كانط :محض الصورة والمحتوى - علي محمد اليوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تمهيد:

من المعروف ان كانط عمد في كتابه الذائع الصيت (نقد العقل المحض) إلى إثبات امكانية الادراك العقلي المنطقي المحض لاشكال موجودات العالم الخارجي الذي يحتوينا بمعزل عن محتوى تلك الاشياء المادية.

بالتعبير المباشر المختصر، امكانية العقل ادراك شكل الشيء كفراغ مكاني مجردا عن محتواه المادي حسب كانط. كما حاول اثبات ادراك الفراغ المكاني بدلالة الحدس المنطقي الميتافيزيقي وليس بدلالة الحس أن المادة محتوى الفراغ المكاني.

ونسب كانط لجهده الفلسفي بالكتاب انه انهى والى الابد كل نظريات الميتافيزيقا بالتفكير. فالى أي حد نجح كانط في تحقيق مسعاه في تحليله ونقده العقل مجردا ماديا كعقل محض من زاوية تناوله التفكير بالمنهج المنطقي؟ كتاب كانط (نقد العقل المحض) يقال انه استغرق الفيلسوف بتاليفه عشرين سنة !!. وانا هنا اناقش بعض القضايا بضوء كتاب المفكر صادق جلال العظم عنه (دراسات في الفلسفة الغربية المعاصرة ) في عرضه آراء كانط في كتابه المشار له. والشيء الملاحظ ان المفكر  الماركسي جلال العظم لم يقم بنقد الميتافيزيقا التي احتواها كتاب كانط بل اكتفى بعرضها مع تعليقات نقدية توضيحية في بعض الاحيان. يلازمه حرصه الشديد عرض افكار كانط كما هي لا كما يرها في منهجه النقدي المادي.

شكل المادة والمحتوى

ورد على لسان المفكر صادق العظم ان كانط وجد "  اسبقية المكان على الحس هي اسبقية منطقية لا زمنية ونقول انها صورة قبلية بهذا المعنى المنطقي" 1 .
من المهم التاكيد ان العبارة الفائتة هي صدى لما جاء به كانط ولا يمثل بالضرورة الاقتباسية قناعة المفكر صادق العظم بها. بدورنا نحاول توضيح العبارة من منطلق غير ميتافيزيقي ولا علمي فيزيائي تجريبي بل من منطلق فلسفي مادي تجريدي .

اولا: اسبقية المكان على الحس ليست صيغة منطقية حدسية ادراكية بمستطاعها تجريد المكان في محدوديته كشكل من الفراغ الاحتوائي للمادة. كما لا يقر كانط أن الفراغ المكاني يشترط ادراكه بدلالة احتوائه المادة. وهو ثغرة كبيرة في فلسفة كانط بمعيارية الادراك الطبيعي للعقل.

ثانيا: اسبقية المكان لازمانية تكرار لنفس الخطا الوارد في الفقرة الاولى. فمثلما الادراك المكاني لا يدرك في شكله التجريدي فراغا منزوعا عن المادة فهو ايضا لا يدرك بغير ملازمة الزمان لذلك المكان المعني المحدود.

لا توجد هناك اسبقية مادية ولا اسبقية منطقية حدسية في عزل تواشج الادراك زمكانيا ولا اسبقية لاحدهما – الزمان والمكان - على الاخر. رغم وجود محاولات لافلاطون في تغليبه المكان وهو يقصد الطبيعة على الزمان في الاسبقية الانطولوجية للوجود. وان الطبيعة وجود ضروري ملزم في تنظيمه عشوائية الزمان وليس العكس الزمان هو الذي ينظم الطبيعة.

كما ومن المحال ان تقودنا تصوراتنا المنطقية الحدسية الى اننا نستطيع ادراك شكل المادة كفراغ منزوع عن محتواه المادي كما فعل كانط. فالمادة متعين انطولوجي بابعاد ثلاثية يدرك بدلالة إشغاله فراغا في مكان. والفراغ حيّز وعائي  إحتوائي لا يدرك بغير دلالة الاشياء التي يحتويها. الفراغ حيّز مكاني يحتوي المادة صورة ومحتوى.ولا ندرك الفراغ مجردا من دلالة غيره المادي عليه الذي هو محتواه.

ثالثا: وكما لا نستطيع ادراك المكان كوعاء فارغ او شكل بدون محتوى مادي يشغله , كذا نفس الحال لا يمكننا ادراك المكان كفراغ احتوائي للمادة بدون ملازمة زمنية له. وحين نقول منطقيا اسبقية المكان الموجودية لا زمنية فهي خطا بسبب ان الحس الادراكي للعقل لا يشتغل بإنفصال وحدة ثنائية المكان عن الزمان.

الزمان ملازمة ماهوية غير مدركة الا بدلالة المكان المحدود بابعاده الثلاثية. لذا علينا التفريق ان الزمان هو وعاء احتوائي في تعيينه المكان, وليس المكان وعاءا احتوائيا لمحاولة تحديد واستيعاب الزمن. علاقة المكان بالزمن علاقة تخارج ادراكية معرفية مع المحافظة التامة بين انفصال الماهيتين, ماهية المكان وماهية الزمان منعزلتين احداهما عن الاخرى.

هنا يمكننا ان نقول المكان زمان ثابت بدلالة زمانيته والزمان ماهية نسبية متغيرة غير ثابتة تلاحق وتلازم متغيرات المكان باستقلالية ماهوية عنه. ماهية الزمان بخلاف ماهية المكان هي وسيلة ادراك واستدلال معرفي. لكن ماهية الزمن ليست موضوعا يدركه العقل مجردا من محتواه المادي الذي هو المكان الممتليء.

الزمان وسيلة ادراك العقل للاشياء لكنه ليس موضوعا لتفكير العقل لمعرفة ماهيته. وبهذا الصدد نجد سعي العقل المعرفي الفلسفية في محاولة معرفته الزمن قديمة جدا وتناولها كلا من افلاطون وارسطو ومن قبلهم فلاسفة سابقين لسقراط. وهي غير ما يتناوله علم الكوزمولوجيا الفيزيائية خاصة في نسبية انشتاين حين اعتبر الزمان يتضائل في اطراد عكسي مع سرعة الجسم بسرعة الضوء 300 الف كيلومتر /ثانية وفي مقدار المسافة والطاقة والكتلة والجاذبية., وان الزمان يتمدد ويتقلص بحسب تلك العوامل,وهو اخطر ما توصل له انشتاين من حيث خاصية التمدد والانكماش للزمن هي خاصية مادية يمكن ادراكها كما هي تمثل خاصية المادة. اود هنا التنبيه في وجوب التفريق بين الزمان الارضي الذي هو تحقيب تاريخي بدلالة زمانية, وبين الزمان الكوني الذي لا يمكننا تحقيبه ادراكيا.( عالجت هذه المسالة في اكثر من مقال منشور لي كما سيصدر لي قريبا كتابا بعنوان الزمان والفلسفة قريبا).

رابعا: الصورة القبلية عن الشيء في المنطق التجريدي لا يلغي حقيقة عدم حصول تطابق التصورات العقلية القبلية عن الشيء مع حقيقة وجوده المادي. وهذه المفارقة المتفاوتة ما بين حقيقة تصوراتنا القاصرة عن الالمام الحقيقي بواقعية محاولتنا تطبيق التوافق بين الموجود الشيئي وبين التصور القبلي عنه. ونتيجة هذا التفاوت الادراكي للموجود مع التصورات القبلية العاجزة الالمام به إحتوائيا يترتب عليه قصور وعدم امكانية ادراك الشيء على حقيقته لا في الحس ولا في تعبير اللغة عنه.

وبدوره يأخذ المفكرصادق جلال العظم الى " ان كانط ازاح عنصر الحس من الحدس الحسي وبهذا يكون فرض دونما مبرر ان ما سيبقى لديه هما  المكان والزمان, او الصورة المحضة للحدس الخارجي" 2 . أي اراد المفكر العظم القول ان كانط ترك لنا ثنائية المكان والزمان كشكل مدرك خال من أي محتوى مادي يحتويه المكان وهذا ينفي قدرة العقل الادراكية السليمة في تفكيك وحدة الشكل المادي عن محتواه المادي. وادراكهما منعزلين غير مترابطي الدلالة أحدهما بدلالة الاخر. فالشكل بلا محتوى مادي او غيره لا معنى له, كذلك من المحال ادراكنا لمادة بلا شكل يحتويها وتصبح متعينا.

إن الحدس المنطقي الذي يعتمده كانط منهجيا يمكنه به تجريد (المادة) من حقيقتها الموضوعية في الواقع, وكذا يمكنه ان يفعل مع تفكيك متلازمة ثنائية (المكان – الزمان) المشروطة بمحكومية الادراك من عدمه.

كما لا يمكننا في حال تفكيك المادة عن احتواء( الزمان والمكان) لها ليصبحا قالبي احتواء لفراغ افتراضي غير مملوء بالمادة لاكاملا ولا جزئيا ما يتوفر للزمان والمكان ان يكونا إطارا لفراغ له معنى ادراكيا مجردا من المادة ..

الخبرة الحسّية القبلية لادراك الاشياء كشكل ومحتوى, كمكان وزمان, من خلال ادراكنا لعلاقاتها البينية فيما بينها لا يمكنها ان تكون خبرة صحيحة في تغييب الوحدة الكلية الثلاثية لموضوع الادراك التي تجمع " المادة, المكان, الزمان " وفق توليفة المنهج المنطقي التجريدي, لكنما يبقى العجز الادراكي الحسي القبلي او البعدي لا فرق قاصرا في امكانية تجريد ثنائية وحدة المكان – الزمان من محتواهما المادي. وهو مصداق مقولة كانط الزمان والمكان قالبي ادراك العقل للاشياء لكنهما ليسا موضوعين لادراك العقل منفصلين.

الزمان لا يمنح العقل إدراكا حقيقيا لفراغ مكاني خال من المادة. وثنائية المكان – الزمان حدس منطقي ناقص لا يشتغل ادراكيا على صعيد الواقع الموضوعي في حال تجريدهما من محتواهما المادي. وشكل اي شيء يمكن ادراكه تصورا تجريديا يفقد خاصيته الادراكية الحية الحقيقية كموضوع لتفكير العقل في تغييب محتواه المادي. العقل لا يدرك الفراغ المكاني بغير دلالة مادية لعل ابسطها ابعاد الفراغ الثلاثية في محاولتنا تحديده متعينا انطولوجيا..

الحدس المحض وحقيقة الزمان والمكان

في هامش كتاب المفكرصادق العظم صفحة 54 ورد التعقيب المنسوب توضيحا لكانط " ان الحدس المنطقي المحض او القبلي يمثلان صورة الحدس الخارجي  بحسب كانط ما يطلق عليه تشكل نظام العلاقات بين الظواهر. وحين نجرد هذه العلاقات من المحسوسات, فانها بعد ذلك تكون هي محتوى الحدس المحض. لذلك نعتبر المكان صورة الظواهر ومحتوى الحدس المحض في آن واحد. وبعد تجريد العلاقات من جميع المحسوسات يبقى لدينا الشروط الضرورية العامة لوجود الخبرة الحسية وهي تشكل صورة الحدس الحسي ومحتوى الحدس المحض ايضا".

تعقيبنا على هذا الاقتباس نوجزه بالتالي:

  • لم يوضح لنا المفكر جلال العظم كيف يكون الجمع بين الحدس المحض الميتافيزيقي على انه المرادف المتناوب المطابق للحدس القبلي في مخزون متراكم الخبرة بالذاكرة.

اولا نجد الحدس المحض انما هو افتراض تصوري يقيني قاطع ميتافيزيقيا للشخص مدرك المواضيع الحدسية. بينما الحدس القبلي هو تراكم خبرة مكتسبة عن المدركات من الاشياء وهي ليست معرفة قطعية بل معرفة نسبية متغيرة. لذا فان الحدس المحض يقوم على منطق تجريدي لا يشترط ان يكون مرادفا تطابقيا لمنطق الخبرة القبلية التجريبية في الادراك المادي الحسي للاشياء. ان تعرف عن الشيء بوسيلة متراكم الخبرة القبلية المخزّنة بالذاكرة لا يشابه الادراك المادي الحقيقي الحسي له انطولوجيا.

  • حسب الاقتباس بدلا من احتواء المكان للمادة, تكون العلاقات الخارجية بين الاشياء هي (المادة) موضوعة الحدس المنطقي المحض. ليس من الاهمية القول ان المادة محدود متعين بابعاد مكانية, ولا يمكن ان تكون وسيلتنا في ادراك المادة هي العلاقات الخارجية التي تربط الاشياء ببعضها والتي هي علاقات متغيرة من السيرورة الدائمية غير الثابتة بالقياس للمادة.
  • اذا كانت العلاقات الخارجية بين الاشياء هي موضوع الحدس المحض المادي عند كانط, وحين نجرد هذه المحسوسات فهي تصبح بعدها (محتوى) الحدس المحض وتعتبر المكان (صورة) شكل ظواهر الاشياء ومحتوى حدسها المحض. فنحن بهذه التوصيفات ندور بحلقة مفرغة حول تحديد علاقة ادراكنا (للمكان والفراغ) حدسيا باستبعاد موضوعة المادة كمحتوى للمكان.

ما هو الادراك؟

كان بيركلي اثار اشكالية حول الإدراك؟ بيركلي على العكس من ديكارت وجون لوك اللذين يعتبرهما خاطئين  في إعتبارهما الفكرة ألمجردة عن الموضوع في حقيقته ألواقعية مختلفين, وأثارا إشكالا مهمّا, هو كيف يمكن للأفكار أن تتطابق بصورة صحيحة مع وجود موضوعات العالم الخارجي التي هي ليست أفكارا مجردة فقط بل هي مدركات مادية مستقلة؟ وقد إتخذ بيركلي منهما موقفا مضادا سمّي بالواحدية الأبستمولوجية وليس الثنائية الأبستمولوجية التي قالا بها كلا من ديكارت ولوك, التي مفادها أننا لا ندرك الموضوع ألواقعي الشيئي بالفعل بل ندرك صورة ذلك الشيء في صفاته الخارجية فقط.( لتفصيل اكثر تراجع مقالتنا الادراك العقلي: الاصل والصورة  منشورة على اكثر من موقع عربي).

كما وجد ديكارت وجون لوك أن بيركلي كان مخطئا في إعتباره الموضوع فكرة ذهنية في حين أن الموضوع الواقعي المدرك هو فكرة مادية ليست ذهنية بمعنى الذهن يخلق وجودها الواقعي بالفكركما يذهب بيركلي, يعني أن الموضوع مادة التفكير العقلي ليس ذهنيا على الأطلاق كون الذهن هو وظيفة مجردة محايدة يدخل فيها الموضوع الواقعي ويخرج منها كما هو دون أن يتغّير ألمدرك الذي يمّر فيه على الإطلاق. العديد من المفكرين يعتبرون تفكير الذهن الانطباعي هو تفكير العقل معرفيا ادراكيا وهو خطأ. الذهن لا ينوب عن تفكير العقل وتعبير بيركلي عين الصواب الذي اخذ به ديفيد هيوم ايضا.

اسبقية المكان ام اسبقية الزمان

في مقارنة بسيطة مع ما مر ذكره حول ديكارت وبيركلي وجون لوك ندرك ان الادراك المحض للعقل عند كانط ينسف كل النظريات الفلسفية في فهم آلية الادراك الحسية الطبيعية وما هو موضوع الادراك للعقل الطبيعي وليس للعقل المحض؟.

لنتتبع بعض السمات الادراكية لدى كانط :

  • يطلق كانط ان المكان شرط لازم لوجود الظواهر التي يمكن حدسها ادراكيا باحساسات تجريدية منطقية تنوب عن ادراك الشيء في حقيقته. على اعتبار ان العلاقات الخارجية الدالة عل الشيء ليست هي الشيء في حقيقته. بمعنى كانط يبني تجريد الادراك للعلاقات على تجريد سابق عليه في لا اهمية ادراك الشيء كمحتوى مادي.

الاشكالية هنا ليست في استحالة ادراك العلاقات الخارجية للشيء في معزل عن ادراك الشيء ذاته, وانما الاهم من ذلك هو هل بمستطاع الادراك الحسي السليم العزل بين الشيء المادي من جهة وبين صفاته الخارجية من جهة اخرى التي هي العلاقات الخارجية بحسب كانط؟

  • يؤكد المفكرصادق جلال العظم ( اسبقية المكان اي صورة الشيء بتعبيركانط لها الاسبقية على الحس, وهذه الاسبقية ليست " زمنية " ) 3

الشطر الاول من العبارة في اسبقية المكان على الحس عبارة سليمة من حيث تراتيبية عملية الادراك الحقيقية الحسية وليس وفق النظرية المنطقية الميتافيزيقية كما يعتمدها كانط. اما ان لا تكون هذه الاسبقية زمنية فهنا نقف امام خطأ نوضحه.

الزمان ماهية وجودية تلازم وتداخل جميع مدركات العقل من الاشياء, والزمان وسيلة ادراك كل موجود مكاني بالوجود والعالم, والزمان كوني واحد الماهية او الجوهر غير المدرك للعقل, فالزمان وسيلة العقل بالادراك لكنه ليس موضوعا لادراك العقل كماهية يمكن ادراكها مستقلة عن الاجسام والاشياء.

يوجد رأي فلسفي ينسب لافلاطون متعالق بهذا المعنى يذهب ان المكان هو من يضطلع بمهمة ترتيب مكوناته بدلالة الزمن وليس بوسيلة الزمن تنتظم الطبيعة فهي مخلوقة ازليا قبل الزمن تحكمها قوانين ثابتة عامة, والزمن ياخذ نظامه التعالقي مع الاشياء أي أن المكان ينظم الزمن ولا ينظم الزمن المكان.

 هذه النظرة الفلسفية تلاقي قبولها بضوء:

  • اولا الزمن ماهية ازلية مطلقة تمتلك خصائص لا يدركها العقل البشري كاملة. والزمن صنو الطبيعة في وجودها وفي ادراكها المعرفي.
  • ثانيا الزمان جوهر لا تستحدثه المادة ولا يوجده المكان بل هو ملازم الطبيعة ثابتا في احتوائه لها بجميع تغيراتها وفي مداخلته لكل شيء فيها.
  • ثالثا ان يكون المكان (لازمني) في اسبقيته الموجودية فهذا الخطأ لا يمنح المكان اسبقية غير مشروطة بزمن ما من شانه التعارض المتقاطع مع آلية الادراك الحقيقي السليم للعقل الطبيعي. من حيث الادراك ثنائية مكانية زمانية لا انفصال بينهما. فانت لكي تدرك مكانا تحتاج زمنا يلازمه , ولكي تدرك زمانا لا بد من قياس مقدار حركة جسم ترافقه وتداخله ايضا. سبق لي وقلت ماهية الزمان جوهر استقلالي لا يدركه العقل موضوعا ولا يتداخل بغيره ماهويا ولا حتى بصفات خارجية. فقد عرّف ارسطو الزمان على انه مقدار حركة جسم في زمن. والزمن ليس حركة بذاته يمكن ادراكها مستقلة من غير الدلالة المتعالقة بغيرها من الاجسام. واضاف ارسطو بعبارة عبقرية اخرى لا تزال سارية المفعول ان الزمن لا يتجزا ولا يمكننا حد الزمان بزمان.
  • رابعا لا يمكن تمرير خطأ (اسبقية المكان لازمانية) في تمرير(الصورة لشيء هي قبلية بالمعنى المنطقي) نستوحي من هذه المفارقات في تقاطع كل ما يعجز المنطق تسويقه نرميه على الحدس.

ما معنى الصورة القبلية؟ هي كل شيء مستقر بالذهن والذاكرة نتيجة تجربة معرفية وخبرة تراكمية عن ذلك الشيء التي تحتويه الصورة ولا تنوب عنه في تمثلها له. الصورة القبلية هي اكتساب معرفي سابق على الحضور المتعيّن  إدراكه وجودا من الاشياء.

انت لكي تدرك شيئا ادراكا حقيقيا قصديا معرفيا يتوجب عليك امتلاك (اوليات) معرفية مختزنة بالذاكرة عن ذلك الشيء. فانت لو وضع امامك شيء مصنوع تقنيا لم تره بحياتك ولم تسمع عنه شيئا ولا قرات عنه فانك ستصاب حتما بالعجز في معرفة ما هو ذلك الشيء وما هي خصائصه الاستعمالية وغيرذلك. اما لو سئلت عن صورة شجرة مثلا فسوف تكون اجابتك التعريف به بديهية لما تختزنه من معارف مخزنة بذاكرتك عن الاشجاربما لا يمكن حصره.

الاصل والصورة

يشير كانط لبديهة الى ان كل الادراكات المكانية هي صورة ذاتية ينفصل فيها المحتوى عن الشكل او الاطار الاحتوائي الذي يطلق عليه كانط العلاقات الخارجية التي يدركها الحس المنطقي كمحتوى. لكن المسالة الجديرة بالاهتمام وردت على لسان المفكر جلال العظم هو كيف اجاز كانط لنفسه مثل هذا الفصل ؟ يضيف العظم"اعتبر كانط المكان قبليا بالنسبة للحس وذلك بعد ان فصل فصلا جذريا بين الصورة والمحتوى وبعد تعريفه "المحتوى" على انه الحس" 4

صحيح ان كل ادراك هو تجريد ذهني لصورة شيء, عليه يكون محتوى الشيء هو الحس تعبير مقبول الى حد ما. والفصل بين المحتوى وصورته الشكلية رغم الاعتسافية التي لا معنى لها, يسوّغها المفكر جلال العظم بتحفظ لكنه مقبول تعليلا. فهو يرى بهذا الفصل يرتهن تمريره بمشروطية احتمالين يدرجهما :

1.ان تكون هذه العلاقة ضرورية بحيث تنطبق صورة المكان بطبيعتها لازمة لهذا المحتوى, وان يكون المحتوى بطبيعته لا يتلائم ولا يتناسب الا مع هذه الصورة عندها تكون علاقتهما المتبادلة ضرورية.5

2. ان تكون العلاقة بين الصورة والمحتوى عرضية بحيث يكون التطابق والتلاؤم بينهما عائدا (للصدفة ) لا لضرورة منطقية او فلسفية . 6

كل متعين مكاني تحتويه مادة يتكون من محتوى وشكل متناسبين بالضروة الوجودية الطبيعية الملزمة. ومن البديهي ان لايكون شكل محتوى مادي او مكاني معين لا يصلح لمحتوى اخر مغاير لطبيعته المتلائمة الانسجامية بين محتوى وشكل في موجود لم يولد مدركا طبيعيا في وحدة تجانسية الشكل والمحتوى فيه. ونجد بالافتراض تعسفا لا معنى له. فألاشياء التي يدركها العقل هي فقط الاشياء التي تتناغم فيها صورتها او شكلها الخارجي مع محتواها المادي. ولا يمكننا العثور على شكل صادف محتوى مادي شيئي لا على التعيين وتلبّسه بالصدفة.

وما معنى ان تكون العلاقة بين الصورة والمحتوى لا تسوّغها ضرورة منطقية ولا فلسفية بل يتوجب ان تكون محض صدفة؟ هل يتوجب علينا اخضاع كل التناغم الطبيعي في الانسجام بين الصورة والمحتوى في الظواهر والامكنة والاشياء في وجودها لعامل الصدفة لمجرد تسويغ حالة من الاعتساف الفلسفي الذي يجعل من ادراك الصورة مغنيا لنا عن ادراك محتواها.؟

لقد سبق لديكارت وجون لوك فيما عرف بمبدأ تسميته بالثنائية الابستمولوجية بالفلسفة باكثر خلاصة منطقية بعيدا عن منهج المنطق المحض عند كانط مفاده أن ادراك صورة الشيء هو ادراك ضمني لمحتوى الشيء في وجوده كاملا. وليس من الادراك الحقيقي المقبول فصل محتوى صورة الشيء عن صفاتها المدركة الخارجية. وكان اعتراض بيركلي عليهما ليس بالدعوة لانفصال الصورة عن الاصل المحتوى, بل قال ان الادراك الكلي للشيء لا يمنع البحث عما وراء هذا الادراك الاولي المبدئي القاصر فإدراك الشيء لا يعني معرفته على حقيقته وربما كان يقصد الجوهر المحتجب خلف الصفات الخارجية... كانط كان السبّاق في هذا المعنى الادراكي معتبرا الوجود بذاته هو الجوهر الذي لا يمكننا ادراكه. واخذها عنه اقطاب الوجودية يتقدمهم هوسرل في الظاهراتية (الفينامينالوجيا).

علي محمد اليوسف /الموصل

الهوامش:

  • صادق جلال العظم /دراسات في الفلسفة الغربية المعاصرة /ص 53
  • نفسه ص 54
  • نفسه ص 55
  • نفسه ص 55
  • نفسه ص 56
  • نفسه ص 56

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟