الفيلسوف والرياضة: جيل دولوز ولعبة "كرة المضرب" - ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

" الكثيرين من الكتاب لم يتوانو عن رؤية
الرياضة وسيلة لإنماء الفن والحياة "
دولوز-غتاري

مقدمة
طفل يطلب من ملك السويد التوقيع على "الاوتوجراف l’autographe "...، تُلتقط الصورة وتُنشر في مجلة "لوفيغارو Le Figaro". كان ذلك الطفل، الذي لم يتجاوز بعد سن الرابعة عشرة هو: جيل دولوز Gilles Deleuze. جرّب دولوز ممارسة "كرة المضرب" و"الملاكمة" و"السباحة"، أحبّ "كرة القدم" واهتم ب"رمي الجُلّة" و"ركوب الامواج Surf".
لكن ما العلاقة التي أقامها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز مع الرياضة وبالأخص لعبة " كرة المضرب Tennis " ؟

1- جيل دولوز بين الفلسفة والرياضة
انتقد جيل دولوز العودة المتواصلة إلى القيم الأبدية les valeurs éternelles، وفكرة المثقف حارس هذه القيم. ودعا إلى التخلص من وصاية رجل الدين (كاهن، قس) وعمله القائم على التقليد والعادة والثبات(1)، وأعلن أن حقوق الإنسان تعمل كقيم أبدية، وتبقى سيادة القانون وتصورات أخرى مُجردة للغاية(2) وتحُدّ من الإنطلاق واقتحام التفكير وإنجاز الحركة. مقابل سيادة الجمود والتجريد دعا دولوز إلى التفكير في الحركة mouvement le والصيرورةle devenir ، وإلى الخروج من الفلسفة ذاتها وأسئلتها وفتحها على اللافلسفة، إذ على الفيلسوف أن يصير لا فيلسوفا حتى تصير اللافلسفة أرض الفلسفة وشعبها(3)، وأن يبحث في القواعد الجيّدة للتجاور القائم بين مختلف أشكال التعبير.
إن البحث عن إبداع الحركة يخترق مجمل كتابات دولوز، فالامر لا يقتصر على الفلسفة، الأدب، السينما، أو الرسم، بل يمتد إلى الرياضة. تعرض الرياضة سُلما مطبوعا بتحقيق الأرقام القياسية، وتجديدات في الأجهزة والأدوات (ملابس، أحذية الرياضية، وسائل رياضية، ... إلخ)، ولكن هناك تحوّلات نوعية أو متعلقة بالأفكارles idées تهم التفكير الفلسفي وتفتحه على آفاق رحبة. ترتبط هذه التحولات بأهمية "المبتكرين" في الرياضة الذين يبدعون أساليب وتقنيات جديدة عبر تجاوز أخرى قديمة؛ فتاريخ الرياضة يمر عبر هؤلاء "المبتكرين" الذين يؤسسون في كل مرة للامتوقع، وللأساليب الجديدة ، وللتحولات، والتي بدونها، سيبقى التقدم التكنولوجي كميا محضا، بدون أهمية ولا فائدة(4).
حين يؤكد دولوزعلى اشتراك الفلسفة والرياضة في الإبداع والإبتكار، وعلى مسألة التجريب والممارسة واكتساب السرعة والقوة، فهو يدعونا بشكل مباشر إلى التركيز على الجسد وكشف ما يستطيعه ويقدر عليه. نستحضر هنا اهتمام دولوز بالجسد في فلسفة فريدريك نيتشه وباروخ سبينوزا، وإبرازه أخيرا للعلاقة المُثيرة للرياضة مع الجسد وما يلحق وضعياته أثناء التمرّن والتعلّم، وما يحصل من تمازج جديد بين المادة-الحركة والتي تعكس نوعا من دلالة الإيقاع والتناغم.

2- دور لاعبي كرة المضرب في تحقيق التحوّل والإتيان بالجديد
يرى جيل دولوز أن التحوّل تحقّق في مجال لعبة كرة المضرب حين أصبحت رياضة جماهيرية، لكن ذلك لم يكن ليحدث لولا وصول عبقري في نفس اللحظة؛ كان بيورن بورج Björn Borg من جعل ذلك ممكنا. لقد جلب بورغ أسلوبا خاصا للتنس الجماهيري، وعمل على خلق التنس الجماهيري من القاعدة إلى أعلى. يقول دولوز عن إعجابه ببورغ: " ... يعجبني بورج، رأسه الشبيه بالمسيح. كانت له تلك الهيئة الشبيهة بالمسيح، ذلك الكبرياء البالغ، هذا المظهر الذي جعله محترما تماما من كل اللاعبين، إلى آخره . (...) بورج كان شخصية شبيهة بالمسيح. جعل الرياضة للجماهير ممكنة، خلق التنس الجماهيري، ومعه، كان ابتكارا تماما للعبة جديدة "(5).
يعتبر دولوز لاعب التنس بورغ كمبدع عظيم في الرياضة، ويقف مندهشا من ضربته للكرة قائلا: " ضربة بورج للكرة، غريبة جدا، جدا، جدا...؛ متموقعا عند مؤخرة الملعب، عند أقصر تراجع ممكن، ومُنثنيا في مكانه، وواضعا الكرة عالية فوق الشبكة "(6).
يذكر دولوز لاعب كرة تنس آخر، هو جون ماكنرو John McEnroe، ويقول عنه:" كان أرستقراطيا خالصا، نصف مصري، نصف روسي، ضربة إرسال مصرية، روح روسية، وقد اخترع حركات كان يعلم أن أحدا لا يمكن تتبعها. ومن ثم كان أرستقراطيا لا يمكن تتبعه. وقد اخترع بعض الحركات المدهشة. اخترع حركة تتركب من وضع الكرة، غريبة جدا، لا يضربها حتى، مجرد وضعها. وطوّر توليفة ضربة إرسال – طيران كرة لم تكن ... كانت توليفة ضربة الإرسال – طيران الكرة معروفة جيدا، لكن توليفة ماكنرو كانت قد تحولت تماما"(7). وقال عن اللاعب الأمريكي جيمي كونورز Jimmy Connors موجها كلامه إلى كلير بارني Claire Parnet: " ... معه ترين حقا المبدأ الأرستقراطي: الكرة فوق الشبكة بالكاد، مبدأ أرستقراطي غريب جدا، وكذلك ضرب الكرة وهو غير متوازن. لم يكن عبقريا بقدرما يكون وهو غير متوازن تماما. تلك كانت حركات غريبة فعلا(8).
إضافة إلى بورغ Borg وماكينرو MacEnroe و كونورز Connors، أدخل الأستراليون "الأرجحة الخلفية بكلتا اليدين. إنها الضربة الناعمة(9) التي يصعب على اللاعب الخصم إعادتها، ومن اللاعبين العظماء برومويتش Bromwich المبتكر الحقيقي للحركات(10).

3- الرياضة وابتكار الأسلوب: لعبة "كرة المضرب" و"القفز العلوي"
اعتبر جيل دولوز الفلاسفة العظام شخصيات ذات أسلوب، وأكد على أن الشيء الوحيد الذي يهمه بصورة جوهرية في الأدب، هو الأسلوب(11). إن امتلاك أسلوب قضية تهم الفيلسوف والأديب والرسام والرياضي؛ فالأسلوب يوجد في كل المجالات كما تقول كلير بارني Claire Parnet مخاطبة جيل دولوز.
تساءل دولوز عن الإبتكارت التي لحقت لعبة "كرة المضرب" وعن دور أبطال "التنس Tennis" في إبداع أساليب جديدة ؟
ميّز دولوز في الأسلوب بين الأبطال بوصفهم مبدعين حقيقيين، واللامبدعين الذين ينقلون أسلوبا موجودا - سلفا إلى مستوى غير مسبوق، لندل Lendl على سبيل المثال (...). ثم هناك المبدعون العظام، حتى على مستويات بالغة البساطة، أولئك الذين يبتكرون "حركات" جديدة ويُدخلون تكتيكات جديدة. وبعدهم تتدفق كل أنواع التابعين، لكن الأسلوبيين العظام هم مبتكرون، وهو شيء يجده المرء بالتأكيد في كل الرياضات(12).
نوّه دولوز بالإبتكارات الأسلوبية التي همّت مجموعة من الألعاب الرياضية؛ ومن بينها لعبة "القفز العالي". بحيث ثم الإنتقال من القفز باستعال طريقة "المقص"، ثم "القفز على البطن"، وقفزة "الفوسبيري Fosbury". وربط هذا التحوّل والإنتقال ب"المبتكرين les inventeurs"؛ هؤلاء الوسطاء النوعيين في مجال الرياضة الذين يُدخلون تحسينات ومُتغيرات على اللعبة، وبالتالي يبدعون أساليب جديدة. وأكد أن للرياضة تاريخ، ويجب شرحه لكل رياضة: تطورها، مبدعوها، أتباعها ... تماما مثلما في الفن: هناك مبدعون، وهناك أتباع، وهناك تغيرات، وهناك تطورات، وهناك تاريخ، هناك صيرورة للرياضة(13).

خاتمة
اعتبر جيل دولوز الرياضة مجالا إبداعيا بالغ التشويق بسبب مسألة أوضاع الجسد(14)، سواء تعلق الأمر بقدرته على التوسع أو التنوع في أوضاعه وحركاته وقدراته، وبسبب ما يلحق بالرياضات من مُتغيّرات عبر التاريخ، سواء على صعيد التكتيكات أوالأساليب أوالحركات.
يشير دولوز إلى التغيّر والتحول الذي لحق مفهوم الحركة الذي كان موزعا بين وجود نقطة اتصال أو حين نكون نحن مصدر الحركة: كالجري، والتسديد، وهلم جرا؛ والجهد والمقاومة، مع وجود نقطة بداية وارتكاز. ومفهوم الحركة في الرياضات الجديدة - كركوب الأمواج، وركوب القوارب الشراعية، والطيران الشراعي المعلق- شكل الإنضمام إلى موجة (...) وكيفية الإندماج في حركة الموجة الكبيرة، أو عامود الهواء المتصاعد، وذلك بُغية الإنضمام إلى شيء موجود، بدلا من تكوين منشأ جديد للجهد(15).
إن الأمر المثير حقا في كلام الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن الرياضة هو الجسد؛ فالمدهش هو الجسد (نيتشه) وما يقدر عليه (سبينوزا). ولعل الشر المطلق الذي أصاب ويصيب الجسد هو: فصله عما يستطيعه، ومنعه من قدرته على الفعل.

الهوامش:
1- يقول دولوز:"نبتكر دائما أجناسا جديدة من الكهنة من أجل السر الصغير والقبيح، والذي لا هدف له سوى فرض نفسه ووضعنا داخل ثقب أسود قاتم، وجعلنا نثب ثانية على الجدار الناصع البياض"، جيل دولوز وكلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، 1999، ص64.
2- يقول دولوز:"إن حقوق الإنسان هي معايير اصطلاحية (Axiomes): يمكنها أن تتعايش مع معايير أخرى في السوق، وخاصة تلك المتعلقة بضمان الملكية التي تتجاهل هذه المعايير أو تعلقها أكثر مما تتعارض معها: "إنه الخليط المشوب أو التجاور المشوب" كما يقول نيتشه، جيل دولوز وفليكس غتاري: ماهي الفلسفة؟، ... . لا تقول حقوق الإنسان أي شيء عن أنماط العيش المحايثة للإنسان المتمتع بالحقوق، جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ترجمة مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، 1997، ص119 و120.
3- جيل دولوز وفيلكس غتاري: ما هي الفلسفة؟ ص122.
4- - Gilles Deleuze : Les Intercesseurs,
http://lesilencequiparle.unblog.fr/2010/02/23/les-intercesseurs-gilles-deleuze/
5- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام، T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص160 و161.
6- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام، T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، 161ص.
7- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص161 و162.
8- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص162.
9- يُعبّر دولوز عن إعجابه بهذه "الضربة الناعمة" كالتالي:"أتذكر حركة أدهشتني حين كنت طفلا لأنها لم تكن تخلق تأثيرا. كنا نرى أن الخصم قد أخطأ الكرة، لكن كان علينا أن نتعجب لماذا. كانت مجرد ضربة ناعمة، وبعد فحصها بدقة، رأينا أنها كانت ضربة الإرسال. حين كان الخصم يضرب ضربة الإرسال، كان اللاعب يردّ الكرة بضربة ناعمة بعض الشيء، ونتيجة ذلك أن تسقط الكرة عند طرف أقدام من ضرب ضربة الإرسال بينما يتقدم ليرفعها، وهكذا كان يتلقاها، ليس حتى في منتصف الطيران، ولم يكن يستطيع إعادتها. كانت تلك ضربة غريبة لأننا لم نكن نستطيع أن نفهم جيدا لماذا كانت تنجح هكذا كحركة"، جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص162.
10- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،0 مثلما في Opéra [الأوبرا]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص124.
11- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص163.
12- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص160.
13- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام،T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص162.
14- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام، T مثلما في Tennis[التنس]، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص159.
15- ستيفن كونزر: فلسفة الرياضة، ترجمة طارق راشد عليان، مراجعة د.شحدة فارغ، أبو ضبي-الإمارات العربية المتحدة، دائرة الثقافة والسياحة، كلمة، 2019، ص262.
يقول كورنز:"في النظام الأول للحركة، تتصادم الأجسام والحركات مع بعضها بعضا في الفضاء الذي توجد فيه؛ وفي النظام الثاني، تتكثّف الحركات لتصير أجساما، ثم تُغرس الحركة في الأجسام في الفضاء الذي تستحثه بنفسها وتشكل جوهره. وتشدد الأنواع الجديدة من الرياضات التي يشير إليها ديلوزي (جيل دولوز Gilles Deleuze) على أهمية الإنزلاق أو ما يماثله من حركات -التزلج، والإرتفاع المفاجئ، والتحليق، والطّفو، والتحويم- يُعبّر عنها باستخدام كلمات من قبيل: بموازاة، وعبّر، بدلا من: على أو فوق، ستيفن كونزر: فلسفة الرياضة، ص263.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟