بكاء أم تباكي؟
أمسى كل من "هب ودب " يتكلم عن مشاكل التعليم العمومي بالمغرب، بالخصوص عند كل حادثة عرضية هنا أو هناك تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي. إن أهل الدراية يعلمون أن مشاكل التعليم العمومي أعمق وأعقد من مجرد أن تُختزل في واحدة أو أكثر من هذه الحوادث المصورة المنتشرة في وسائط التواصل الاجتماعي. إن ما وراء الأسوار والأبواب المغلقة لا يحتاج إلى بيان، لأن مأسي تعليمنا معروفة حتى لدى "كلاب" حراسة هذه المؤسسات. والحال أن العامة البسطاء من المواطنين هم بين نارين: نار الفقر الذي يمنعهم من تعليم أبنائهم تعليما جيدا على غرار أبناء "الأرستقراطية" ونار رداءة منتوج المدرسة العمومية كما يزعمون. أليس هذا ما يدفعهم إلى جعل كل حادثة من هذه الحوادث، حائطا للمبكى على مآل التعليم العمومي؟ ألا يخفي البعض – حتى أولئك الذين يدعون أنهم من النخب – والمسؤولين، شماتتهم وحقدهم وغضبهم على هؤلاء الذين يتحملون لوحدهم الريح النتنة "لجيفة" موءودة تسمى ظلما وتعسفا تعليما عموميا.
تلك "الجيفة" التي تتقلب وتتلوى تحت وطأة سياسات واستراتيجيات ومخططات الجهات المسؤولة التي تسير خبط عشواء منذ عقود، فنسمع كل حين تسميات جديدة لترقيع كفن هذه "الجيفة" عفوا هذا الاصلاح، فمنذ "الاستقلال الشكلي" للبلاد توالت المخططات العشارية والخماسية، ثم الميثاق الوطني، ثم المخطط الاستعجالي، ثم التدابير ذات الأولوية، وصولا إلى ما يسمى اليوم الرؤية الاستراتيجية ومشروع القانون الإطار للتربية والتكوين، وغيرها من المسميات. فكم من الأموال صرفت عفوا سرقت من أجل شراء بقرة صفراء فاقع لونها لضرب هذه الجيفة ببعضها، حتى تعود للحياة من جديد. لكن ألم يتشابه البقر عليهم ؟
هل تعليمنا مشروع رؤية مجتمعية ؟
إن التعليم العمومي في الدول التي تحترم نفسها، ليس مجرد قطاع من القطاعات الحكومية تتحكم فيه جهة واحدة تفعل به ما تريد. بل هو مشروع استراتيجي، ورؤية مجتمعية حقيقية متكاملة، يشارك في تأسيسها جميع مكوناته. ذلك أن سؤال التعليم في جوهره، هو سؤال المواطن الفاعل و التنمية والبناء، هو سؤال المستقبل. فهل فعلا نريد تعليما حقيقيا؟ أما مشاكل تعليمنا نحن لن يتم حلها بعقلية المؤامرة والدسائس والعقليات " القروسطوية " وتحميل المسؤولية للحلقات الأضعف، وتبادل التهم. فقوة أي سلسلة رهينة بقوة وصمود أضعف حلقاتها. فمشكلة التعليم بالمغرب إذن ليست مرتبطة بنقص تشخيص المشاكل أو البحث عن الحلول، بل جوهر المشكلة يكمن في إرادة الإصلاح أو بالأحرى إرادة البناء الحقيقي. فكيف نفهم ما يسمى إرادة الإصلاح الحقيقية، في ظل سياسة "الصباغات المائية"؟ وتحرير البرامج والمناهج والمقررات والمضامين أحادية الرؤية داخل المكاتب المغلقة، دون تشاور وتشاركية حيث يتم نقلها حرفيا، أو تكليف مكاتب دراسات خارجية بعينها بأموال دافعي الضرائب، وذلك دون مراعات للخصوصيات ودون اعتبار وإشراك للكفاءات المحلية. فيتم تكييف كل ذلك مع شعارات ظرفية جوفاء حول الإصلاح و الجودة و تكافؤ الفرص وحقوق المتعلم.. وهي شعارات تخفي وراءها مكائد ومصائد وشباك للمجتمع، الذي صدق الخدعة، وسمع ما يراد له سماعه. أليس أهل الصحراء أدرى برمالها؟
إصلاح الإصلاح أم إصلاح الإصلاح؟
أي إصلاح لأيَ خلل؟ وأي علاج لأي مرض؟ وأي غربال يسد أشعة شمس تأبى إلا أن تنساب وتفضح وتعري؟ وماذا بعد الترقيع والتلميع؟ أيعقل أن دولة "بقدها وقديدها" لا تعلم بقصد وبغيره، ماذا تُريد من نظامها التعليمي؟ إن حرقة الأسئلة أشد مضاضة من الفشل المحتوم. وأن نرى الوجه البشع لهذا التعليم، خير من رؤية خليط الصباغات المائية الذي زاده بشاعة على بشاعة. سبعون سنة من قيام تعليم عهد الاستقلال ماهي الثمار التي جنيناها؟ لا أحد يستطيع إنكار مستوى الانحطاط الذي نراه ونعيشه. وإلا فليُكذب تقارير "المنظمات الدولية" التي فضحت المفضوح، وعرت عوراتٍ جاهد صاحبها البحث عن ورقة توت تسترها. وإلا فماذا عن ضعف مستوى المتعلمين في مختلف المواد خاصة المواد العلمية واللغات وفي مختلف المستويات؟ ماذا عن هرطقات المضامين في الكتب المدرسية؟ ماذا عن عتاقة وتفاهة مناهجنا التربوية؟ ماذا عن مدارسنا التي ليست سوى بنايات إسمنتية لا روح فيها؟ ماذا عن جامعاتنا البئيسة ومشاريعها العملاقة في إنتاج الجهل المركب و ترسيخ الخرافات والغش والانتهازية والعنف والبطالة؟ ماذا عن دور التعليم في المجتمع؟ ماذا عن اختراعاتنا وابداعاتنا وصناعاتنا وموقعنا بين الأمم؟ ماذا عن التفاهات والابتذال والانحطاط؟ أليس التخلف والظلم والاستبداد والعبودية والفساد أبرز دليل على صدق هذه التقارير؟
التعليم والأيديولوجيا والعولمة، ما الفرق؟
لا أحد بإمكانه إقامة حدود دقيقة بين التعليم العمومي في أي مجتمع وبين الأيديولوجيا التي يخدمها بوعي أو بدونه، عن سابق خطة، و بعفوية. هي أيديولوجيات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية أو فكرية.. من أجل التحكم في العقول وتنميط الأذواق وتوجيه الرغبات وتشكيل الميولات، عن طريق خطط للتهجين والتدجين، تسبقها خطط أعمق لضرب ومحو كل تفكير نقدي وشكًي. لتحل محله الأنماط المعدلة والقوالب جاهزة. أليست الأيديولوجيا قلبا للحقائق وتشويها الواقع. أما العولمة فلم تعد مجرد فكر، بل صارت واقعا معيشا وثقافة سائدة. لكن ليست كل عولمة متاحة للجميع، من أراد أن "يتعولم" عليه أن يدفع بسخاء. فمرحبا "بالكائنات العولمية" أي " الكائنات المستهلكة" و"الكائنات الزرقاء (الفيسبوكية)" و "الكائنات المغردة (التويترية)" و"الكائنات السيلفية " (الانستغرامية) فمرحبا بنا في عالم تعليم العولمة أو عولمة التعليم، الذي ولجناه مكرهين أو طواعية لا فرق.
مشروع الخوصصة أم خصصة المشروع؟
يبدو أن الأمر صار واضحا، أعلن الجميع فشلهم، وقرروا أن المال مفتاح الفرج. إن الاستثمار يجلب المال، والمال عنوان السعادة، وليذهب العلم والتعليم والفكر والتفكير إلى المزبلة . المال يشتري العقول، ولكن العقول لا تصنع المال، المال فقط يصنع المال. هكذا قالت الدولة لم تعد تملك ما تقدمه، فهيا لبيع كل شيء، بما في ذلك مصير المجتمع ومستقبله. فلتذهبوا إلى "مدرسة الطرق والقناطر" وارجعوا بمنصب وزير أو مستشار. والكادحون يلدون الكادحين، أما المجتمع يحتاج إلى الفلاح والعامل والمهندس والطبيب ، ولا يحتاج الى الفيلسوف والشاعر والأديب.. ولكنه يحتاج أيضا إلى المستثمر الذي يعرف كيف يستخدمهم ويستغلهم جيدا، فيدفعون إليه ثمنا باهضا على بضاعة كاسدة. قد يحصل أبناءهم على حجرة نظيفة وطاولة جيدة وكتب مدرسي مستورد وسبورة بالألوان، ويحصلون في النهاية على شهادة. لكن هل سيحصلون على تعليم جيد؟ أم أن الأمر سيان مادامت هذه تجارة واستثمار. المهم أن يجلب إنفاق المال، المال ؟ والدستور يكفل ذلك. أليس البيع والشراء حلال؟ فليدفع القادرون أما الفقراء البؤساء فلا عزاء لهم إلا التكوين المهني والتقني.
لنا الرأسمال المادي ولهم الرأسمال اللامادي، أليس كذلك؟
التعليم بكل مكوناته هو رأسمال لامادي حيوي وجوهري داخل أي مجتمع. بالتعليم نحافظ على وجودنا التام بكل ما يحمله من أبعاد، بالتعليم نتمسك بهوياتنا وبتاريخنا وحضارتنا بثقافتنا وقيمنا وأسلوبنا، وبتعليم نُطور ونُنمي كل ذلك، بالتعليم فقط يُصنع الرأسمال البشري لأي مجتمع، لأنه الثروة الحقيقية وضمانة المستقبل. يا لها من شعارات ! ويالها من تناقضات! ويالها من أحلام ! ولكن أين الثروة الحقيقية التي نحتاجها لنصنع هذه الثروة اللامادية ولكي نحافظ عليها؟ أليس بالخبز وحده يحيا الإنسان يا أخي؟
هل الأصنام مسؤولة عن مصير من تقرب إليها زلفى؟
من يتحمل مسؤولية فشل وأزمة وخراب وفساد وانحطاط التعليم؟ المنطق يقتضي أن الجميع له نصيبه من المسؤولية ونصيبه من الإرث. أما البعض له فقط نصيب من كعكة الصفقات. نعم تلكم مسؤولية يتحملها كيان المجتمع كله، بمؤسساته وأحزابه وجمعياته وإعلامه وقوانينه و أعرافه.. مسؤول بتربيته، وثقافته وأفكاره.. مسؤول بصمته وتخاذله واستسلامه.. مسؤول بهروبه ودفن رأسه في الرمال.. لكن الحقيقة الوحيدة التي سنكتشفها في النهاية، أن لا أحد يريد أن يعترف. الكل يحمل المسؤولية للأخر وكأن فضيلة الاعتراف وتحمل المسؤولية انقرضت. إننا نحمل المسؤولية لكل شيء -الابقار والاغنام والشجر والحجر والمطر..إلا أنفسنا.
لا للتشاؤم لا للعدمية ولكن لا للكذب أيضا.
ليس في الأمر تشاؤم ولا عدمية ولا تبخيس، وإنما تأمل وكلام مع الذات، وتحليل وتركيب ونقد وتفكيك، مقاومة وتعبير، استقراء واستنباط واستنتاج، تساؤلات وتفكير ورؤية في أحوالنا وأوضاعنا ومشاكلنا وأزماتنا، في إخفاقاتنا وانهزاماتنا، في انتظاراتنا وتطلعاتنا وأحلامنا، ورغباتنا، في مجتمعنا وحياتنا ومستقبلنا، في تعليمنا الذي يبدو أن أفاقه مظلمة إلى حين، في أسباب الفشل ونتائجه، في الضريبة التي دفعناها وسندفعها جميعا إذا ظل الحال كما هو، وإذا استمرت أبواق المدًاحين الكذابين تصدح فوق رأس الميت الذي سيلعنهم على كذبهم.