفض في نفس الآن تدريس القانون .
إن البيداغوجيا بعيدة عن أن تكون عاجزة في مواجهة الهمجية .مؤكد أنها ليست قوية بما يكفي،ونجاحها لم يكن أبدا مضمونا : إن تكوين إنسان هو ليس صناعة موضوع،وليس لدينا اليقين أبدا بما يمكن أن يصيره. البيداغوجيا لا تشتغل هكذا بوثوق!
من حسن الحظ أن الديمقراطية هي كذلك! وهو ما يصنع في آن واحد تألقها وهشاشتها،وهذه الهشاشة(بالمعنى الإيجابي وهو ما يقصده المؤلف)هي ما ينبغي علينا الدفاع عنه ضد قوة الدوغمائيات وعنف التوتاليتارية لأن هشاشتنا هي بهذا المعنى خَيرُنا الأكثر قيمة وثمنا.
المقال الأصلي وعنوان الكتاب :
Des « émotions démocratiques » ?pp.19-32
Philippe Meirieu ,Eduquer après les attentats, éd.ESF,2016,Paris.