تـشُـول هَـان وعـنـفُ الشـفـافـيــــة - حــمـزة فِــــنــــيــن

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

على سبـيــل التّقديــم:
 الكتابُ الذّي سنحاولُ من خلاله معالجة إشكال "الشفافية" ومدى عُنفها هو كتاب "مجتمعُ الشفافية" (Transparenzgesellschaft) لـبيُونـغ تشول هان. هذا الأخير هو فيلسوف ألمـاني ذو أصلٍ كوريٍ، وُلد سنة 1959 ثم قدم إلى ألمانيا في سنٍ مبكرة ليدرس الأدب والفلسفة بعد أن كذب على والديه وأخبرهم أنه سيذهب ليتم دراسة علم المعادن (Metallurgy) بعدما أنهى جزءاً من دراستها بِـكُوريا. وبالفعل فقد حقق هدفه الذي جاء من أجله ودرس الفلسفة بجامعة فرايبورغ Freiburg)) ثم أصبح أستاذا بجامعة برلين للآداب بعدما أنجر أطروحة الدكتوراه عن هايدغر سنة 1994. ولولا تلك الكذبة لمَا درس الفلسفة ولما كتب هذا الكتاب ولما كتبنا نحن هذه المقالة! أما كتاب "مجتمع الشفافية" فهو أول كتابٍ يُترجم إلى العربية لهذا الفيلسوف، وربما هو الوحيد، وقد ترجمه بدر الدين مصطفى وراجعه جواد رضواني وصدرت طبعته الأولى عن دار "مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع" سنة 2019. وقد جاء مقسماً إلى تسعة فصول، إضافة إلى التوطئة، موزعة على 104 صفحات، وهي عدد صفحات الكتاب، لتوضع على غلافه صورة تُظهر رجلاً يقف أمام متاهةٍ كبيرة لا يُعرَف سبيل الخروج منها، والتي جُسِّدت بدورها على شكل وجه إنسانٍ، كما يبدو، في دلالةٍ موغلةٍ في إيحاءاتها. فلا شك أنها تشير إلى إنسان العصر الحالي، إنسان "المجتمع الشفاف"، الذّي أصبح داخل متاهة كبيرةٍ، بل هو نفسه أصبح متاهة، تُشبه متاهة تلك المكتبة الضحمة التي توجد في رواية "اسم الوردة" والتي ينتهي الأمر بمن يدخلها إلى الضياع أو الهلاك إلا من رحم ربي!

وقد جاءت فصول الكتاب التسعة لهدف واحدٍ هو وصف وتحليل ونقد المجتمع المعاصر الذي أسماه تشول هان بــ "مجتمع الشفافية"، فهذا الكتاب هو محاولة فلسفية جادةٌ لفهم عالمنا المعاصر وسبر أغواره والوقوف على مساوئه. وقد حاول تشول هان إيضاح تجليات هذه الشفافية من خلال مفاهيم/ مميزات عدة مثل "الإيجابية" و"العرض" و"البورنوغرافيا" و"المعلوماتية" و"التسارع" و"التحكم" "والتحجب" وغيرها. فمجتمع الشفافية هو المجتمع الذّي تخترقه كل هذه المميزات في العمق.

1- الــمجتمعُ الشفَّـاف مجتمعٌ إيجـابـي:

 "الشفافية" هي تلك الكلمة التي طالما سمعناها في عصرنا الحالي، لا في مجال السياسة فقط بل في جميع مجالات الحياة. ويشير تشول هان إلى أنه لكلمة "شفافية" طنينٌ وهيمنةٌ وحضورٌ كبير على الخطاب العام المُعاصر بشكلٍ لم تعرفه أية كلمة أخرى، حتى أن الأمر وصل إلى حدّ الافتتان بها! وهي، حسب تشول هان، نظامٌ ليبرالي مترسخٌ في وقتنا الراهن بشكلٍ كبير، يهدف إلى فرض النظام على كلّ شيءٍ بُغية تحويله إلى معلومات! وهذه الشفافية، كما يقول هان، تجعلُ الإنسان كما الزجاج وهنا يتجلى عنفُها. كما أنها تعمل على ’’ خلق الثقة، وهي بذلك ترسّخ لعقيدة جديدة، إلا أن ما يتم تجاهله هنا يتمثل في أن رفع شعار الشفافية يحدثُ في مجتمعٍ يكون فيه معنى "الثقة" ملتبساً إلى درجة كبيرة للغاية‘‘[1]. وأول صفةٍ تميز مجتمع الشفافية هي صفة "الإيجابية"، فمجتمع الشفافية يتجلى أولاً، وقبل كلّ شيء، بوصفه مُجتمعاً إيجابياً على حدّ قول تشول هان. لهذا وجب الوقوف عند هذا المصطلح وبيان دلالته.

تجدر الإشارة منذ البداية إلى أن معنى "الإيجابي" بعيدٌ كلّ البعد عن المعنى اللغوي، فهذا المصطلح مرتبطٌ بمدرسة فرانكفورت، ولفهمه يجب العودة إلى كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" لهربرت ماركيوز الذي هو أحد رواد الجيل الأول لهذه المدرسة. ففي هذا الكتاب يميز ماركيوز بين "التفكير الإيجابي" و"التفكير السلبي"، فالأول قد أنتجه النظام الرأسمالي المعاصر، وهو فكرٌ أُحادي البعد منكفٍ على ذاته، مُقصٍ للتعدد والاختلاف، يمارسُ الوصاية على عقلِ الإنسان المعاصر لكي يُصبح العقلُ الإداري للدولة هو السائد، إنه فكرٌ يوحي إلى أن ما يُقدمه هو الحقيقة وما عداه كذبٌ في كذب، إنه فكر يؤسّس لعقلٍ من دون ذاكرة وخيالٍ ونقدٍ، عقلٍ قد تخلّص من ماضيه، وأطّر حاضره، وعـجز عن تخيُّل مستقبله [2]. أما الثاني، أي التفكير السلبي، فهو التفكير الناقد الفاحصُ الجدلي الذي يتأمّل فيعي، ويُسأّل فلا يدعي، الذي يطرح الأسئلة المشاغبة والمشاكسة ويقوم العقل ويسدّد الفكر ويفرز الرؤى المختلفة، بل والمتناقضة، لكنها غنية جداً، ودائماً ما تفتحُ أبواباً جديدةً للتفكير والتأمل والمراجعة. لكن هذا التفكير قد تمّ إقصاؤُه وابتلاعُه من طرف "التفكير الإيجابي". ويمكننا القول بناء على هذا إن "التفكير الإيجابي" يمسخُ العقل! فسلطة السلب أو النفي هي المبدأ الذي يتحكم في تطوّر المفاهيم، والتناقض هو الصفة المميزة للعقل كما أدرك ذلك هيغل. أما من الناحية اللغوية فقد يجوز لنا اعتبار "الإيجابي" هو السلبي، و"السلبي" هو الإيجابي.

هكذا فالمجتمع الشفّاف الإيجابي لا مكان فيه للجدل والتأويل فهما يفترضان "السلبية" بطبيعتهما. وتتجلى هذه "الإيجابية" بشكلٍ واضح في مواقع التواصل الاجتماعي، كالفايسبوك مثلا، وهو ما يوقفنا عليه تشول هان كنوعٍ من التلخيص والاختزال، حيث أن "الإيجابية" كلها تتجلى في الضغط على زرّ "أعجبني" (Like)! ومعروفٌ أن الفايسبوك قد رفض باستمرارٍ إقامة إمكانية التعبير عن "لم يُعجبني" (Dislike). فهو هكذا يتجنب السلبية بكل أنواعها. إنه لا يريد رفضاً بل قُبولاً فقط! فالسلبية تجعل التواصل في مأزق يحرص المجتمع الإيجابي دائما على الهروب منه. كما أن هذه السلبية الناتجة عن الرفض أو عدم الإعجاب لا يمكن استغلالها اقتصاديا وبالتالي لا طائل منها! يقول تشول هان: ’’ إنّ التواصل الشفاف هو التواصل الذي يمارس عملية التهيئة والتسوية؛ إنّه يؤدي إلى التزامن والنمطية؛ يقضي على الآخرية (Otherness)‘‘[3].

2- القضــاء على الخصوصـيــة وسيطرة البورنوغرافيا :

يُبيّن تشول هان أن المجتمع الشفاف/ الإيجابي هو مجتمعٌ بجعلُ كل شيءٍ مرئياً، فهو يفتقر إلى سلبية ما هو مخفي أو سرّي أو ما لا يمكن الوصول إليه، بل أكثر من ذلك فإن ’’ ما هو غير مرئي هو غير موجود؛ لأنه لا يولّد أية قيمة عرض، ولا ينتُج عنه أي اهتمام‘‘[4]. إن مجتمع الشفافية هو مجتمعٌ للعرض، مجتمعٌ يميلُ دائما إلى التشكيك في كل شيء لا يتم الإعلانُ عنه، لا يتم عرضه، لا يراه الجميع، وهنا يتجلى عنفُ الشفافية أيضا. لكن في هذا العرض تفقد الأشياء قداستها! حيث يُبيّن لنا تشول هان، مستنداً في ذلك على فالتر بنيامين، أن "قيمة التقديس" لا ترتبطُ بالعرض بل بالحضور، وأن عملية التقديس تبلغُ مداها عندما تتوجّه نحو جوانب مُخبّأة عن الأنظار بإحكام، كأن توجد داخل غرفةٍ لا يمكن بلوغها كما يمثل لذلك تشول هان. هكذا فقيمة التقديس تختفي في المجتمع الشفّاف/ الإيجابي لصالح قيمة العرض حيث كل الأشياء قد تحوّلت إلى سلعة وأصبح وجودها عارٍ وخالٍ من أيّ معنى. والعرض لا يقتصر على الأشياء المادية فقط بل يصل إلى الإنسان أيضاً، حيث تُنزعُ القداسة عنه هو الآخر. يقول تشول هان مبيّناً هذا الأمر: ’’ منذُ زمنٍ بعيد، اختفى "الملمح الإنساني" من التصوير الفوتوغرافي، إلى جانب القيمة المقدسة التي كان يحتفظُ بها. يؤكّد عصر الفيس بوك والفوتوشوب أن "الوجود البشري" أصبح مساوياً فقط لقيمة العرض؛ الوجهُ مجرّد عرضٍ على الشاشة، "منزوعٍ [من] هالته"‘‘[5]. علاوة على هذا، فمن بين النقاط المهمة التي تميّز العرض هي أنه يفتقرُ إلى أيّ تأملٍ جمالي حيث أن جماليته تصبح في نهاية المطاف أشبه بمخدّر. فعلى سبيل المثال لا تتطلب عملية التقييم التي يُعبَّر عنها بالضغط على زرِّ الإعجاب أي عناءٍ تأملي على حد قول تشول هان[6]. فهذا العرض لا غموض ولا لبس فيه، فقد تحرّر من كلّ عمقٍ تأويلي ومن كلّ معنى، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى أية وقفة تأملية أو مجهودٍ ذهني.

هكذا فمجتمع الشفافية هو مجتمعٌ قاضٍ بشكل تام على المجال الخاص/ الخصوصية، وهو ما يتعارض مع طبيعة الوجود الإنساني حسب تشول هان. إنه يريد الكشف على كل شيء، حتى على ما يتعلق بحياة الأفراد الحميمية. فتلك المساحات السرية في حياة الأفراد ’’ يتوجّب تسليط الأضواء عليها، ومن ثمّ يتمُّ استنفادها؛ إنها فحسب [الشفافية] تجعلُ العالم وقحاً وعارياً بما فيه الكفاية‘‘[7]. إن الشفافية تقيس كل شيءٍ من خلال قيمته في العرض، لهذا فهي تسعى جاهدةً إلى تحويل كل شيءٍ إلى الخارج، بعد تجريده من ملابسه وتعريته، حيثُ يمكن للجميع رؤيته ووصفه وتقييمه. وهذا الإفراطُ في العرض هو الذي يحول الأشياء إلى سلعة حسب تشول هان. ’’ يُخضِع الاقتصاد الرأسمالي كلّ شيءٍ إلى قانون العرض القهري. العرض وحده يولّد قيمة، الطبيعة المتأصّلة في الأشياء بأكملها (Eigenwuchsigkeit der Dinge) يتمّ التخلي عنها تدريجياً، فهي لا تختفي في الظلام، ولكن عبر العرض المفرط؛ "بشكلٍ عام، لا تصل الأشياء المرئية إلى نهايتها عبر الغموض والصمت؛ بل تتلاشى عندما تكون مرئيةً بصورةٍ مفرطة: إنه الفـحـش"‘‘[8]، فـالشفافية فاحشةٌ لأنها لا تبقي على أيّ شيءٍ مُغطّى أو مخفي أو متستّر. كل هذا جعل تشول هان يقول إن مجتمع العرض هو مجتمعٌ بورنوغرافي!

يُسلّط بيونغ تشول هان الضوء على جزءٍ هام مُشَكِّلٍ لمجتمع الشفافية ألا هو "البورنوغرافيا"، وتشول هان لا يختزل البورنوغرافيا فقط في الجسد بل هي تميز المجتمع ككل، فكل ما يتم تعريته والكشف عنه يدخل في نطاق البورنوغرافيا، لهذا هو يصف مجتمع العرض بأنه مجتمعٌ بورنوغرافيٌ. والرأسمالية تزيد كل يومٍ من بورنوغرافية المجتمع من خلال عرض كل شيء كسلعة وتضمينها داخل الفضاء المرئي. لكن رغم هذا فتشول هان يتطرق أيضاً إلى البورنوغرافيا بمعناها الخاص، أي المتعلق بالجسد الإنساني، حيثُ يحلّل العلاقة القائمة بين الإخفاء/ السرية والبورنوغرافيا متوسلاً بعصا فالتر بنيامين مرة أخرى. حسب هذا الأخير فالجمال دائماً ما يتطلّب ما يُخفيه، إنه مرتبطٌ بالإخفاء/ الغطاء/ التغطية، أما إذا تعرّى كلياً وأعلن عن نفسه بدون أي إخفاء فهو يفقد جماله. في هذا الصدد يقول بنيامين: ’’ في عريه يتجرّد من دوام بقائه. أما في العري غير الكامل للإنسان، فيوجد جمالٌ يتجاوز كلّ ضروب الجمال، جمالٌ سامٍ، وعملٌ يتجاوز كل الإبداعات‘‘[9]. فلا عجب أن يعتبر تشول هان ذلك العري التام، كما يظهر في البورنوغرافيا، ذنباً لا يُغتفر، فالجسد العاري الذي يكون موضوعا للعرض البورنوغرافي هو جسدٌ بائسٌ ومفتقدٌ للسمو حسب تشول هان، فذلك الشرط الجوهري الذي حدّده بنيامين للجميل تم انتزاعُه، وهكذا تم تدمير ذلك السمو الخلاق[10].

يوقفنا تشول هان على نقطة على غاية من الأهمية وهي أن البورنوغرافيا لا تنتزعُ الجمال فقط بل المتعة واللذة أيضاً! فسلبية الإخفاء والاحتجاب والسرية تعملُ أكثر على إثارة الرغبة ومضاعفة المتعة واللذة، على عكس ما قد يظن البعض، أي أن مجتمع الشفافية عندما يُلغي الإخفاء والتحجّب فهو يناصب العداء للمتعة. فالشفافية والمتعة بهذا المعنى لا تجتمعان أبداً. وهذا ما يوضحه تشول هان قائلاً: ’’ فقط سحبُ الشيء إلى منطقة الغموض والخفاء يُؤجّج الرغبة فيه. إنّ استنفاد/ استهلاك المتعة في وقتها الحقيقي يقضي عليها، ولكن مقدمات الرغبة التي تعتمد على الخيال والتمني والإرجاء الزمني، تُعمّق كلاً من المتعة والرغبة أكثر‘‘[11]. وهذا هو ما أخفق جيورجيو أغامبين في إدراكه، أي إدراك ذلك الاختلاف الجوهري بين الإثارة الجنسية والبورنوغرافيا. فالعرض المباشر للعري ليس بالأمر المثير كما يقول تشول هان، لأن المكان المثير والمغري والفاتن للجسم لا يوجد إلا في "الفجوات التي تحتويها الثياب"، كما أن التوتر الجنسي لا ينشأ عن طريق العرض المتواصل للعري، كما قد يعتقد البعض، بل عن طريق "التراوح بين الظهور والاختفاء"، فالغرائزي يفترض سلبية السرية والاخفاء بطبيعته. وبما أن الشفافية تنفر من كلّ أنواع السلبية، بالمعنى الذي وضحناه في البداية، فهي لا تتضمن أي إغواءٍ أو إثارةٍ جنسية[12]!

ليست البورنوغرافيا سوى صورة "مضطربةٌ ومشوشة" مثل ’’ واجهةٍ زجاجية تعرض قطعة واحدة فقط من المجوهرات البراقة، واجهة مخصّصة بالكامل لعرض شيءٍ واحدٍ فقط: الجنس، وليس ثمة موضوعٌ آخر غير متوقّع يأتي ليستر بعض الشيء، يُرجـئ أو يُشتّت‘‘[13]. لهذا يذهب تشول هان إلى القول بأن البورنوغرافيا لا تُدمّر الإيروس فحسب بل تقضي على الجنس أيضاً، فعرض البورنوغرافيا يؤدي في نهاية المطاف إلى إحداث قطيعةٍ مع الرغبة الجنسية، إذ تصبح هناك استحالةٌ أمام عيشها، أما المتعة التي قد يحصل عليها المرء انطلاقا من هذه العروض فهي، حسب تشول هان، ليست متعةً على الإطلاق[14]. والبورنوغرافيا في نهاية المطاف ليست سوى اتصالٍ سطحيٍ بين الصورة والعين.

 3 – أزمـة التســارع والمـعلـومـــاتيــة:

استمراراً في تحليل مجتمع الشفافية هذا، يوقفنا بيونغ تشول هان على خاصيتين مميزتين له، وهما مرتبطتان ببعضهما البعض، إنهما "التسارع" و"المعلوماتية". يوضح تشول هان مشكلة التسارع قائلاً: ’’ بقدر ما يكون التسارع المفرط فاحشاً؛ لم يعد أي شيءٍ أو أي مكان يتحرّك بالفعل [...] "لا تتلاشى الحركة في اللاحركة بقدر ما تتلاشى في السرعة والتسارع [...] الأمر الذي يدفعها نحو تجاوز أقصى الحدود مع تجريدها من المعنى"‘‘[15]. لهذا فمجتمع التسارع الفاحش يُحاول إلغاء كل ما لا يسمح بالتسارع أو ما لا يقبله، كالشعائر والطقوس الدينية مثلا كما يورد تشول هان، فالشفافية تعمل على إلغاء هذه الطقوس كافة لأنها تعيق التداول المُتسارع للمعلومات وللتواصل وللإنتاج، ناهيك عن أن مجتمع الشفافية يناهض كل ما هو نفسي وطقوسي، ويريد تعرية وتجريد المجتمع من أيّ بعدٍ رمزيٍ له. لكن عصرنا الحالي، حسب تشول هان، لا تمكن أزمته في التسارع فقط، بل تكمن أيضاً في أنه عصرٌ يُشتّت الزمانية ويفكّكها، بتعبير تشول هان، ليتحوّل الوقت بذلك إلى ضجيجٍ بلا وجهةٍ محدّدة وإلى مجرّد ثوانٍ ودقائق وساعات تم حشد بعضها إلى بعض وتم إفراغُها من كلّ الأشكال السردية ومن كلّ معنى، إنه وقتٌ لا طعم ولا رائحة ولا لون له! ولعلّ هذا هو ما يدفعنا أحياناً إلى التساؤل: هل حقا كان اليوم، زمن الفارابي وابن سينا، يتكون من 24 ساعة؟!! 

ربما أكثر شيء يتسارع في مجتمع الشفافية هي المعلومات (أو الشفافية الرقمية)، فهذا المجتمع هو مجتمع المعلومات التي تظهر على نحوٍ عارٍ كما يقول تشول هان. ويكمن عنفها في كون ’’ العالم الذي يتكوّن من المعلومات فحسب؛ حيث يعني التواصل تداول المعلومات دون تدخلٍ من أحد، سيغدو عالماً آلياً. فالصفة المُهيمنة على المًجتمع الإيجابي تتمثّل في "شفافية المعلومات وفجاجتها في عالمٍ يتمُّ إفراغه من الحدث". إلزام الشفافية يجعل الإنسان نفسه هشاً طيّعاً، مما يحوّله إلى مجرّد عنصرٍ وظيفيٍ داخل النظام. وهنا يكمن عنفُ الشفافية‘‘[16]. هكذا يتحول الإنسان في مجتمع المعلوماتية إلى مجرد ربوبوت قد لا تتجاوز وظيفته الضغط المستمر على بعض الأزرار. إضافة إلى أن سيكولوجيته تتغير وهذا هو الأخطر! بداية من المشاعر السلبية التي لا يتسامح معها المجتمع الإيجابي/ الشفاف، مما يجعل المرء يفقد القدرة على التعامل مع الألم والمعاناة والحزن وغيرها، إلى تنظيم النفس الإنسانية بطرقٍ جديدة، كما يوقفنا على ذلك تشول هان، حيث يضرب مثالا بالحب الذي تتم تسويته خارجاً بغية تنظيم مشاعر المتعة وحالات الإثارة دون تعقيد أو عواقب. ويورد تشول هان بعض العبارات التي اقتبسها آلان باديو في كتابه "مديح الحب" من خدمة المواعدة الإلكترونية "ميتيك" (Meetic) مثل: "أن تكون في الحب دون أن تقع في الحب!" ويا لخطورة هذا الأمر [17]! كما تجدر الإشارة إلى أن المزيد من تراكم المعلومات لا يُساهم أبدا في إنتاج الحقيقة مادام هذا التراكم يفتقر إلى المعنى، فالمجتمع الشفاف بعيدٌ كل البعد عن الحقيقة باعتبارها قوة سلبيةً.

علاوة على ذلك فإن هذه المعلوماتية كانت لها نتائج وخيمة على المجتمع، وربما قد كانت لها المساهمة الأكبر في جعل المجتمع أكثر شفافية. وهذا ما يوقفنا عليه تشول هان قائلاً: ’’ على النقيض من عالم الحقيقة لدى أفلاطون، يفتقر مجتمع الشفافية اليوم إلى ضوءٍ إلهيٍ يسكنُه التوتّر الميتافيزيقي. الشفافية لا تعرف معنى العلو. إن مجتمع الشفافية شفافٌ بلا ضوء؛ لا يُضيء بالضوء الذي يفيض من مصدرٍ متعالٍ‘‘[18]. ولعلّ غياب ذلك التعالي أو "موت الإله" في مجتمع الشفافية هو ما يمثل الأزمة الروحية الكبرى لأصحابه، خاصة الحضارة الغربية باعتبارها شفافة بامتياز. لهذا فحديثها دائماً ما يفتقر إلى القلب والتقاليد والتوسط اللاهوتي الميتافيزيقي للحقيقة على حد قول تشول هان، وهو ما أشار إليه العديد من قبله مثل محمد إقبال الذي قال، بما معناه، إن المرض العضال للغرب هو العقل بلا قلب. لهذا لا يمكن اعتبار الشفافية الرقمية تصويراً للقلب بأي معنى من المعاني، إنها، حسب تشول هان، ليست سوى بورنوغرافيا! 

4 – مجتمع الحرية أم مجتمع التحكُّم؟

في نهاية كتابه "مجتمع الشفافية" يخلص الفيلسوف بيونغ تشول هان إلى أن الحرية التي يتغنى بها هذا المجتمع، في نهاية المطاف، هي شكلٌ من أشكال التحكّم/ السيطرة! لكن كيف ذلك؟

أشار بيونع تشول هان في توطئته للكتاب أن من مظاهر عنف الشفافية أنها تجعل الإنسان كما الزّجاج، إذ يُصبح هذا الكائن المعقد أشد التعقيد فيزيولوجيا وسيكولوجيا عارياً تماما، قد انكشفت مكامن نفسه وقفزت تفاصيل حياته الحميمة إلى السطح، وبات من السذاجة القول بوجود شيءٍ يُسمى بالخصوصية. لقد أصبحت حياة الأفراد في مجتمع الشفافية معروضةً للجميع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل جعلني كثيراً ما تساءلت، وقد يُشاركني القارئ هذه التساؤلات، لماذا يعرض هؤلاء الأفراد ذواتهم وحيواتهم الحميمة، بشكلٍ يوميٍ، على هذه المواقع؟ كيف يمكن فهم هذه السيكولوجية الجديدة؟ هل هم حقاً أحرار بعرضهم لكل ما يشاؤون؟ وقد أعانني كثيرا كتاب "مجتمع الشفافية" في فهم تساؤلاتي أولاً ثم في الإجابة عنها. 

 يؤكّد تشول هان أن مواقع التواصل الاجتماعي التي تقدّم نفسها على أنها فضاءات للحرية، هي في الحقيقية تعتمد نظام مراقبةٍ رقمي كليٍ ((Panopticon، حيث أن "Opticon" تعني "مراقبة" و "Pan" تعني "الكل"، يؤدي دور التأديب والتوجيه الاجتماعي، بدون أن نفهم نحن ذلك! فنعتقد أننا أحراراً وأننا نتواصل مع بعضنا البعض في حرية. و"البانوبتيكون" هذا هو نوعٌ من السجون قام بتصميمه الفيلسوف الإنجليزي والمنظّر الاجتماعي جيرمي بنتام سنة 1785، وفكرة التصميم تعتمد على السماح بمراقبة جميع السجناء دون أن يعلموا ما إذا كانوا مراقبين أم لا، وقد وصفه بنتـام بأنه طريقة جديدة لتحقيق سيطرة العقل على العقل. وقد ألهمت فكرة البانوبتيكون هذه، بوصفها رمزاً للسلطة غير المرئية فلاسفة مثل فوكو وتشومسكي وباومان كما ظهرت في أعمال الأديب الإنجليزي جورج أورويل[19]. من هنا يمكن القول إن مجتمع الشفافية هو مجتمعٌ "بانوبتيكونيٌّ" بامتياز، إن صحّ هذا التعبير، إنه مجتمع التحكم المطلق والمراقبة المطلقة. لكن المشكلة الحقيقية ربما لا تتجلى في هذا النظام بحدّ ذاته ولا في جهل الناس به بل في أنهم يتعاونون بنشاطٍ من أجل بنائه وحمايته! وهو ما يُعبّر عنه تشول هان قائلاً: ’’ تتمثّل خصوصية نظام المراقبة الرقمي في أن قاطنيه يتعاونون بنشاطٍ من أجل بنائه وحمايته، وذلك من خلال وضع أنفسهم على الشاشة، وعرض ذواتهم على نحوٍ دائمٍ‘‘[20]. فالأفراد يستسلمون طواعيةً لنظرة المراقبة، يتعاونون لتعزيزه من خلال تعرية أنفسهم وحيواتهم الحميمية وعرضها للجميع. فترى الأفراد يستيقظون من نومهم فيكتبون تدوينة أو تغريدة ليخبروا الآخرين، أو بالأحرى ليُخبروا النظام، بأنهم استيقظوا للتو، وعندما يذهبون لتناول فطورهم يلتقطون صورا لهذا الفطورالشهي ليعرضوا ما يأكلونه على الشاشة، ونفس الأمر بالنسبة لباقي المأكولات، خاصة التي تكون خارج البيت، أما إذا ذهبوا في نزهةٍ مسائية جميلة مع أصدقائهم فإنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من أن يعرضوها على الشاشة أيضاً، ناهيك عن مشترياتهم الجديدة التي يجب أن تُعرض على الشاشة مباشرةً، فالنظام لا يريد تأخراً ولا تهاوناً، إنه ينادي بأعلى صوته: هيا أسرع واعرض كل شيء على الشاشة، لا تُخفِ أي شيء فهذا مُحرّم! لكن، للأسف، لا أحد يسمع هذا الصوت، إنهم يسمعون صداه فقط، لكن هذا الصدى يقول: هيا يمكنك أن تنشر أي شيء تريده فأنت حرٌّ أكثر من أي وقتٍ مضى! وهكذا يقع الأفراد تحت تأثير هذا الصوت لأنه أصبح مثل مخدّر. إن أفراد مجتمع الشفافية، من فرط عرضهم لذواتهم، لم يعد أحداً يُراقبهم ولا حاجة لذلك، فهم يكشفون عن كل شيء خصوصي أو سريٍ، لهذا يقول تشول هان: ’’ إن السجين في هذا النظام الرقمي هو الجاني والضحية في الوقت ذاته‘‘[21]. هكذا يستسلم الناس للاستغلال، فالشفافية هي الاستغلال! يصف تشول هان كل هذه المهزلة التي تتغنى بالحرية قائلاً، بما معناه، إن الواحد منا يأخذ دواءً لعلاج ألم الرأس لكن الدواء نفسه أصبح يسبب ألم الرأس [22]! وهكذا نكون قد وضحنا تلك المفارقة التي حملها السؤال أعلاه.

على سبـيــل الخـتــــم:

وبالمحصّلة، فقد ظهرت لنا مميزات وخصائص مجتمعنا المعاصر، مجتمع الشفافية، واتضح كيف تتداخل هذه الخصائص فيما بينها بشكلٍ جدليٍ، وتُكمّل بعضها البعض. فمجتمع الشفافية في نهاية المطاف هو مجتمع إيجابيٌ ينفر من جميع أشكال السلبية ويقوم على العرض واللاتحجّب والمعلوماتية والتسارع والإفراط في الحرية الذّي يؤدي في نهاية المطاف إلى جعل هذا المُجتمع مجتمعاً للتحكّم والسيطرة والمراقبة دون أن يعلم أفراده ما إذا كانوا مُراقبين أم لا.  ولعلّ العنصر الأساسي المميز لمجتمع الشفافية، والذي يحكُمه في العمق، هو منطق الإفراط في الحرية، وهو نفسه المنطق الذي يحكم "مجتمع التعب" أو "المجتمع الـمُـنهَك"، والذي هو عنوان لكتاب آخر لنفس الفيلسوف، وهو متكامل مع كتاب "مجتمع الشفافية"[23].  أما بخصوص عرض وتعرية كل شيءٍ، فإذا صحّ أنّ جان جاك روسو، في اعترافاته، قد كان صريحا حدّ الوقاحة الفجة وكشف عن كل شيء خاص به وبحياته الحميمية، ولم يتورّع عن القول بأنه أرسل أبناءه إلى ملجأ اللقطاء، إلاّ لكي يُخفي حقيقة أكبر وأشد إيلاماً لم يستطع البوح بها، وهي أنه لم يكن له أولاد كما لاحظ ذلك ستيفان زفايغ [24]، فإننا نتساءل إذا أمكن هذا التقابل: هل هناك حقيقة ما يريد نظام الشفافية إخفاءها وطمسها، حقيقة يمكن أن تقتلع الشفافية من جذورها؟!

 وأخيرا نتساءل: هل يمكن للإنسانية أن تتقدّم في ظل هذا النوع من الحرية الذي يسود مجتمعاتنا؟

بالنسبة لبيونغ تشول هان فالإجابة هي: لا. فهذه الحرية غير المقيدة والعرض الفاحش والانفتاح التواصلي المفرط في الانفتاح لا يُفضون إلا إلى الخراب وتدمير الأخلاق الإنسانية، فمجتمع الشفافية، باعتباره مجتمعا ليبراليا، لا أخلاق له، فالفلسفة الليبرالية في جوهرها لا أخلاقية، بل يمكن القول إنه لم يسبق لمذهبٍ من المذاهب أن ابتذل الأخلاق وقاس قيمها بأوراق البنكنوت مثلما فعلت الليبرالية [25]. ناهيك عن أن المزيد من الحرية الفردية لا يعني سوى المزيد من رؤوس الأموال.

لهذا فالشفافية هي إيديولوجيا مثل الإيديولوجيات كلّها، تتميز بالشمولية والخداع كصفتين جوهريتين، وتُشكّل خطورة كبيرة إذا تم تعميمها حيث ستؤدّي إلى الإرهــاب. وفي كلمة واحدة فإن مجتمع الشفافية هو الجحيم نفسه [26].

[1]: تشول هان، بيونغ، مجتمع الشفافية، تر بدر الدين مصطفى، مراجعة جواد رضواني، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع: ط 1، 2019، ص 7.
[2]: المصدر نفسه، هامش ص 14.
[3]: المصدر نفسه، ص 8.
[4]: المصدر نفسه، ص 35.
[5]: المصدر نفسه، ص 31.
[6]: المصدر نفسه، ص 36.
[7]: المصدر نفسه، ص 19.
[8]: المصدر نفسه، ص 33.
[9]: المصدر نفسه، ص 50.
[10]: المصدر نفسه، ص 51.
[11]: المصدر نفسه، ص 41.
[12]: المصدر نفسه، ص 56 – 57.
[13]: المصدر نفسه، ص 59.
[14]: المصدر نفسه، ص 34.
[15]: المصدر نفسه، ص 64.
[16]: المصدر نفسه، ص 16 – 17.
[17]: المصدر نفسه، ص 21 – 22.
[18]: المصدر نفسه، ص 80.
[19]: المصدر نفسه، هامش ص 9.
[20]: المصدر نفسه، ص 93.
[21]: المصدر نفسه، ص 99.
[22]: “You take a drug against headache, but now the drug itself starts causing a headache!
انظر: https://www.youtube.com/watch?v=bNkDeUApreo
[23]: انظر: Byung – Chul Han, The Burnout society, trans Erik Butler, Stanford university press, 2015.
[24]: انظر: بدوي، عبد الرحمن، الموت والعبقرية، دار القلم، بيروت، لبنان، ص 103.
[25]: انظر: بوعزة، الطيب، نقد الليبرالية، تنوير للنشر والإعلام، ط 1، 2013، ص 141.
[26]: بيونغ تشول هان، مصدر سابق، ص 10 وص 15.

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟