هل بإمكان المدرسة أن تصلح ما أفسده الفقر؟ إنه السؤال الملح الذي قاد الخبير التربوي إيريك جنسن إلى تسليط الضوء على إشكالية الفقر والتعليم من منظور علم النفس العصبي المعرفي، لرصد الآثار والتغييرات السلبية التي تطرأ على وظائف المخ في البيئات المحرومة.
يركز مضمون عمل جنسن على العلاقة بين التحصيل الأكاديمي و الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها الطفل في بيئة فقيرة؛ وذلك من خلال أطروحات ثلاث:
تنبني الأطروحة الأولى على حقيقة مفادها أن التعرض المستمر للفقر يُحدث تغييرات مدمرة في المخ، حيث تُسبب الخبرات المؤلمة في الطفولة خللا في الوظائف الاجتماعية و المعرفية، واضطرابا في السلوك، ناهيك عن التعرض للأمراض وخطر الموت المبكر في بعض الحالات.
أما الأطروحة الثانية فتنطلق من كون المخ بطبيعته يتواءم مع الخبرات المتاحة في بيئته، وبالتالي فإن تبني المدرسة لاستراتيجيات جيدة يُمكن أن يُحدث فرقا .
في حين تحدد الأطروحة الثالثة بعض العوامل المفتاحية، و الخطوات التنفيذية التي تساعد على تحرير الطفل من تبعات الحرمان، والتقليل من آثار التفاوت في التحصيل الأكاديمي .
يتطلب الأمر بداية فهما جيدا لطبيعة الفقر، انطلاقا من شكاوى المدرسين في الأحياء الهامشية وأحزمة الفقر. حيث تتردد في الغالب نفس الملاحظات المرتبطة بضعف الدافعية، و الغياب المتكرر، والسلوك غير المقبول كاستخدام الألفاظ النابية وعدم احترام الغير. وهي في مجملها انعكاس للضغوط المزمنة و التحديات الانفعالية اليومية التي يولدها الفقر.
من بين تلك التحديات أن الطفل في بيئة فقيرة يُمضي وقتا أقل في استكشاف العالم من حوله، حيث يتحرك في شبكة تواصل أقل مما يجعل رصيده من المساندة الوجدانية والاجتماعية متدنيا إذا قورن بطفل في بيئة ميسورة نسبيا.
والتحدي الثاني مرتبط بغياب فرص الإثراء المعرفي، فليس لديه كتب في المنزل، و لا يزور المكتبات؛ كما أن تدني المستوى الثقافي للوالدين يحد من امتلاكه حصيلة لغوية مناسبة قبل سن التمدرس.
ثالثا يعاني الطفل في بيئة فقيرة من غياب الشعور بالاستقرار، والتعلق الآمن بالوالدين، وهو ما يقوض لاحقا كفاءته ونموه الانفعالي وتقديره للذات، ويفسد بالتالي أداءه في المدرسة.
على المستوى البيولوجي تؤثر الضغوط الاجتماعية على نمو الخلايا والوظائف الحيوية الأساسية، كضغط الدم والسكر ومعدل ضربات القلب، لكونها تهدد ما يعرف بالاتزان الهيموستازي. فالتجاهل والاستبعاد، والتعرض للملوثات وسوء المعاملة، والسكن المزدحم ، والحرمان المادي هي تحديات تدفع بملايين الخلايا إلى وضع الكمون والترقب بدل الارتقاء، وهو الوضع الذي يمكن للجسم أن يتحمله على المدى القصير فحسب، أما في حالة التكرار فإن الطفل سيعاني حتما من السلبية و الاكتئاب.
يؤدي تعرض الطفل لهذه التجارب المؤلمة إلى انكماش الموصلات العصبية في اللحاء قبل الأمامي للمخ، وهي المنطقة المسؤولة عن مهام متعلقة بتنظيم الاندفاع، والتخطيط وإصدار الأحكام. وقد سجلت بعض الدراسات العصبية البيولوجية أن الحرمان وسوء المعاملة يؤدي إلى إنتاج هرمون الضغوط المسؤول عن الهروب أو القتال. الأمر الذي يسبب ضمورا في المناطق المتحكمة في التنظيم الانفعالي والمهارات الاجتماعية.
وتؤثر بيئة الحرمان كذلك على تطور المهارات اللغوية ومعدلات الذكاء، حيث أتاح تقدم علم المعرفة العصبية إمكانية قياس النظم الأساسية بين مخ طفل في بيئة فقيرة وآخر من بيئة ميسورة، وظهرت فروق شاسعة في العمليات المعرفية، خاصة اللغة، والذاكرة العاملة، والمعرفة البصرية والمكانية. ومرد ذلك بالأساس إلى الخصائص الاجتماعية والشخصية، و الحصيلة اللغوية التي لا تتحقق بالقدر الكافي في الأسر ذات الدخل المنخفض. حيث لوحظ أن الأسر الفقير تستخدم جملا قصيرة ذات تركيب نحوي بسيط، كما أن تفسيرات الوالدين للأبناء محدودة أيضا، مما يسهم في بطء النمو اللغوي للطفل.
إن هذا النظام العنكبوتي من السلبيات ، والذي لا يشمل بالتأكيد كل الأطفال الذين نشأوا في بيئة فقيرة، يمكن تفكيكه وتبديد آثاره على نحو مقبول إذا ما تعرض سلوك الطفل في البيئة المدرسية لتحولات جذرية. كما أن المخ الذي تفاعل مع خبرات مؤلمة في بيئة من الحرمان يمكن أن يتأثر بالقدر نفسه بخبرات إثرائية في بيئة إيجابية، إذا ما أتيح للمعلمين فهم أفضل لاستراتيجيات التدريس المناسبة.
لقد صُمم المخ ليتغير، وهذا يعني أن التحصيل المدرسي المتدني للطفل ليس حكما قدريا. ومن الأمثلة الدالة على تغيرات المخ المرتبطة بالخبرة:
- أن التدريب المكثف للغة يُحدث تغيرات فسيولوجية في خرائط المخ السمعية.
- أن تعلم عزف آلة موسيقية ينشط ارتباطات في مستوى أعلى في المخ، وينتج عنها تحسن في الانتباه والتتابع والتأني.
- ازدياد حجم المادة الرمادية في مناطق المخ الأكثر اتصالا بالمعارف التي يتلقى فيها الطفل تعليما مكثفا.
- تغير نسبة الذكاء عند مواصلة التعلم، حيث أن كل شهر يقضيه الطفل في المدرسة يرفع من نسبة ذكائه بدرجة أعلى مما لو انقطع عن الدراسة. وفي حالة الطفل القادم من بيئة فقيرة فإن تبني ما يُعرف بالذكاء السائل، يتيح لهم تعديلا سريعا لاستراتيجيات التفكير، لما يتضمنه من حل للمشكلات، والقدرة على الاستدلال، وإدراك العلاقات بين المفاهيم خارج التعليمات الرسمية.
ماهي إذن العوامل الحاسمة التي تحقق تأثيرات إيجابية على الأطفال من بيئة فقيرة في الصف المدرسي ؟
يعرض إيريك جنسن لبعض الاستراتيجيات التي تحدث تغيرا على بنية المؤسسة التعليمية في مختلف جوانبها. غير أن الوقوف عند التحسن من منظور الصف الدراسي يستمد أولويته من الإكراهات التي ما فتئ المدرسون في البيئات الفقيرة يطرحونها بحثا عن تدابير وأفكار قابلة للتنفيذ.
هناك خمسة عوامل يمكن استخلاصها من البحوث التي أجريت في هذا الصدد. حيث تبين أن الصف الدراسي هو المكان الذي تتجمع فيه تلك العوامل لتدفعه نحو النجاح أو الفشل.
يتمثل العامل الأول في اعتماد منهج وتدريس مبني على أساس معايير، والذي يساعد على كشف عدم التكافؤ الاجتماعي في الأداء المدرسي، وبالتالي إتاحة فرص أفضل للتلاميذ المحرومين عبر تقديم خدمات أفضل، ومدهم بمدرسين ذوي تأهيل عال.
أما العامل الثاني فمتعلق ببناء الأمل، وتنبيه المدرسين إلى خطورة الافتراضات المسبقة التي تلعب دورا كبيرا في النتائج. فالقول بأن الأطفال الذين مروا بخبرات قاسية لا يُمكن أن نتوقع منهم الكثير هو حكم سابق لأوانه. والأجدر بالمدرس أن ينشر الأمل بين صفوف تلاميذه، ويعمقه في وجدانهم، لأن الأمل يغير كيمياء المخ، ويؤثر على القرارات التي يتخذها الطفل.
ويراهن العامل الثالث على الفن والرياضة والمكانة المتقدمة لرفع التوقعات. نظرا لأن إدراج الفنون والرياضة في اليوم الدراسي يسهم بشكل واضح في بناء مهارات الانتباه، والمعالجة المعرفية، والذكاء الوجداني، واحترام التنوع. وهذه الدافعية التي تولدها الفنون والرياضة تؤدي في الغالب إلى احتفاظ المخ بحالة تيقظ، والرفع من كفاءة شبكات الوصلات المسؤولة عن الانتباه.
ويرتبط العامل الرابع بحاجة الطفل إلى نظام تشغيل أكاديمي يتضمن مهارات أساسية للنجاح المدرسي، من بينها : القدرة على تأجيل الإشباع وبذل الجهد المتصل لتحقيق أهداف بعيدة المدى، ومهارات معالجة البيانات السمعية والبصرية واللمسية، ومهارات الانتباه وغيرها.
أما العامل الأخير فيثير مسألة التدريس الجاذب، وسبل إقناع الطفل من بيئة فقيرة بأن المدرسة مصدر للنجاح وإضفاء معنى على الحياة. ذلك أن أغلب المدرسين يعتبرون حفظ النظام داخل الفصل تحديا أهم، وبالتالي يُهدرون خُمس وقت الحصة في محاولة السيطرة على التلاميذ. إذن لا بد من تغيير التوجه العقلي ليصبح: كيف يمكن جذب عقول وقلوب هؤلاء الأطفال؟ وهنا يمكن القول أن التدريس الجاذب هو كل طريقة أو استراتيجية تحقق اندماج وانجذاب التلاميذ، ومشاركتهم العقلية والوجدانية والسلوكية في تحقيق التعلم.
إن الخبرات السيئة والمؤلمة التي يُولدها الفقر لا ينبغي أن يواجهها المدرس بالحيرة والإحباط أو الشعور بالشفقة، لأنها في المحصلة أشبه بكرة ثلج تتزايد في حال الإعراض عنها، وتشرع في الذوبان كلما سلط عليها نور المعارف والنتائج البحثية، والاستراتيجيات التي تتيح له التدخل الفاعل والمبكر.