مدخل:
إنّ التربية مـن بــين الحقول الــتي تقترن الـممارسة المهـنيّة فيها بــالتّنظير أي بجملة مـن المعارف و النظريّات. إلا أنّ ما يـلاحظ أحيـانا هــو انزياح بـعـض الـرّؤى التربـويّة إلى متغـيـّر التجربة و الخبرة على حساب الأطر النظريّــة المرجعّية بحــيث تستحيل الممارسة البيداغــوجيّة خلوّا من كل سياق يؤطرها و يوجّهها. وهو ما يوافق أيضا بعض الاتجاهات التربويّة التي تذهب إلى اعتبار التدريس كمهنة يتعلّم بالممارسة لا غير. إذ كلّما طال أمده وجه فعله.
إن هذه الملاحظة الأوليّة تقودنا إلى إعادة النظر فــي "معنى أن ندرّس" أعني فـي دلالة فـعـل التدريس كمهــنة، و فــي ضرورته و سياقاتـه لأن نـقاطا عديــدة تــقترن بهـذا المتصوّر الخاطئ وتتوارى خلفه منها :
▪ إنّ المطالبة بأن تكون لـلمدرّس اليــوم أرضيّة نظريّـة متيـنة توجّــه ممارساته البيداغوجيـّة وتطوّر مسالك فعله هي من قبيل التنظير البيداغوكراطي( pédagocrate) .
▪ إن التدريس مهنة يتعـــلّم بالتجربة و الخطأ، وهو ما يبرّر بالضرورة أخطاء المـدرّس و ما قد يترتب عــنها من أثـر علـى المتعـلّـمين، ذلــك أنــّه يكفي أن تعرف مـا تــدرّس، و لـيس كيـف تدرس، حتى تصبح مدرّسا.
▪ إن مقاومة عنيفة لكل تجديد و مبادرة تتخفى وراء هذه الرؤية. فالتفسير القدري(fataliste) التقليدي هــو الذي يــبرّر الفشل و الإخفاق و يحكم في الأثناء على جهود المتعـلّمـين باللاّجدوى.
▪ إن فشل المتعلّمين مردّه غياب الدافعيّة(motivation) لدى الكثير منهم و ضعف مستوياتهم و استقالة أوليّائهم.
إن هذه الأحكام الانطباعيّة تبدو هشّة على ضوء منجزات علوم التربية حديثا، فالتربية حـقل ينمو و يتطوّر و يستدعي في كــل حين " مراجعــة جملة مـــن المنطـلقـات النظريّــة بمساءلة الأسـس الابستيمولوجيّة و النفسيّة للمناويل البيداغوجيّة (1) ". ذلك أنه تـوجد راهنا قاعدة بحــوث نظريّة ثريّــة تكــشف بما لا يدع مجــالا لــلشكّ أنّ الممارسة البيداغــوجيّــة للمــدرّس يــمكــن أن تمـثّل عامـــلا محددا لنجاح المتعلّمين آو فشلهــم . نحــن إزاء مقاربة تتحدّث عن أثر المدرس (l’effet enseignant) دون تــجــاهــل طبعا أثــر المحيط (l’effet du milieu ) و أثــر النـسق (l’effet système).
هذه المقاربة تتأسّس على الفرضيّة التاليّة:إنّ ما يحمله المدرّس من مواقف و أحكام حول التعليم و التعلّم يحدّد بشكل كبير أفعاله البيداغوجــيّــة ، فالمدرّس ليس تقنيّا خالصا و مهـنـة التدريس لا تقـوم على الرأي القـائــل " درّسوا كما رأيتموني أدرّس" أو الشعـار السّائد خطــأ " درّسوا كما تطلب البرامج الرسميّة و الوثائق المنهجيّة أن تدرّسوا " (2) . مقصدنا من ذلك ليس العدول عن المبرمج و المقنّن من النصوص و التشريعـات المتعلّــقة بالشأن التربـويّ و البيداغـوجيّ، و إنّـما مساءلة لكل تنميط و نمذجة، و في المقابل انجذاب و انحياز إلى كل استقلالــيّة و مسؤوليّة ذاتـيـّة في الأداء و الممارسة."إن الاستقلاليّة هي قبل كلّ شيء بيان حريّة ((manifeste de liberté هي إعلان عن إرادة حرّة تمارس خياراتها بمعـزل عـن كل ضغط خارجيّ "(3) ولا يتأتى ذلـك إلا بوعــــي حـادّ و مسـؤول بالمهـنة و مقـتـضــياتها، حيـنها نـــتحدّث عـن المـدرّس المحـتـرف "فالاحتراف يتدعّم، مهما كانت المهـنة، مـــتى تركت التوجّـهات المنهجيّــة و الضوابــط مكــانها لاستقلاليّة توجّهها أهداف واضحة يمكن بلوغها و قياسها، و لأخلاقيّات تمــنع كــلّ ممارسة تخلّ بمصالح الأطراف المعنية و المجموعة " .
la professionnalisation s’accentue lorsque, dans un métier quel qu’il soit, les directions méthodologiques et les règles font place à une autonomie guidée par des objectifs clairs, dont l’atteinte est évaluable, et une éthique interdisant les pratiques contraires aux intérêts des usagers ou de la collectivité. (4)
ضمن هذا المشغل يكون حديثنا، المدرّس محترفا و ليس مجرّد مهنيّ، هو طرح استشكاليّ قطعا، و لكن لنفيض القول بداية في ما كنّا استهللنا به هذه المداخلة من علاقة النظريّ بالتطبيقيّ. فـــأيّة علاقة ؟
ê- في علاقة النظري بالممارس في مهنة التدريس :
نسمع بين الحين و الأخـر يقينـيّــات من شاكـــلة : كلما كانت تجربتنا تليـدة في التدريس كّلما كان أداؤنا جيّدا، أي أنّ معيـار النجاعة هو الخبرة و الأقدميّة دونما اعتراف بغــير ذلك من محــدّدات الإجادة المهنيّة. و يخفى على الكثير أنّه " ليس ثمّة من ممارسة حقيقيّة أفضل من نظريّة جّيدة " علـى حــدّ تعبير كـيـرت لويـــن (k.Lewin): « IL n’ya de plus pratique qu’une bonne théorie. »
▪ النظريّة و منها النظريّ تحيل بداهة إلى ملاحظة الواقع و إلـى التصوّرات و التمثّلات الـتــي نحملها عنه. هي بناء ذهنيّ يسمح بتنظيم عديد الظواهـر و تفسيرها و بذلك نهتدي إلى معرفة مـا نحن ضمنه أو حوله من الاستحقاقات، و منها قطعا ماهو تربويّ. النظريّة أيضا عامل للاقــتصاد الذهــنيّ (un facteur d’économie mentale)، فـبحــكم محـدوديّة تعـاملنا أحـيانا، عقليّا، مـع حقيقة مركّبة و معقدة، فإنـنا نبحث عن أن نكوّن فكرة عنها، أعني أن نشتغل نظريّا عبر تمثّلات لها في الذهن يكون لهـــا امتداد فـي ذواتــنا و في واقعـنا المـوضوعيّ. هـذا الجهـد النظريّ يمثّل بالنسـبة للمدرّسين نظريّاتهم البيداغوجيّة التي تمكّــنهم مـن معرفـة حقـيـقة القسم و اخــتيــار أقوم المسالك في التواصل معه .
و تمثل هــذه الأسـس النـظـريّـة مرتـكزات الفعل الـبـيداغـوجـيّ، و المـدرّسون لـيـسوا مغـايـرين لغـيرهــم مــن المهـنـيّـين، فتصـوّراتـهـم تتغذّى مــن مصادر متـنـوّعة، بعـضـها يُـبنى تـلـقـائــيّـا وحدسيّــا(intuitivement) ، و بعضها الآخــر يرتدّ إلى التجربة الذاتـيّــة أي إلــى الملاحـظـة و المـمارسة، في حين يكــون للتمشّــي المنهجيّ المتبصّر و العقلانيّ الأثر الكبير في إنتاج بعض هذه التصوّرات و الأطر المرجعيّة لممارساتهم البيداغوجيّة. لنأخذ لنا أمثلة على ذلك أي ما يمثل حسّا مشــتركا (un sens commun) بــيـن طرفي المعادلــة البيداغوجـيّـــة: المدرّس/التلاميذ، فالاعتقاد مثلا بان نتمنّى للمتعلّمين "حظّا سعيدا " عند إجراء الاختبار هو تصرّف ايجابــيّ مــن شأنه أن يشجّعهم و يساعدهم على تخطّي إشكالياته . كذلك الشّأن بالنسبة للتدريــس عشيّة الجمعة أو السبت باعـتـبار أن لا مردوديّة له، أو أنــه يتوجّب تأشـيـر الآلات الحاســبة فـي الامــتحانات الوطنـيّة مــن قبل الإدارة تفاديا لكــلّ برمجـــة مسـبـقة لبعض القواعــد والمعطيــات الريــاضيّـة والفيزيائيةالخ....
إنّ تحليلا لمثل هذه التــصوّرات العفويّة و المألوفة ينتـهي بنــــا إلى نتائج لا تلائم غائيّات الفعل التربويّ. وهي مازالت مشــدودة إلى أولــويّة المعرفـــيّ (le cognitif) و بـيــداغــوجيّا الإجابــة الصحيحة la pédagogie de la bonne réponse) ) ، في حين أن أزمة التعليم اليوم ليــست في محتوياته و مضامينه و برامجه و إنما في طرقه أي في" معنى أن ندرّس" و "كــيـف ندرّس" لا في" ماذا ندرّس؟ " ذلك أنّ التلميذ حين تذيّل ورقة الاختبار الذي يُجريه بعبارة " حظّ سعيد " قد يذهب في ظنّه أن الحظّ هو سبيل النجاح و ليس الجهد و العمل، مثلما أنّ المحيط البيداغوجيّ، و خاصة نوعيّة وضعيّات التعــلّـــم و سياقاته و توقيته يمكن أن تؤثّر تأثيرا حاسما على سلوكات المتعلّمين، فلا يبدون رغبة و استـعدادا للتحصيل المعرفـيّ في غير الأوقات التي اعتادوا عليها . نسجّل إذن في هذا الســيـــاق أنّ عديد التصوّرات التي تحكم ممارسات المدرّسين البيداغوجيّة لا يمكن أن تمثّل قاعدة صلبة ومتينة لتدخّــلات بيداغوجــيّة ناجعة ولبناء كفايات(compétences) مستديمة تأخذ في الاعتبار تعقّد عمل الذهن، و تهـتـم ّفي الأثــناء ببنية المــعرفة و نسق تجــدّدها وسلامة بنائها " ففي إمكان المدرسة أن تفــعــل أكثر مما فعلت "(5) علــى حد تعّــبيــر بيـرونو (Ph.perrenoud ) ، و فـــي مسـتطاع مــدرّسينا أن يفعلوا بدورهم أكثر مــمّا هم الآن فاعلون.
«- ما يتعيّن معرفته كي ندرّس:
نشير بدءا إلى أنّ التدريس لا يعني معرفة شيء ما و الحديث فيه، إنّما التدريس يعني أن نعــرف و أن نضمن للآخر أن يتعلّم ما نــعــرف، أن نـــدرّس يعني أن نتدخّل عــند الحاجة لا أن نهيمـن ونحــتكر (enseigner c’est intervenir) أي أن نوفّر حيّــزا معــتبرا مـــن الوقت و النــّشـاط والحضور للآخر المتعلّم، و التدخّل يؤشّر على أنّ العقد الذي يقوم عليه فعل التدريس مشتـرك لا إقصاء فــــيه لـــطرف. التدريس كــمهنة وفق التــصوّر التربويّ الحديث معالجــة للمعلومة (un traitement de l’information) و تشريح لها و ليس تكريما للمعارف أو بثّا لها دون وعـي أو مشاركة.
" إنّ الفترة الأشــدّ خطــورة فــي حـــياة الفرد هــي تـلــك الـتي يكون يفضّل فيها الأجوبة عــلى طرح الأسئلة" على حــدّ تعــبير ڤاســتــون باشــلار(6) " la période la plus dangereuse dans la vie d’un individu est celle où il commence à préférer les réponses plutôt que les questions ".
فالتدريس إذن فترة زمنيّة ثمينة معــتبــرة (privilégiée) يلتقي فيها من يعرف (المدرّس) بمن لا يعرف بعد (المتعلّم) و لكنّه يرغب في التعلّم و المعرفة.
إنّ الانخراط الواعــي و المسؤول من الطرفـيــن هــو الضمانة الفعلــيّــة لوضوح موضوع التعلّم ولإشعار المتعلّم خاصّة بالأمان العاطفيّ و الوجدانيّ. فالتعلّــم فعل وجدانيّ أوّلا ثم معرفيّ يحدث في إطار من الاجتماعيّة (la sociabilité )، ومـتــى وعى المـدرّس بهذه الإجرائيــّة يسّر عــلـى حرفائه الحضور الفاعل و فتح لهم سبل الإبداع.
إنّ الدراســـــات الــمنـجـزة حــول مــعــارف الــمــدرّســــيـن وخـــــــــاصّــة دراســات" شــــون وشــولـــمــان" (schǒn/Shulman ) بيّنت أنّ من هــم أكــثر نجاعة يـتـميّــزون بممارساتـهم البيداغوجيّة المستــندة إلى: - (أ) مـعـارف مفهوميّـة (des savoirs conceptuels )عــمـيــقــة و شـــديـدة النّظام فـــي حـقلـهـم المهنيّ(حول موضوعات التدريس و التلاميذ ، و كيفيّات التدريس و السياقات المناسبة للتّعلم).
- (ب)مــعارف إستراتيجــيّة (égiquestdes savoirs stra) يتـــمّ توظــيـفها و ملاءمــتــها لوضعيّات مخـتلفة و تتمــثّل في مجمـوعة من استراتيجيّات التدخّل والإسناد البيداغوجـيّ بغرض تسهيل عمليّة التعلّم خصوصا حين يمتلك المدرّس سرّ فصله / قسمه(le secret de sa classe) و المتمثّل في معرفة تلاميذه و الاعتراف بهم.
لن نقول كما يقول بيرنو(errenoudP) "أن ندرّس يعني أن نمارس مهنة مستحيلة أو هكذا تبدو" (enseigner c’est pratiquer un métier impossible ou presque ) ذلك أنّه على الرّغم من أهميّة التجربة في هذا الميدان ، فإنّ الأثاث النظريّ لـــلمدرّس و حمولتـه المعـرفيّة و وضوح جهازه المفهوميّ هو مما يوفر له مناويل بيداغوجيّة ظاهـــــرة (des models pédagogiques explicites ) موصولة بالمشاكل الحقيقيّة التي يزعم معالجتها و يرغب في إيجاد الحلول المناسبة لها. و حين تنتفي كل هذه المناويل المرجعيّة فان المدرّس يجد نفسه محكوما بالمناويل الضمنيّة - الخفيّة (implicites) اللاّشكـلــيّة و الـتي لهــا جــذور في معيشه، أو إلى بــرقلة بيداغوجيّة (un bricolage pédagogique) لا تستــند إلى الملاحظة و الــتحلـيــل العلميّ المتبصّر. ومــن هــذه الزاوية فإنّ الــتـــدريس كمهنة لا يخـتـلف عــن سائر المهــن الأخــرى مــن حيـث أنّ التجــربــة (l’expérience) يمكن أن تكون مصدر معرفة (source de savoir) و لكــن يتعيــّن مــع ذلـك البحث عن المحدّدات الأساسـيّــة الأولــيّة لكــلّ ممارسة مهنيّة التــي هي تملّــك المفاهيـم و بناؤها والتسلّح بالمعارف الضروريّة المساعــدة على توصيف الظواهــر الملحــوظة و الاشتغال علــيــها والتدرّج في مباشرتها .
المدرّس منتج للتربية دون شكّ و لكنه أيضا موزّع لها (diffuseur)، هو مطالب بان يُحلّ متعلّميه محلاّ يسمح لهم باكتساب هادئ للمعرفة الواجب تدريسها أي المبرمجة. هذا الإحلال ليس إجراء بسيطا أو روتينيّا، بل هو اقتدار ينهل من روافد معرفيّة متنوّعة( علم النفس/ علوم التربية / علم الاجتماع...) يراعي هوية المتقبّل ( المستوى الدراسي/ السنّ/ الحضور/ الأصل الاجتماعيّ...)، إن مسار الفرد المتعلم حسّاس و متشعّب، صحيح أن الفكرة الرّاسخة لدى العموم هي أن التعلّم يعني اكتساب معارف و حفظ كميّة من المعلومات " زد على ذلك أن نظام التعليم الحاليّ يجعل الحرص على الشّهادة أهمّ من الحرص على التكوّن(7)"، غير أن هذا لا يبرّر إطلاقا الانسياق وراء هذا السّائد السلبيّ، ذلك أنّ " الجميع يرغبون في أن يعرفوا و لكن ليس بالضرورة في أن يتعلّموا" على حدّ تعبير فيليب ميريو (tout le monde veut savoir, mais ne veut pas forcement apprendre ) .
يبدو أنه كي نغيّر الكثير من الممارسات و نصحّح عديد الرؤى و الآراء وجب أوّلا أن نتعلّم كيف نغيّر. الاستشكال التربويّ الراهن كيفيّ بالأساس : تطوير استراتيجيّات تغيير لا يعني أن تكون لدينا أفكار جيّدة و هامّة فحسب و إنّما أيضا أن نعرف كيف نؤشّر للصعوبات الجوهريّة و الثانويّة و لا يتحقّق ذلك في غياب شبكات مفهوميّة (des grilles conceptuelles ) و صور ذهنيّة مرجعيّة هادية إلى ذلك . السماح بتغيير عديد الممارسات البيداغوجيّة هو شبيه إلى حد كبير بالتمشّي الديداكتيكيّ ( la démarche didactique) المعاصر الذي يعني أن تتوفر الظروف المثلى التي تسمح لذوي الشأن التربويّ و البيداغوجيّ بأن يغيّروا دون أن ننتظر التغيير مكانهم . يقول الفيلسوف نيتشه في هذا السيّاق: " ماهو حاسم بالكّاد ينجز " (ce qui est décisif ne se fait que malgré ) .
المدرّس في هذا الجانب لا ُيقيّم استنادا فقط إلى ما بحوزته من المعارف الأكاديميّة (في الاختصاص) و إنّما أيضا إلى كفاياته التقنيّة و صفاته الشخصيّة :{حريّة اختيار الوسائل البيداغوجيّة المناسبة، مراعاة التدرّج في بناء الحصّة/الدرس، الوعي بخصوصيّات مرحلتي التصوّر و الإعداد ...} . إنّ نجاعة منظومة تربويّة مرتهنة " بنوعيّة مواردها البشريّة بالأساس، فليس ثمّة أهمّ من كفاءة المدرّس بالنسبة إلى أداء المدرسة (8) "إنّه المدرّس المحترف المنشود بامتياز . فكيف يكون المدرّس محترفا؟
«- في ثقافة التدريس الاحترافي :
ننوّه أوّلا إلى أنّ التدريس ثقافة وليس إجراء آليّا روتينيّا " فلقد أصبح الإلمام بمقاصد المؤسّسة وبالمحيط الذي توجد فيه والقيم التي تحكم المؤسّسة متطلّبات صريحة في مهنة التدريس لاتقلّ أهمّية عن التكوين الأساسيّ في مادّة الاختصاص والدّراية البيداغوجيّة التي تحوّل المعرفة العالمة إلى معرفة مدرّسة ."(11)
قلنا إذن أنّ التدريس ثقافة وتخصيصا ممارسة مدنيّة تؤشّر لها أربع علامات (repères) :
(أ) أن تدرَج مختلف أنشطة المدرّس البيداغوجيّة والتربويّة ضمن بنية حواريّة (une structure dialogique) تعترف بالآخر(متعلّما، وليّا، إدارة...) رغم مايمكن أن يترتّب عن ذلك من خشية مشروعة لدى المدرّسين بأن تكون ممارساتهم في كلّ مرّة محلّ نظر واستفسار،بل وحتى نقد وانتقاد .
(ب) أن يقع التفكير في المسؤوليّة الأدبيّة القيميّة للمدرّس تجاه متعلّميه، لاعلى ضوء النتائج فقط ، وإنّما بالخصوص على ضوء الوسائل والإمكانيّات المتوفّرة لديه والمتاحة له، ذلك أنّه لا يجوزأن ننسب نجاعة المدرّس إلى الموهبة أوإلى تملّك المعرفة فحسب وإنّما أيضا إلى استراتيجيّات بيداغوجيّة يكتسبها خلال مراحل تكوين مسترسلة ومنتظمة.
(ج) أن تخرج مهنة التدريس من" سرّيتها " أمر مفيد كي يغدو القسم فضاء عاما منفتحا على محيطه يتأثر به ويؤثّر فيه.
(د) أن يكون معلوما أنّ مهنة التدريس تمارس في إطار من التعقيد والتشعّب والتوتّر. فالقسم مساحة اللايقين (un territoire incertain) ، فهو يبدو هادئا مرنا غير أنّ محطّات عديدة تحوّله إلى ساحة للاختلاف والخلاف بل والمواجهة في الكثير من الأحيان.
على ضوء ماسلف يتبدّى أنّ ثقافة الاحتراف نقديّة(critique) على مستويين :
- فهي تفرّق، بمعنى تميّز لضمان تفكير جيّد، ذلك أن الاحتراف تنظيم عقليّ للممارسة يُخرج الفرد من يوميّه (sa quotidienneté) ويحدّد مسافة بينه وبين الحياة، بل بينه وبين ذاته ذاتها. ثقافة الاحتراف ثقافة حيّة، ذات دلالة ومعنى تنظّم تجربة الحياة بحيث لا فعل دون إدراك بل إدراك دقيق لكلّ فعل يمارس وينجز.
- وهي كذلك تحكم (juge) لتثمّن (apprécier) منجزا معيّنا. فالحكم دليل أهليّة وكفاءة واستقلاليّة، وهو بحث عن المعنى، معنى كلّ تمشّ ونشاط وممارسة. إنّ البحث عن المعنى يهمّ كلّ من يشغله السؤال التالي: لِمَ نقوم بما نحن قائمون به؟
إنّ التفكير في المعنى يحيل بالضرورة على الكيفيّة التي تسلّح بها المدرسة المتعلّم من خلال تأثيثه بجملة من الأدوات الذهنيّة( les outils intellectuels)حتّى يصبح كفءا. ويبدو من المفيد التمييز في هذه النقطة بالذات بين مصطلحين ﻛﺜﻳري الورود في الأدبيات البيداغوجيّة وهما الكفاءة / الكفاية ( compétence)والأداء performance)): يعني الأداء ببساطة انجاز مهمّة، أي القيام بفعل دون تدقيق درجة النجاح أو الفشل في إجرائه، أمّا في الاستعمال المشترك فإنّ الأداء يفيد درجة تملّك، و مستوى نجاح في اختبار ما. كأن نقول كان أداء اﻠﺮياضيّ متميّزا في الاختبار. أمّا في الأوساط المهنيّة فإنّ مصطلح الأداء يفيد غالبا مستوى معيّنا في بلوغ الأهداف المهنيّة على ضوء نتائج محدّدة سلفا يتعيّن تحقيقها. و على هذا الأساس يتمّ تصنيف الفاعلين على ضوء أدائهم.
أمّا الكفاية، بخلاف ذلك، فإنّها لا تهمّ إلا تقييم الفرد على ضوء مجهوده و حجم الفعل المنجز من قبله و كيفيّة أدائه. " معرفة انجاز شيء ما في فترة زمنيّة معيّنة يعني كفاية" (savoir faire quelque chose à un certain moment donné veut dire compétence ) على حدّ تعريف بيرونو (Perrenoud) لها.
إنّ ما تختصّ به الكفاية أنّها تستنفر قدرات و محتويات متنوّعة، و كفاءة المدرّس فضلا عن كونها تتعلّق بالمعرفيّ فإنّها تخصّ أساسا المهاﺮيّ فهي الأهليّة و الاستطاعة و الاقتدار و ذلك بتعبئة جملة من القدرات(capacités) كالتحليل و الاسترجاع و التعبير و التواصل و التقييم... الأستاذ اﻠﻣﺣﺘﺮف الكفء مهنيّا ليس هو الذي يقدّم تصوّﺮا لكيفيّة تنظيم القسم مثلا و إدارته بيداغوجيّا، بل هو الذي ينظّمه فعليّا و ﻳﺮافقه بيداغوجيّا.
يعّرف روجيرز و دوكاتيل (X. Roegiers\ J.M.Deketele) الكفاية التعريف التّالي: " الكفاية هي قدرة الفرد على تعبئة (استنفار) مجموعة من الموارد المندمجة بكيفيّة مستبطنة بغرض حلّ عائلة من الوضعيات - المشكل" (la compétence est la possibilité pour un individu, de mobiliser de manière intériorisée un ensemble intégré de ressources en vue de résoudre une famille de situations - problèmes… ) (12).
و بناء على هذا كلّه فإنّ علاقة الأداء بالكفاية مترابطة. الكفاية صفة ملازمة للفرد في وضعيّات مختلفة، و في أوقات متغيّرة، في حين أنّ الأداء تمرين مخصوص لهذه الكفاية في وضعيّة معيّنة و لغرض محدّد. وهو مؤشّر على توفّر الكفاية و تجسيم لها في وجه من وجوهها.
الكفاية تحتاج إلى العناية و الصّيانة فكلّما مارسنا الكفاية كلّما أصبحنا أكفّاء فاستمرارية الكفاية مرتهنة باستعمالاتها، و هذا يعني أنّ فقدانها ينتج عن عدم استعمالها و توظيفها أو سوء الاستعمال. لقد عرّف الكاتبان" شارلوت (CHarlot) و بوتياي (eautierB)" المحترف بكونه "القادر على التفكير لحظة الفعل، و القادر على التكيّف و التحكّم في أيّة وضعيّة جديدة" و ضبطا في هذا المعنى ستّة معايير للمحترف هي :
· أساس مكين من المعارف .
· ممارسة تأخذ في الاعتبار الوضعيّات .
· القدرة على توظيف المعارف في الممارسات و الأفعال.
· استقلاليّة و مسؤوليّة ذاتيّة في ممارسة الكفايات .
· تَبنّي تمثّلات و قيم جماعيّة تؤلّف في مجموعها "الهويّة المهنيّة".(identité professionnelle).
· الانخراط في فريق يبسط أو يؤلّف استراتيجيّات للرقيّ (promotion) و يصوغ خطابات في التقييم و بيان المشروعيّة.(13)
خاتمة:
ينبغي التأكيد في النهاية على أنّ ماهو أساسيّ في التربية و تخصيصا في مهنة التدريس هو الحاجة القصوى إلى قاعدة معارف نظريّة متماسكة و إلى تملّك دقيق و سليم للّغة باعتبارها آليّة للتواصل و التعبير عن المعنى، ذلك أنّ المؤسّسة التربويّة تظلّ المكان الأوحد الذي يوفّر للمتعلّمين مكتسبات على مدى طويل و خصوصا الأدوات الذهنيّة و المعارف الأساسيّة مثلما أنّها تفتح للمتعلّم إمكانات التفاعل الواعي و المنظّم مع واقعه و محيطه من خلال الوضعيّات الدّالة والمعطيات الحينية، غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه ههنا هو أنّ هذه الوضعيّات لا يمكنها أن تنفرد باحتكار المعنى ، لأنّ ماهو معنى أيضا هو البناء المتدرّج للإنسان من حيث هو كائن مركّب وحسّاس و متملك لإمكانيات الفعل في الوضعيّات من ناحية، و لاتّخاذ مسافة نقديّة منها من ناحية ثانية. قد تكون قولة" ويليام قلاسر" التالية خير دليل على أنّ مهنة التدريس ليست كغيرها من المهن: "أن تكون مدرّسا جيّدا يبدو أنّها من أعسر المهن في مجتمعنا" (être un bon enseignant est peut être le plus difficile de tous les métiers dans notre société ). (14)
عبد الله عطيّة ( متفقد أوّل للتعليم الثانويّ تونس )
الهوامش:
(1)- عبد العزيز كردي: السبيل إلي المقاربة بالكفايات . مطبعة تونس قرطاج ط1(2000) ص20 .
(2)- ع. كردي: مصدر سابق ص17.
(3)- محمد نجيب عبد المولى : فسحة في دلالات الاحتراف و رهاناته. ورد ضمن منشورات التفقديّة العامّة للتربية؛ إدارة البحوث و الدراسات. الملتقى (22).
(4)- Philippe Perrenoud: le métier d’enseignant entre prolétarisation et professionnalisation .
(5)- ورد ضمن: السبيل إلى المقاربة بالكفايات أنظرvie pédagogique N:112 Sept.Oct(1999).
(6)- Gaston Bachelard : la formation de l’esprit scientifique .Paris librairie philosophique. J. Vrin 1970 p(256).
(7)- كردي (ع): مصر سابق ص(11).
(8)- الإصلاح التربوي الجديد: الخطة التنفيذية لمدرسة الغد: 2002.2007 ص(32).
(9)- نفس المصدر. (ص33).
(10)- Bourdoncle. R:la professionnalisation des enseignants : les limites d’un mythe. Revue française de pédagogie n : 105.Oc, Nov, Dec1993 (p:83).
(11)- م ن عبد المولى : مرجعية الصفات المهنية للمدرس: ضمن : تقييم عمل المدرس الملتقى الخامس والعشرون (2006) منشورات ت ع للتربية.
(12)- X.Roegiers, J.M.Deketele: une pédagogie de l’intégration de Boeck université 2000 p(66).
(13)- م.ن عبد المولى: مصدر سابق (ص8).
(14)- William Glasser: l’école qualité: enseigner n’est pas contraindre, Montréal, les éditions logiques 1996 p(35).