ذاع صيت المؤرخ الشهير بجامعة السوربون "إرنست لافيس" وهو يعلن أن" معرفة التاريخ تنير حب الأوطان"، وإذا كان بالفعل تدريس التاريخ مفيدا ،وبقوة، في المعرفة بالماضي وبناء الذاكرة الجماعية، فإن الحياد السياسي للتاريخ المدرسي مجرد أحجية fable(Vincent Capdepuy).
بتزامن مع تصاعد النزعات القومية، وفي سياق بناء الدولة الوطنية، شكلت الكتب المدرسية قنوات فكرية للمرور الهادئ نحو أذهان الصغار والمتعلمين في المدارس والثانويات، وقد شارك المؤرخون عبر إنتاجاتهم في نقل الوقائع إلى قلب الفصول لتشيد الإرادة الجماعية للأمة، ولكن في كثير من الأحيان ب"موضوعية" مُرادها تبرير الحدث لا تفسيره ، بغير قليل من الانتقاء في الوقائع والمنعطفات الكبرى، ويصير إقناع المتعلمين بالضرورة الحضارية للاستعمار ملازما لمهمة "تهذيب" الشعوب الأصلية و"تمدينها".
إضاءة خاطفة في الموضوع نعرضها في ترجمة متواضعة لنص حول الكتب المدسية والتاريخ مقتطف من كتاب "المدارس التاريخية" وهو من تأليف كل منG.Bourdé وH.Martin .
خلال سنة 1875م تمّ إقرار القوانين الدستورية التي تحدد إجراءات التعيين، وقواعد اشتغال الجمعية الوطنية والحكومة، وانطلاقا من سنة 1877م وإلى غاية 1879م حملت الانتخابات المتتالية أغلبية اليسار إلى الجمعية بغرفتيها . كان على الرئيس" Mac Mahon " أن يَخضع في البداية، وبعدها جاء التنحّي: لقد انتصرت الجمهورية.
منذ ذلك، ولفترة خمس أو ست سنوات، عمل الوزراء- مع نوع من الانتهازية- على منح العفو لأنصار الكومونة(سنة 1880م) والتنصيص على الحريات العامة من صحافة وعقد تجمعّات(1881م) وإقرار العمل النقابي(1884م) كما أنهم فرضوا المدرسة بقواعد العلمانية(1880م)والمجانية(يونيو1881م)والإجبارية(مارس1882م).
لقد نال كل من L.Gambetta وJ.Ferry وCh.de Freyeinet وW.Waddington وL.Say وغيرهم التشجيع، والاستشارة، والتوجيه، في مشاريعهم المتعلقة بالمدرسة من قبل مسؤولي وزارة التعليم العمومي أمثالP.BertوF.BuissonوF.PécoutوJ.Steeg وآخرون، وكذا من قِبل مُنشّطي عصبة التعليم(J.Macéومن معه). وخلافا لنوع من الأفكار الشائعة، فإن قوانين "جول فيري" لم تعمل على "تمدرس" الفرنسيين! بل إن الإجراءات المتبعة سمحت بتشييد شبكة بناءات تغطي كافة المحافظات-على مسؤولية البلديات- قصد تكوين نظام متجانس في المدارس العليا يشمل المدرسين العلمانيين، والقضاء على الأمية عبر إدماج غالبية الأطفال بما فيهم أولئك الذين يستمرون في "الإفلات" من التربية. وعلى كلّ فقد حافظ الجمهوريون "البرجوازيون" على هوة عميقة بين المدرسة الابتدائية الموجهّة لعموم الشعب والمدرسة الثانوية المخصصة للنخبة .
لقد شارك "التاريخ المَنهجي" في المشروع المدرسي للجمهورية الثالثة، حيث أن رواد القوانين " ج.فيري - ف.بويسون- ج.ماسي وب.بيريت" والمتعاونون معهم في المجلة التاريخية "E.Lavisse –A.Rambeaud ..." ينتمون لنفس الأوساط، ويترددون على ممرات وزارة التعليم العمومي، وعلى والمدارس العليا والمعابد البروتستانية، أوعلى المحافل الماسونية.
الموظفون الكبار والجامعيون كانت لهم جميعهم نفس الأهداف: تربية instruire الأجيال الجديدة على حب الجمهورية بهدف تثبيت القاعدة الاجتماعية للنظام، وجعلها أكثر صلابة، ثم صدّ الظلامية الإكليروسية عبر نزع رقابة الكنيسة على العقول والاستعداد للثأر ضد العدو التقليدي(الرايخ الألماني).
لقد كانت هذه الأفكار-أفكار قوة-ومن خلال تعليمات الوزارة توجّه البرامج، وتُصيغ على نمطها كتب التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية(المدنية).
أكثر تلك الكتب شهرة هو كتاب "لافيس الصغيرPetit Lavisse" الذي تم نشره لأول مرة سنة 1884م ويضم 240 صفحة مع 100 وثيقة مصوّرة. ولمسايرة الظرفية عمل الأستاذ في السربون على تكثيف - وإلى درجة قصوى- العناصر التي ستظهر في سلسلته الجامعية الواسعة "تاريخ فرنسا" .
عرف ذلك الكتاب نجاحا كبيرا، وتمت طباعته بمئات الآلاف من النسخ، ونشره لمرات عديدة(الطبعة رقم 75 كانت سنة 1895م)،وقد خضع، وضمن ثوابت محددة، لتعديلات امتدت حتى غاية سنة 1912م حيث كانت النسخة الأخيرة منه(272 صفحة و142 وثيقة).
لم تكن باقي الكتب المدرسية تشكل أي تهديد لحالة شبه الاحتكار في النشر التي ميزت كتاب "لافيس" مع تباين طفيف في الشكل أو المضمون كما هو الأمر في "دروس التاريخ" لكل من"دو ديبور"(1894) و"كالفي"(1899) و"بروسكوليت"(1904)وآخرون.
كان الخطاب الإيديولوجي الموجّه للأطفال (ما بين 7و12سنة)أكثر بداهة، حتى أنه، وللضرورة، يكون الخط بالبنط العريض وبلغة بسيطة.
عرضت المدرسة المنهجية مبادئها بكل وضوح(وبراءة) دون أي قناع، بالإضافة إلى أن الفريق الجمهوري، الذي أنشأ المدرسة العلمانية والمجانية والإجبارية، يعلن بوضوح أن التاريخ ليس محايدا، وعليه أن يخدُم مشروعا سياسيا.
أشاد مدير التعليم الابتدائي "ف.بويسون" سنة 1884 بصدور كتاب "Petit Lavisse" بالعبارات التالية:" إنه فعلا كتاب التاريخ الوطني والليبرالي، والذي طالما كنا نطالب به حتى يكون أداة للتربية، بل للتربية الأخلاقية". وفي تقديمه لآخر نسخة من كتابه، كان"لافيس" سنة 1912 أكثر وضوحا: "إذا لم يحمل المتمدرس معه الذاكرة الحيّة لأمجادنا الوطنية، وإذا لم يعرف أن أسلافنا قد حاربوا، وعلى ألف حقل من المعارك من أجل قضايانا العادلة، وإذا لم يتعلّم ما كلّفه بناء وحدة وطننا من دم ومجهودات، ووضع قوانين جعلتنا أحرارا، بعد الخروج من فوضى مؤسساتنا العتيقة، وإذا لم يَصِر مواطنا مقتنعا ومشبعا بواجباته وجنديا يُحب بندقيته، فإن المربي(المعلم)يكون قد أضاع وقته" .
كان بذلك تحديد مهمة المربي واضحا: في درس التاريخ عليه بالحرص على تكوين جمهوريين واعين، وجنود مِقدامِين. وإذا قمنا بتصفح كتب التاريخ التي نشرت ما بين 1884 و1914 سنلاحظ بسهولة بعض البداهات الأساسية :أولى تلك المسلمات يمثلها مفهوم "فرنسا الأبدية" ل"أسلافنا من بلاد الغال" وإلى غاية مواطني الجمهورية الثالثة. ينتمي سكان هذا البلد الجميل لجماعة صارت تدريجيا وطنيّة، ولا شيء يميز ،فعلا، بينهم: الخصوصيات الجهوية تَمّ محوها، والتفاوتات الاجتماعية تمّ طمسها، و"الآخرون" الأفراد المختلفون يتم تحديدهم ضمن الأجانب، والخصوم، والمعتدين. هكذا تجري المسيرة الطويلة نحو تشكيل الدولة الوطنية كما لو أنها تتابعٌ لأحداث مميزة واستثنائية، وفيها تظهر صور أبطال نبلاء .
هكذا يبدو التاريخ كما لو أنه رواق لوحات :
"فيرسانجيتوريكس" في معركة "أليزيا"(52ق.م) "كلوفيس" وهو يكسر المزهرية المقدسة، "شارلمان" في صورة وجها لوجه مع المتمدرسين، "فيليب أوغست" في معركة "بوفين"(1214) "سانت لويس" تحت شجر الأرز في"فانسين"، برجوازيو مدينة "كالي"، "جان دارك" لحظة الإعدام حرقا، "فرانسوا الأول" في معركة "مارينيون"(1515م)، الكاردينال " ريشليوه" في مقر مدينة "لاروشيل"، "لويس14"في "فرساي"،(...)احتلال "الباستيل"، "بونابارت" على قنطرة "أركول"(1796 بمدينة البندقية )،مع خط يفصل بين "الأخيار" الذين عملوا على تقوية سلطة الدولة، وتوحيد الأقاليم(أنظرص.202) و"الأشرار"السيئين الذين اندفعوا في حروب مدمرة، وسمحوا بضياع أقاليم ومستعمرات(ن.ص).
هكذا نقرأ في كتاب "لافيس" أن "هنري الرابع" وصديقه"سولي" حرصا،ما أمكنهما ذلك، على جعل الفرنسيين أكثر سعادة(ص.104) والملك "لويس14" الذي لم يمنح أي اهتمام للشكاوى ضد الظلم، وكان يقول بأن ذلك لا يعنيه" (ص.202).
أما الاختيار الثاني فكان يقوم على الدفاع عن النظام الجمهوري والثّناء عليه. فاستعادة إرث الثورة الفرنسية كان بجرأة واضحة بالنسبة لمرحلة 1789-1792،بينما طبع التردد استعادة مرحلة 1792-1794م، وإعادة التركيب كانت تفصل المراحل الوسطية: نضع اجتماع الهيئات العامة والإعلان عن حقوق الإنسان ،واحتفال الفيدرالية في المقدمة، مع المرور سريعا، وبنوع من الانزلاق، على مواجهات وعنف مرحلة حكومة الرعب، أو نُخفيها وراء إنجازات جنود السنة الثانية من الثورة.
وعلى كل حال، تبدو الثورة مثل قطيعة راديكالية أفضت إلى بروز سيادة الأمّة، وإقرار احترام القانون، ومعه حرية الضمير وحرية العمل(كتاب جوتييه).
وإذا قمنا بتفحّص لوحة جدارية وضعها"ش.ديبّييDupuy"لفائدة أطفال المدارس،يمكن تأويل تاريخ فرنسا خلال القرن19م وفق خطاطة بقطبين:ثورة 1789 حيث انتزاع الحرية والمساواة، ثم الامبراطوية الأولى حيث خضعت فرنسا للاستبداد، وإعادة النظام وملَكيّة يوليوز، وبعدها لحظة استعادة الحرية مع الجمهورية الثانية، لتعقبها الامبراطوية الثانية، وتضيع معها الحرية مرة أخرة، قبل أن تبرز الجمهورية الثالثة التي أصبح معها الشعب سيد نفسه وصانع مصيره. خطاطة يُرمز فيها للأنظمة المطلقة بعلامة تحقيرية(-)وللأنظمة الجمهورية بعلامة تمجيد(+)،وفي النهاية يبدو حضور الجمهورية الثالثة باعتبارها "الأفضل"، فهي التي وضعت فرنسا في مرتبتها الكاملة والكبيرة، وفرضت الخدمة العسكرية على قاعدة المساواة بين الجميع، وأقرّت الحريات العامة: صحافة-تجمّع-جمعيات-فصل الكنيسة عن الدولة، ثم تكوين امبراطورية كولونيالية (كتاب التاريخ-Gautier- Deschamps) كما تضمن الجمهورية الثالثة تنظيما اجتماعيا متناغما،غير قابل للتجاوز، مع وصف الكومونة بمثابة ممرaccès جنون غير مفهوم تقريبا، وباستشراف نظام اجتماعي لم تتم إثارة أبدا.
الاختيار الثالث تمثّل في الإثارة الدائمة، وبحماسة، للوطن-الأم.
خلال الجيل الأول 1880-1898م عرفت الحملة الوطنية قدرا من الجموح الكبير بسبب الإهانة الناجمة عن هزيمة 1870-1871م. فقد كانت صحيفة"L’écolier" (عدد ماي 1882م)تلحّ على الوصايا-القواعد الوطنية، وعلى نصوص البطولات، وأناشيد الروح القتالية مثل "التلميذ-الجندي" تلك الأنشودة(L’écolier-soldat) التي كان تعليمها منتشرا في مستوى التعليم الأولي وفي الدروس الأساسية ! .
وضمن مناخ شبيه، عملت الكتب المدرسية على انتقاء الوقائع التاريخية التي تبرز الدفاع عن أرض الوطن ضد الغزاة، من ثورة بلاد الغال وحتى معركة"فالميValmy"(1792م)،وصارت "ج.دارك" بطلة وطنية ورمزا للمقاومة: "جان دارك، إنها الوجه الأقوى تأثيرا، والذي لم يظهر أبدا مثيل له على الأرض. لا أحد من الشعوب لديه في تاريخه ج. دارك خاصة به " (Gautier)
أما خلال الجيل الثاني ما بين 1889-1914م، فقد صارت الوطنية أكثر غموضا. ومع توالي الزمن تحوّل جُرح "سيدانSedan"(1870م) إلى نُدوبٍ. إن الرأي العام الذي راهن على تحالفات فرنسا مع روسيا وبريطانيا يشعر بتهديد أقل،وبالتالي بعدوانية أقل، والحركة الاشتراكية بتوجهها الأممي بدأت في التأثير على بعض الشرائح الاجتماعية ومنها فئة المدرسين. منذ تلك اللحظة، انطلقت الكتب المدرسية للبحث في كيفية تقديم موضوعات الحرب للأطفال باعتبارها أحيانا امتحانا دمويا، وأنه من الأفضل اللجوء إلى المفاوضات، بل من الأحسن حِفظ السّلم .
يظهر داخل "بانثيون"(هيكل) الأمجاد الوطنية، وإلى جانب الأبطال المحاربين أبطالٌ مدنيّون أمثال " هوجو" و"باستور"، ومع ذلك فقد استمرت الحرب الدفاعية مشروعة.
"الحرب، هذا الأذى، وفعل القتل، تصير على الرغم من ذلك شيئا مقدسا إذا ما كان الأجنبي مهدّدا لحدود بلادنا ويفكر في سلب استقلالنا"(كتاب Guiot وMaine).
أما التوجه الأخير فهو ينحو إلى تبرير الاستعمار، فالحكومات"الانتهازية"- والتي شيّدت المؤسسات الجمهورية- نظمت هي أيضا الحملات الكولونيالية في تونس وفي تونكان(بالفيتنام) ومدغشقر،والذين جاؤوا عقب تلك الحكومات من معتدلين أو راديكاليين واصلوا وضع اليد (الاستعمار) في السودان والكونغو ولاحقا في المغرب .
أعادت الكتب المدرسية المبررات الرسمية لتفسير العمليات العسكرية، وهنا مثال يبرز إرادة التبسيط القاتم وباعتباطية: "سنة 1881،قرر "ج.فيري" معاقبة قبائل خمير،إذ قام رهط منها مثير للفوضى بالتوغل دون توقف داخل جزائرنا، وأدت مطاردتهم من طرف جنودنا إلى احتلال تونس..التي تبقّت لنا" (من كتابBrossolette ).
إن بناء امبراطورية استعمارية في نظر قادة الجمهورية الثالثة يسمح بالعثور على تعويض مقابل فقدان الألزاس واللورين،ويمنح فرنسا مكانة قوة كبرى، على غرار ابريطانيا العظمى وألمانيا. وعلى الرغم من هذا، فإن الرؤية لا تنقُص بهدف نيل الحصة من منتوجات المستعمرات (الفوسفاط بتونس،الفول السوداني بالسنغال،خشب الغابون،مطاط أندونيسيا)..
تؤكد الكتب المدرسية حركة الاستغلال الاقتصادي: "ج.فيري" أراد أن تحصل فرنسا على مستعمرات جميلة، والتي ستعمل على تنمية ثروتها التجارية"(كتابGautier-Deschamps).لقد كانت الآلة الاستعمارية، وعلى الدوام، تختفي وراء ستار مهمّة تمدينية ف "الشعوب الأهلية هي بالكاد متمدّنة، وعادة ما تكون –بشكل كامل-متوحشة"(كتابLemonnier-Schrader-Dubis)والفرنسيون الذين يملكون الثقافة جاؤوا لإخراج البدائيين من البربرية .
تبين كتب التاريخ والجغرافيا مربّين وهم بصدد إنشاء مدارس، وأطباء ينظمون مستشفيات، وإداريين يعملون على إلغاء تقاليد لا تليق بالإنسان !صورة مركزية تبرز "سافورنيان دو برازا" وهو بصدد تحرير عبيد في الكونغو. وفي النهاية، يبدو الضمير الجيد(الوعي) بمثابة صفة للفعل الإنساني:" تريد فرنسا، أيضا، أن تجعل الصغار من العرب متعلّمين كما شأن صغار الفرنسيين، وهذا يؤكد أن فرنسا جيدة، وجريئة بالنسبة للشعوب التي أخضعتها "(ص16 من كتاب Lavisse).
النص الأصلي:
L’école méthodique –chap.4-Les manuels scolaires :p.p.199-205
المصدر:
Guy Bourdé, Hervé Martin,Les écoles historiques,éd.seuil,1997(416pages).