يذهب ميرلوبونتي الى ان العالم الخارجي ليس حقيقة. وكذلك (الذات) ليست حقيقة. اعتقد انه من المتفق عليه انه بدلالة العالم الخارجي ندرك ذواتنا في مغايرة ادراكاتنا الموجودات. وليس بهذه الخاصية الادراكية المتفردة نستطيع معرفة حقيقة العالم الخارجي ايضا. الذات جوهرفردي لا وجود له سوى بالمغايرة الادراكية العقلية للاشياء والتفكير بما حولنا.
العالم الخارجي مفهوم وليس كينونة وجودية متعيّنة ماديا محدودة بابعاد الموضوع سواء اكان الموضوع ماديا أو غير مادي يدركه العقل ويمكنه بها معالجة العالم الخارجي كموضوع. متى يكون موضوع تفكير العقل غير مادي؟ كل مواضيع تفكير العقل المستمدة من الخيال هي غير مادية. هي تصورات ذهنية يبتدعها العقل ويعبّر عنها لغويا او يتم التعبير عنها بأنشطة ادبية وفنية.
مالمقصود بالعالم الخارجي انه ليس حقيقة؟ هل هو الطبيعة بكل شموليتها البايولوجية المتنوعة الكائنات والمكونات بما لا يمكننا حصره ومعرفته لا تمتلك حقيقتها؟ أم العالم الخارجي الذي هو الموجودات والعلاقات البينية التي يتوزعها المحيط من حولنا ولا تمتلك حقيقتها؟ نكران حقيقة العالم الخارجي يوجب علينا الايمان بحقيقة ميتافيزيقيا خرافة التسليم بفرضية فلسفية عتيقة في امكانية وجود عالم خارجي حقيقي غير عالمنا هذا لا ندركه هو غير عالمنا الخارجي الزائف الذي يدركه العقل ونتعامل معه ونعيشه. العالم الخارجي كمفهوم اصطلاحي يكون تعاملنا معه بما يحتويه من موجودات لا حصر لها هي مواضيع جاهزة لمعالجتها الادراكية عقليا.
حقيقة العالم الخارجي هو في ماديته الواقعية الموجودة في استقلالية تامة عنا. وحقيقة العالم الخارجي التي ندركها هو ليس في معرفته الكينونية الكاملة كصفات وجوهر.. العالم الخارجي هو في وجوده المادي كينونة مستقلة قائمة بذاتها. عالمنا الخارجي هو الوجود الذي نتعامل مع محتوياته من مواضيع. العالم الخارجي ليس كينونة واحدة يعيها الوعي بشمولية الموضوع الواحد التعجيزي للعقل..
اما الظاهراتية الفينومينولوجيا التي تقوم على ابستمولوجيا الادراك فهي قاصرة أن تمنح العالم الخارجي حقيقته لأنه أي العالم الخارجي كمفهوم شمولي تحتويه وتتوزعه موضوعات وظواهر متقافزة بالصيرورة والتغيير المستمرين. كما هو ليس منهجا بذاته. ولا يعي العالم الخارجي ذاته ولا يتعامل مع المدركات الاخرى بعلاقة تواصلية يدركها هو. العالم الخارجي هو مفهوم وليس موضوعا لادراك العقل ولا يمثّل منهجا. اما الظاهراتية فهي منهج مجتزأ من مناهج عديدة حاولت وتحاول تفسير العالم والوجود والكوني..
الفينومينولوجيا او الظاهراتية؟
الظاهراتية التي جاء بها ادموند هوسرل هي مدرسة فلسفية تعتمد دراسة الموضوعية او الواقع وتختبره بشكل ذاتي. والظاهراتية هي ايضا حسب انصارها الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية. " عن ويكيبيديا الموسوعة". وتأثر بهوسرل مؤسس هذه المدرسة كلا من هيدجر وسارتر وميرلوبونتي وريكور. وكان موضوعها الاثير الاشتغال على الوعي القصدي وابستمولوجيا الماهيات.
لتبيان منذ البدء المثالية الابتذالية التي اعتمدتها الظاهراتية انها تختلف مع الوضعية بقولها" الوضعية تسّلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي". (ويكيبيديا الموسوعة). صحيح جدا ما قالته الوضعية فالمقصود بالحقائق الموضوعية المستقلة عن الوعي هي ماهيات الاشياء وجواهرها. اما الوجود فهو ايضا حقائق موضوعية لكنها ليست مستقلة عن إدراك العقل لها.
شعار الظاهراتية الهوسلرية هو الاتجاه الى الاشياء ذاتها من خلال الوعي البشري الخالص لمعرفة ماهياتها. وبما أن الظاهراتية هدفها الوصول الى الماهيات في المدركات الشيئية فقد انتهج هوسرل (الايبوخية) اي التوقف عن الحكم ووضع عالم المكاني الزماني بين قوسين وعدم الاعتقاد بطبيعة هذا العالم والتوقف عن اتخاذ إي موقف إثبات أو نفي أزاء وجود الموضوعات."المصدر السابق".
الوضعية التي تسلم حسب تعبير ميرلوبونتي بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي تحمل صدقيتها اكثر من حمولة خطأها المزعومة التي نسبها ميرلوبونتي لها. وانتقاص ميرلوبونتي للوضعية ليس انتقاصا فلسفيا يبحث عن حقيقة العالم الخارجي الذي لا يدركه الوعي والموجود باستقلالية تامة عنا. من الخطأ التسليم مع بيركلي أن كل ما يدركه العقل يحمل خاصية قابلية ادراكه. الحواس والعقل فقط هي التي تخلع على الاشياء والمواضيع خاصية إدراكها.
والحقائق الموضوعية المستقلة التي لا يستطيع الوعي الفردي الوصول لها ومعالجتها إنما هي (الماهيات) وجواهر المدركات العقلية. ولكي تتوخى الوضعية الانزلاق نحو معالجة الماهيات في الاشياء والجواهر في المدركات بمنهج الميتافيزيقا. أنكر كانط واخرين ان تكون تلك الحقائق مواضيع متاحة للوعي الفردي الادراكي لها.
العديد من الفلاسفة أنكروا الماهيات او الجوهر بالاشياء ورأوا بذلك المنحى إنزلاق لا إرادي في معالجة مواضيع ليست متعينة بأبعاد الادراك العقلي كمثل الصفات الخارجية للاشياء. هيدجر في فلسفته كان ميتافيزيقيا استبطانيا ومراوغا في تغليبه لغة الاستعصاء الفارغة على المحتوى الفلسفي المطلوب. ان تقول الميتافيزيقا لا تحمل موضوعات فلسفية جادة لا يمكن تجاوزها وعدم البحث بها مكابرة فارغة كون الوجود والطبيعة والانسان تتلبسهم جميعا الميتافيزيقا.. لكن عيب النهج الميتافيزيقي لا يعطيك نتائج وهو حال الفلسفة في كل تاريخها.
نستطيع القول إن فلسفة مدرسة الفينامينالوجيا كانت متأرجحة بين ظاهرتين فقط هما الوعي القصدي وهذا بفضل برينتانو وليس بفضل تلميذه هوسرل مخترع الفينامينالوجيا. الوعي القصدي الذي يعالج مواضيعا ادراكية متعينة بابعاد الاحاطة بها ومتعينة بالهدف المسبق في اهمية الوعي بها لم يأت هوسرل بها بل جاء بمصطلح الوعي القصدي سارتر وفلاسفة الوجودية في الرد على ديكارت.
الظاهراتية أخذت عن اسبينوزا وكانط أن جميع مدركات العقل هي عرض أي صفات خارجية وجوهر أو ماهية تستتر خلف تلك الصفات. وكل من اسبينوزا وكانط قالا كلا بطريقته الفلسفية الخاصة وجوب عدم تضييع الجهد والوقت في البحث عن الماهيات او الجوهر بالاشياء مخافة الانزلاق في مباحث الميتافيزيقا. اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود كان مرتكزه الفلسفي البحث في الجوهر معتبرا الجوهر يسبق الوجود وبدلالة الجوهر ندرك الوجود وهذا كان الكفر بعينه بالنسبة للماركسية والوجودية فكلاهما يرتكزان الى ان الوجود المادي يسبق الجوهر الافتراضي. بالحقيقة اسبينوزا رغم حذاقته الفلسفية إلا أنه حينما تناول مبحث الجوهر في مذهب وحدة الوجود كان كلامه من الالف الى الياء ميتافيزيقا.
كانط أقر بوجود الجوهر بالاشياء إحتماليا افتراضيا لكنه إبتعد في مؤلفاته الخوض في مستنقع البحث في الجواهر والماهيات. كنت أكثر من مرة ذكرت بمقالاتي عن مفارقة لطيفة ارغب تكرار ذكرها هنا. سارتر قال رغم شكوكي حول الجواهر في الاشياء الا أنى أؤمن بجوهر الانسان الذي يصنعه طيلة حياته من دون باقي الكائنات الحية. لكن المفارقة المدهشة حقا التي أطلقها سارتر قوله (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر).
تؤكد الظاهراتية على اهمية ما أطلقت عليه (خبرة الوعي) الذي يمثل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. اولا لا أؤمن بوجود خبرة يمتلكها الوعي الذي هو نتاج العقل غير المستقل عنه. ثانيا العبارة السابقة المنسوبة للظاهراتية تصبح منطقية فلسفيا صحيحة فيما اذا استبدلنا كلمة الوعي بكلمة العقل فهو يمتلك خبرة مكتسبة في وعيه المعرفي للاشياء. كما يمتلك خبرة ذاتية في مراجعة نفسه وادراكاته بمعزل عن اي مؤثر خارجي عليه.
الوعي ليس منهجا بالتفكير بل الوعي هو معطى العقل في التعبير عن مدركاته معرفيا. واقول معرفيا لان العقل لا يعي ما ليس له قيمة بحياة الانسان. ثم والأهم الوعي لا يسعى الى كشف ماهيات الاشياء بل هذا الكشف من خواص العقل المحدودة التي لا توصل الى نتائج مرضية.
بهذا علينا التسليم بمنطق الفلسفة ومنطق العلم معا أن الوعي والعقل متلازمان من غير استقلالية أحدهما عن الاخر. والوعي لا يستطيع الإنابة المستقلة عن تفكير العقل بل الوعي هو وسيلة العقل بالتعبير عن الاشياء ومدركات العقل.
هذا ما يرتب ان عجز الوعي عن فهم ماهيات الاشياء التي يدركها العقل انما هي مستمدة من عجز العقل ومحدوديته فهم الجواهر او الماهيات في الاشياء. وهذا ما حذّر منه كانط بوضوع شديد في كتابه (نقد العقل الخالص) وأشرنا له سابقا.
وللخلاص من هذه المعضلة التعجيزية للعقل قالت الماركسية والوجودية لا جدوى من ملاحقة جواهر الاشياء وماهياتها التي تقودنا الى ميتافيزيقا التفكير. وحول مصطلح (خبرة الوعي) الذي اطلقته الفينامينالوجيا، فالوعي كما اشرت له لا يمتلك خبرة منعزلة عن الوقوف ومعرفة بماذا يستطيع العقل التفكير به منطقيا وما يعجز التفكير به ادراكيا. الوعي ليس ذاكرة تخزين الخبرات العقلية المكتسبة. الوعي ليس مقبرة العقل في التخزين المعرفي بالذهن ولا بالذاكرة.