بيكاسو فناناً انقلابياً - عبد الرّحيم دَودي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"إنني لا أنقل من الطّبيعة وإنّما أرسم بمعونتها. أنا لا أعرض العالمَ كما أراه ولكن كما أفكّرُ فيه". بيكاسو

على سبيلِ التّقديمِ:

    يعتبرُ الفنّان التّشكيليُّ الإسباني "بابلو بيكاسو"(1881-1973) واحداً من أعظم الفنّانين في القرن العشرين. وهذا ليس زعماً باطلاً؛ فقد اِجْتَرَحَ هذا الفنّانُ-الذي وَسَمَهُ "جُون بيرجر" في كتابهِ: "بيكاسو نجاحهُ وإخفاقهُ*" بالغازي الشّاقولي-أفقاً فنيًّا بالغ الفرادة؛ يتعانقُ فيه الأنطولوجيّ بالإبداعي تعانقاً يرشحُ بهواجس التّجاوزِ والتّخطي واعتناقِ رُؤى جديدة تَنْسِفُ الفكر الصّنمي والمواضعات الجماليّة الراسيّة والمُرسّخة لمركزّية الغربِ. وبهذا المعنى، فقد كانتِ اللّوحةُ، في تجربته الفنيّة، تمثيلا رمزياً متفجراً[1] لواقعٍ مشروخٍ، مثلومٍ، وباهتٍ. وهي تجربةٌ تُؤشّر على نُزوعِه نحو الانقلابيّة، وعدم الاستقرارِ عَلى وَضعٍ ثابتٍ.

ولا يَعزب عن النّظر، أنّ فنّ بيكاسو يحتوي حضارات إنسانيّة مُتباينة، وهو حَلقة وصل بين عصورٍ مختلفةٍ، وهو وإنْ كان نقطة تحولٍ حاسمةٍ ما بين الكلاسيكيّة والحداثة، فإنّه أيضا نقطة انطلاقٍ نحو آفاق لا حُدود لها من التمرّد على المفاهيم الفنيّة المتوارثة. وكان بيكاسُو قد أدركَ، منذُ العقد الأوّل من القرن العشرين، هَذا التوجّه الذي يقودُ إلى الفَوضَى، واختلاط القيم، وهُو مَا حصل فعلاً، فأرادَ أن يُوجِدَ قوانينَ جديدة؛ تفتقت باجتراحهِ للاتجاهِ التّكعيبيِّ بمعيّة زملائه ليكونَ هذا الاتحاهُ أنموجاً جمالياّ يؤسّس لممارسةٍ فنيّة تَربَأ عن الانْحِشَارِ في مَضَايقِ الاجترارِ المريضِ وتهفُو، بكلّ قوةٍ، إلى تَرسيخِ قواعد تُثْري الحقل الفَني[2].

      يَقُولُ بيكاسو: "ينبغي أن تكون ثمة دكتاتوريّة مطلقة –دكتاتورية الفنانين، دكتاتورية فنان واحد-ليقمع جميع من غدروا بنا، ليقمع جميع الغشاشين، ليقمع الألاعيب، ليقمع التصنع، ليقمع التعاويذ، ليقمع التاريخ، وليقمع كومة الأشياء الأخرى، لكن الحسّ العام الذي يحول دون ذلك دائما. فلنشعل ثورة ضد الحس العام بادئ ذي بدء. إن الدكتاتور الحقيقي سيهزم دائما دكتاتورية الحس العام..."[3]. تبعاً لذلك، فقد كان بيكاسو فناناً انقلابيًّا يؤمنُ بأنَّ الإبداعَ التّشكيليَّ "يتألف من تحولات، أي من تبدلات مفاجئة يستحيل تعليلها(...) إن اللوحة عنده لا تمر عبر مراحل بل تعاني من تحولات، وهو لا ينظر إلى الدماغ من زاوية عقلية بل من زاوية تتابع الأحلام"[4].

    اتكاءً على هَذه الرُّؤى، فقد ظَهرَ الاتجاه التكعيبي، الذِي احتفر مَعالمه كلّ من "بابلو بيكاسو" و"جورج براك"، بحُسبانِه إِبْدَالاً اسْتِطيقيًّا في دَربِ "محاولة اجتراح أفق بصري جديد وكتابة لغة بصريّة جديدة تستدعي النهل من ثقافات أخرى ومن أساطيرها والتي يتحدد مرماها في الانفلات من مواضعات الرؤية الغربية..."[5]. وهكذا، فإنّ دَيدَنَ هذا الاتجاه التشكيلي المَكِين، يَكْمُنُ في إِخْضَاعِ الواقعِ إلى التّفكيكِ وإعادة التّركيب حسبَ أُطرٍ إشكاليّة تتساوق وتحوّلات العصر. هذا التشكيلُ الجديدُ يحملُ فلسفةً جماليّةً جديدةً ترتكزُ على زُهدٍ في الألوانِ إِلى حد استعمال لونٍ واحدٍ، ناهيك على أنّه يقوم على درجة عالية من هندسةِ الواقعِ والمُغالاةِ في تحويل كلّ شيء إلى شكٍل وحجمٍ وكتلةٍ. هذا كلّه في أفق قَلْبِ قواعد المنظُور، حتى يتأتى النّظر إلى الأشياء من جميع الزّوايا لا من زاوية واحدة. وفي هذا السّياق يقول" أبولينير" عن الرسم التكعيبي بأنه سيكون رسما خالصاً ومطلقاً[6].

    ويمكنُ اعتبارُ لوحة "نساء أفينيون" "Les demoiselles d'Avignon" البَيانَ الرّسمي لميلاد الفنّ التّكعيبي، فهذه اللّوحة التي اختطّتها أنامل "بيكاسو" تنصهر في تضاعيفها "كل مواصفات هذا التيار الفني من أحادية اللون ومن هندسة الأجسام والوجوه ومن تحويل وجهين اثنين أحدهما إلى قناع إفريقي والآخر إلى تمثال مأخوذ من جدارية مصرية قديمة، فضلا عن ما تحتمله اللّوحة من تأويل عام وهو أنها تخلق في آن واحد ما يشبه مزيجا من اللذة والشهوة التي تسبق الألم"[7].

    اتساقاً وَهَذِه الإِبْدَالات المفصليّة في تاريخ الفنّ الحديث، وفي عُلقة مكينة مَع أَنسَاقِها الفَلسفيّة، يَأتي هَذا المقال كَمحاولةٍ للوقوفِ عندَ مَواطِن انقلابيّة هذا الفنان الفذّ، والكَشف عن سُبل بنائِه لعوالمه الفنيّة الباذخة التي يَتَمَاهَى فِيهَا الفِكْرُ الوقّاد بالرّوح المُلْتَاعة والبَاحثةِ عن الحَقِيقَةِ الهَارِبَةِ في مساربِ الوجودِ. ومن هُنا، سنعتمدُ في تحريرنا لهذا البحثِ على كتابِ "جون بيرجر" "بيكاسو: إخفاقه ونجاحه"ُ، لما يضمُّه هذا الكتابِ بين دفتيّه من تحليلاتٍ عميقةٍ لشخصيّة بيكاسو. وسنلوذُ، أيضاً، بكتابِ المفكّر المغربيّ "عبد العالي معزوز"" فلسفة الصّورة: الصّورة بين الفن والتواصل". وسنتخذُ، بعد هذا وذاك، آليّة التّساؤل مبضعاً لتشريحِ البُنى الفكريّة والفلسفيّة والنفسيّة التي أطّرت تجربةَ هذا الفنّان الانْقِلابِي وَصَنَعَتْ مجدهُ.

  • بِيكَاسُو: هَاجِسُ التّغييرِ وحَقِيقَةُ الانْقِلابِ

   إِنّ المتتبّعَ للمَسَار الفَني للفنان الإِسباني "بابلو بيكاسو"، يَقِفُ ذاهلاً أمامَ طاقته الإبداعيّة الجبّارة التي لا تَنِي تَبْحَثُ عن إِمكاناتٍ جديدةٍ للصّوغ الفني. إنّه، من هذا المنطلق، فنانٌ يحرقهُ الثّبات والسّكون، ولا يروقه الجاهز والمتواتر. لهذا، كانت تجربتهُ تنقيباً في الذّاكرة الإنسانيّة عما يمكنهُ أن يبعثَ الحياة في الفن، لا باعتباره نقلاً لمعطى محسوسٍ يوجدُ في خارجٍ مَرجِعيٍّ، وإنّما باعتبارهِ وسيلةً لتركِ نِيرانِ الرّوح تنَدلعِ على" تخوم اللامُتَناهِي والمستقبلِ" على حدّ تعبير" أبولينير".

    لقد حطّم بيكاسو، وإلى الأبدِ، إمكانيّة قيامِ نظرةٍ سُكونيّة للطّبيعة في الفَنّ، وذَهَبَ إلى أبعد من ذلك؛ فقد وَقَرَ الاعتقادُ عندهُ أنّ التّشكيل يتمُّ بموجب "التفاعل فيما بين شتى المظاهر، والتفاعل بين البنية والحركة، والتفاعل في الأشياء الصلبة والفراغ المحيط بها، والتفاعل بين الرموز البينيّة المرسومة على سطح الصورة، والواقع المتغير الذي تمثله..."[8]. وبهذا، صَار بمقدُورهِ اكتشافُ التّداخل بين الظّواهر بصرياً. لقد أَوْجَدَ إمكانيّة الكَشْفِ عن العَمَليّاتِ عوضاً عن حالاتِ الوجُود السّكونيّة. وبهذا، انقلبَ على كلِّ المواضَعَاتِ المجحفةِ.

    وَفي هَذَا البابِ، يقولُ جون بيرجر: إنَّ فضلَ بيكاسُو على ثقافتنا غنيٌّ عن التّعريف. فَقد جعلنا نَعِي الإدراكَ الحسيَّ أكثرَ مما فعل أيُّ فنانٍ آخر. وقد أَغْنَى لُغَةَ الرّسمِ بحيثُ تُعَبِّرُ عن الوعي. غير أنَّ دلالةَ أعمالهِ تعتمدُ، فيما يبدو، على ما تُحاول نَسْفَهُ وتحطيمهُ. فأعماله التي تبدو في ظاهرها مُنطلقة، كلَّ الانطلاق، إنمّا هي تحيّةُ إجلالٍ يُلقِيهَا بيكاسُو في وداعِ تراثِ الرّسم الأوروبيّ. إن كلّ خلخلة تظلُّ مُذهلة. وكلُّ تحطيمٍ إنّما يتُّم في سبيلِ غايةٍ إبداعيّة مُعيّنةٍ. ومن هُنا، فقد كانَ بيكاسو غَازِيًّا. بهذه الصّفة، تحدّدت علاقته بأوروبا. إلا أنّه في قرارة نفسه كان "مُتوحشاً نبيلاً" وثوريًّا بُورجوازيا في الوقت ذاته[9].

    لقد كان بيكاسُو، إذن؛ فناناً انقلابياً دَائمَ البَحْثِ عن سحرٍ جديدٍ يبثّه في ينجزهُ من لوحاتٍ ومنحوتاتِ. وهكذَا، لم يتورعْ عنِ العَودة إلى الفنّ الإفريقي بِنزعتِهِ البدائيّة ليبحثَ في الأقنعة الإفريقيّة عن مَعِينٍ جديدٍ يغترفُ منه بعضَ الرؤى.

     ثُمَّ إنّه، لم يدخرْ جُهداً في سبيلِ الحفرِ في الفنّ الفِرعوني وإعادةِ استقرائه بُغيّة استيحاءِ أشكالٍ إبداعيّة جديدةٍ تتخطّى ضيقَ الأفقِ الذِي وصل إليه الفنّ الأوروبي، وهو ضيقٌ يؤوبُ، فيما نحسب، إلى "الأزمة التي عرفها الواقع crise du réel ou de la réalité بحيث أنّه لم يكن من الممكن من الآن فصاعدا تمثل الواقع كما هو. لقد أشبع الفن الكلاسيكي الواقع تمثّلا وأفرط في تصوير الواقع والآن حان وقت بناء الواقع وتخيّله(...) بمعنى آخر تشكيل الواقع لا كما هو وإنما كما نراه. ينبغي تطويع الواقع بحيث يبدو لنا كما نريد. لا يترجم هذا رغبة في الترف وإنما يجيب عن أسئلة محرقة يطرحها الواقع الحديث، وعلى رأسها لماذا لا زال الفن يحاكي الواقع بينما التاريخ الأوروبي الحديث يعرف طفرات متعاقبة تكنولوجية وعلمية وتحوّلات اقتصادية واجتماعية وثورات فكرية؟ هل يوجد بعد هذا مبرر ليظل الفن يحاكي الواقع؟"[10].

1.2. بيكاسُو وسحرُ الفنُّ الإفِريقيُّ

تمتحُ التّجربة الفنيّة عِندَ بيكاسُو من مناهلَ فكريّة وفلسفيّة وإنسانيّة بالغة العمق والفرادة. لقد آمن هذا المبدعُ الغَازِي بأنّ فنيّة الفنِّ لا تتأتى إلا من خلال التّجديدِ وعدم اجترار النّماذج القديمة؛ لهذا كان التّجديدُ، عندهُ، قَرِينَ العَودَةِ إلى ما يُشْبِهُ البَراءَةَ الأُولى التي يجَدُهَا في الأَسَاطِير. فَلا غَرو، إِذن؛ أنْ يستوحيَ بيكاسُو "الأقنعة الإفريقية في الاغتراف من غرابة الطقوس الإفريقية"[11].

لقد سَعى بيكاسو إلى توسيع اللّغة الفنيّة التشكيليّة والبصريّة الغربيّة عن طريق تَوظيفِ الفنّ الإفريقيّ مُجَسَّداً في الأقنعةِ والمنحُوتات الإفريقيّة. وهَذَا ما يعني، أنَّ بيكاسُو كانَ يميلُ إلى "استلهام البعد الطقسي والروحاني للتراث التصويري سواء الموروث عن نفس التراث أوعن نفس الهوية أو ذاك القادم من آفاق ثقافيّة غريبة ومغايرة مثلما هو عليه الحال بالنسبة للفن الإفريقي أو الفن المسمى استشراقي"[12]. وفي هذا السّياق يقولُ "فريد الزّاهي" في كتابه "فتنة الحواس": حين استلهم الفن الغربي الفن الإفريقي، بدءً من بيكاسو ومرورا بالسرياليين والوحشيين والكوبرا، كان مبدأ الغرابة والعودة لطفولة الفن، ومن ثم للطبقة الفوقية للاوعي الجمالي، هي ما يتحكم في هذا الاستلهام. فقد كان الفن الحديث قد استنفد تشخيصيته الدقيقة والفوتوغرافية ومفهومه التقديسي للمرجع والواقع، كي يجد في الفن الإفريقي ومنحوتاته وطواطمه من الإبداع ما يتجاوز بكثير مفهوم المنظور المتحكم في الفن الغربي منذ عصر النهضة"[13].

    استناداً إلى ما سبق، يمكن القولُ، إنَّ بيكاسُو قد فجّر رؤيّة فنيّة هي على درجة شَاهَقَةٍ من الفَرادةِ؛ فقد انْقَلَبَ هَذا "الغَازي الشّاقولي" على المركزيّة الجماليّة الغربيّة وعلى نَماذِجِهَا المُتهالِكَةِ منْ كثرة الاجترار؛ وذلك من خلال التفاتِه إلى الهامشِ الإِفريقيّ، الذي ظلّ، لردحٍ طويلٍ، ممَجُوجا ومستهجناً في عرف الفنّ الغربيّ. وبعبارةٍ أُخرى، فقد كان بيكاسُو يمتلكُ عيناً ثالثةً قَادرةَ على استغوارِ المجهولِ والسّاحر، ومن ثمَّ القبض على السّحر الكَثيفِ المُندلعِ في شقوقُ الحقيقة. وهي حَقيقةٌ لا تنتمي للغرب وحدهُ ولا تقتصر على الشّرق؛ إنّها حقيقةُ الإنسانِ في أبعادهِ الأنطولوجيّة الكونيّة.

    إنَّ هذه النّزعة البدائيّة التي سَرَتْ في وجدانِ بيكاسو واستوطنتْ كيانه، تدخلُ ضِمنَ "إطار استراتيجية قد تكون واعية أو غير واعية من أجل التخلص من هيمنة الأطر الثقافية الغربية من جهة، ومن أجل البحث عن لغة بصرية ولغة تشكيلية متمرِّدة على المنظور وعلى التمثّل من جهة أخرى دون أن ننسى إلى أي حد أسعف التوسل بتراث ثقافات بصرية مغايرة الفنّ الغربيّ في هدم الحدود الفاصلة بين الفنون المسماة صغرى art mineurs والفنون الراقية أو العليا art majeurs. اتخذ بيكاسو من المنزع البدائي مْعوَلا لهدم المواضعات البصرية في الثقافة الغربية ولزحزحة ما ألفته العينُ والنظرةُ الغربية"[14].

    وتحضر هذه النّزعة البدائيّة والرّوح الإفريقيّة في الكَثيرِ من لوحاتِ ومنحوتاتِ بيكاسو والتي عُرضت في محافل ومعارض دوليّة مشهورة، من أبرزهَا لوحةُ "صورة شخصيّة ل"جيرترود اشتاين" (Le portrais de Gertrude  Stein)التي رسمهَا على هيأة مَنحوتةٍ إيبرية. ثمّ لوحة أخرى بعنوان "امراتان عاريتان" (Deux femmes nues) واللّتانِ يشبهُ وجههمَا قناعيّن وتؤكُد الأبعادُ الضّخمة لجسميّهما فرضيّة استلهامِ بيكاسو للمنحوتات العائدة إلى شبه الجزيرة الإيبيريّة في العهد ما قبل الروماني. أما اللوحة التي جسّدت هذا التأثر بالفن الإفريقي البدائي فهي لوحةُ "فتيات أفينون" (Les demoiselles d'Avignon)[15].

  • لَوحَةُ" فتياتِ أفنيون" اِنْقَلابٌ وتَدْمِيرٌ لِسُلطَةِ المركزِ

كما سلف الذّكر، في بداية هذا البحثِ، فقد كانت لَوحةُ "فتيات أفينيون" البدايةَ الفعليّة للاتجاه التكعيبي في الرّسم حسبَ غالبيّة النّقاد، فَهَذِه اللوحة دَشَّنتْ إبدالاً جديداً في المُمارسة الفنيّة، وزجّت ببيكاسُو إلى عَالم الانقلابِ، بحيثُ احتفتْ هذه اللّوحة، على غيرِ العَادَةِ، بالأشكالِ لا بالأشخاصِ؛ إنّ الفتيات المرسُومَات في اللّوحات لَسْنَ سِوى أَشكالٍ "لا تحفل بالموضوع سوى كمطية لحل مشكلات جمالية وانتهاك قوانين ومواضعات المنظور prespective. نعم إن هذا العمل تجريبي إلى أقصى حد، ولكن لا يمنع من أن تستنتج منه أفكار مثل الصراع بين الفضيلة والرذيلة، بين الشهوة والألم..."[16]. وهَكذا يُمكن القولُ مع جُون بيرجر إن "فتيات أفينيون" كانت" هجوما أماميا كاسحا لا على "اللاأخلاقية" المنسية، بل على الحياة كما كان بيكاسو يراها –بكل ما فيها من عقم ووباء وبشاعة وقسوة. وكانت من حيث الموقف تنتسب بشكل مباشر إلى لوحاته السابقة، إلا أنها تفوقها عنفا. وقد عمل العنف على تبديل الأسلوب، لأن الرسام كان لايزال مخلصا لطبيعته بوصفه غازيا شاقوليا. إلا أنه، بدلا من انتقاد الحياة العصرية باللجوء إلى مقارنتها-سواء في حالة الحزن أو الغضب-بطرائق من الحياة أكثر بدائية، نراه الآن يستخدم إحساسه بما هو بدائي ليصدم العقل المتمدن وينتهك حرماته. وهو يفعل ذلك بطريقتين في آن معا، بمادة الموضوع، وبأسلوب الرسم"[17]. وهذه صيغةٌ أخرى للقول، إن "فتيات أفينيون" كانتْ إدانةً صريحةً للمركزيّة الوهميّة التي عَشّشت في طَوايَا الفنّ الأوروبيّ ردحاً من الزّمن؛ لقد "كان لهذه اللوحة أثر الصدمة الاستتقية، ومفعول الفضيحة في أوساط حركات الفن الحديث، واعتبرت محاولة غير محمودة العواقب، بحيث تراءت لكل من يعرفون بيكاسو أنها طريقة بشعة في الرسم. ابتداء من هذه اللوحة سيتمكن من الانطلاق من درجة الصفر في الرسم أو لنقل استطاع القيام بمسح الطاولة Table rasa لكل المفاهيم الكلاسيكية للجمال فقدّم عملا تشكيليا خالصا تسوده رؤية هندسية لا عهد للرسم بعا من قبل"[18].فضلاً عن ذلك، فإنَّ هذه اللوحة تكشفُ، أيضاً، القُدرةَ الخلّاقة التي يتميّز بها بيكاسُو في استثمار كلّ من الرّسم المصريّ القديم والنّحت الإيبيريّ في عوالمه الفنيّة "يكفي النّظر إلى الفتاة في أقصى يسار اللوحة التي تبدو وكأنها خرجت من أحد حيطان بعض المقابر الفرعونية. أما أثر النحت الإيبيري فبيّن في وجوه الفتيات اللواتي تحتل وسط المشهد. وأخيرا الفتاة في أقصى اليمين وهي ترتدي القناع الذي يدل على أثر الزنجي الإفريقي[19]"

  • عَلى سَبِيلِ الختْمِ

 إنَّ مخيالَ بيكاسُو وحدسه الإبداعي الغميس، كما يؤكّد عبد العالي معزوز، قد هيَّآ لهُ السّبيلَ دائماً لإيجادِ بديلٍ لأوروبا الحديثةِ: بديل يتجسّد في طريقةِ للحياةِ أكثر بدائيّة وبساطة. إنّ عبقريّتُه تدينُ بالولاءِ لما هو بدائيٌّ نسبياً. وهكذا، يمكن القولُ، إنّ الفن البصريَّ قد اتخذَ، مع بيكاسُو، مسالكَ لإعادةِ النّطر في الصورة الفنيّة الغربية، ومُساءلة مُواضعاتها وقواعدها البصريّة، من أجلِ إنشاءِ رؤيّة مُتَمَرّدَةٍ على تلك القواعد، لغة انقلابيّةٍ تمتحُ عناصرهَا من المِيثُولُوجيا والسّحر والأقنعةِ الإفريقيّة والنّحت الإيبيريّ. لقد سَاهم هذا "الغازي الشاقولي" في تَثْوِيرِ الرُؤية الفنيّة، وفي ابتكارِ لغةٍ تشكيليّة عِمَادُهَا وهَمُّهَا إحداثُ ثورةٍ في الأَشْكَالِ، اِنْبَجَسَتْ مَعَهَا مَعَالِمٌ وَمُقَومَاتٌ بَصريّةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ.

الهوامش

 

* جون بيرجر، بيكاسو: نجاحهُ وإخفاقهُ، ترجمة فايز الصُيّاغ، المنظّمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2001.

[1] جون بيرجر، نفس المرجع، ص 54 بتصرّف.

[2] فرانسواز جيلو –كارلتون ليك، حياتي مع بيكاسو، ترجمة مّي مظفر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2000، ص7.

[3] جون بيرجر، نفس المرجع، ص67.

[4] جون بيرجر/ نفس المرجع، ص 70و71.

[5] عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، الصورة بين الفن والتواصل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2014، ص 8.

[6] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص95، بتصرّف.

[7] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص95.

[8] جون بيرجر، بيكاسو نجاحه وإخفاقه، ص101.

[9] جون بيرجر، نفس المرجع، ص164و188، بتصرّف.

[10] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص94 و95.

[11] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص8.

[12] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص19.

[13] فريد الزّاهي، فتنة الحواس، كتابات في الفن العربي المعاصر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2016، ص85و86.

[14] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص20.

[15] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص20.

[16] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص21.

[17] جون بيرجر، نفس المرجع، ص119.

[18] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص21.

[19] عبد العالي معزوز، نفس المرجع، ص22.

تعليقات (2)

This comment was minimized by the moderator on the site

يراع رصين يغري بالتتبع

Khaoula Nour
This comment was minimized by the moderator on the site

مقال رصين ودقيق ومفيد

متابع
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟