توطئة
تناولت في مقالة سابقة متعالقة مع عنونة هذه الورقة مفهوم الوعي الفلسفي عند ديكارت مرورا بهوسرل وهيدجر وسارتر وكذلك ميرلوبونتي، وناقشت بتفصيل غيرمسهب مفهوم الوعي بذاته في الموجودات غير العاقلة وأختلافه الجوهري عن الوعي الخالص الهدف المنشود والفردوس المفقود عند الانسان كما طرحه سارتر، وعلاقة الوعي التبادلي التواصلي الحواري بين الناس كنوع، كما تناولت تعالق الوعي بكل من اللغة والصمت، ونستكمل في هذه المقالة جوانب أخرى تهم محتوى هذه الورقة البحثية التي يعتبر وعي الذات من المباحث الفلسفية التي شغلت الفكر الفلسفي عصورا طويلة ولا زال مبحث الوعي بحاجة الى معالجات من زوايا رصد جديدة لعلنا نكون موفقين في مقاربة تفسيرية توضيحية لبعض تلك الرؤى..وعي الذات بين هوسرل و سارتر
نرى عقد مقارنة بين عبارة ميرلوبونتي التي ناقشناها من وجهة نظرنا في جزء سابق من هذه الورقة (أنه لا فكر خارج العالم أو الكلمات) وعبارة سارتر ذات العلاقة (أن الوعي الخالص هو فينامينولوجيا جامعة تذهب الى ما يقصد اليه الوعي من أشياء ).(1) ولنا هنا وقفة حوارية أوسع في هذا المجال.
ميرلوبونتي في عبارته لم يكن موفقا في أشتراطه سببيا الجمع بين الفكر في العالم الخارجي ومثله في الكلمات كتعبير صامت في الذهن أو أفصاح معبّر عنه باللغة في أدراك ومعرفة الاشياء في وجودها المادي الخارجي...
الفكر في الذهن هو (انطباعات) زائلة مستمدة من الحس كما يذهب له ديفيد هيوم وجورج بيركلي. وهذه الانطباعات الذهنية هي غيرها الفكر المعبّر عنه في أدراك العالم الخارجي. خارج بيولوجيا العقل بلغة تواصل قد تكون اللغة التداولية المعهودة أو تكون غيرها من وسائل التواصل التي تعتمد حركات الجسد الأيمائية التي توحي بلغة غير صوتية.. الفكر داخل الذهن هو تفكير تجريدي لا يعوّل كثيرا على تعبير اللغة عنه، والفكر خارج العقل هو تفكير لغوي ناجز في تعبيره الواعي عن المدركات في وجودها الخارجي المستقل، وهنا بضوء تأويلنا معنى عبارة ميرلوبونتي يكون تداخل الفكر بالعالم الخارجي هو أفصاح تعبيري لغوي مرة أو أفصاح تواصلي غير لغوي مرة أخرى بغية أثبات أدراك وجود الاشياء ومعرفتها، فليس باللغة المنطوقة أو المكتوبة فقط يتم التعبير عن الموجودات المدركة عقليا المادية منها والخيالية،، فالصمت والحركة لغتان تواصليتان سيميائيا موحيتان بالمعنى التواصلي المطلوب أيضا لكنهما غير منطوقتين صوتيا ولا مكتوبتين أبجديا...
أما أن الفكر لا يكون خارج الكلمات حسب تعبير ميرلوبونتي، فهو خطأ في الفكر قبل خطأ تعبير اللغة المخاتل إذ الفكرالصامت هو تفكير عقلي فسلجي لغوي مكوّن من كلمات وابجدية لغوية لا صوتية خارجيا.ولا تكون الكلمات التفكيرية غير الصوتية استبطانيا هي ليست لغة تعبير وتفكير. وهي لغة لا تعمل بمعزل عن الفكر الذي هو خصيصة عقلية وليس خاصية تفرضها الموجودات على العقل.،
، أذ يمكن أن يكون الفكر خارج الكلمات المنطوقة والمكتوبة، في فعالية العقل التفكيرية بالاشياء والمواضيع تجريدا خياليا مثل الفكرة الصامتة في الذهن المستمدة من الواقع الخارجي أو من مواضيع خيال الذاكرة، أو التفكير الصامت المعبّر عنه في أيحاءات وأيماءات وحركات الجسد الذي لا تلازمه اللغة أو الكلمات المنطوقة ولا يحتاج ملازمة اللغة التعبيرية عنه وأنما يحتاج صور الاشياء المفكربها وترجمتها بلغة الجسد أيحاءا تواصليا حركيا في حمولته المعنى اللامحدود ... في هذه التجليات تكون الحركة الجسمانية فكر ولغة إيحائية لا صوت يميزها.
واستحالة أنعدام الكلمات يكون عندما يراد التعبير عن الاشياء والموجودات تواصلا أجتماعيا في تبادل الافكار بلغة الكلام الشفاهي لمعرفة الواقع المدرك الذي هو موجودات العالم الخارجي حيث تكون الكلمات وسيلة تواصل وحوارمن دونها يبقى أدراكنا لها حبيس الذهن السلبي غير الناطق فقط..وما يتعلق بلغة الجسد وفعالية الذهن المفكر الصامت فلا تمتلك لغة الكلمات تلك الضرورة في وجوب حضورها..فالذهن لا يفكر بالكلمات التعبيرية عن المدركات بل يفكر بالافكار وصورالاشياء المتمثلة فيه تلك المدركات التي هي وظيفة عقلية وليست ذهنية بالنيابة عن العقل.. الذهن يستقبل انطباعات العالم الخارجي الصادرة عن الحواس وهو لا يستطيع البت بردود انعكاسية عليها فهي خاصية يصدرها الدماغ.
سارتر والوعي الخالص
أما مفهوم سارتر أن الوعي الخالص هو ما يقصده الوعي من أشياء، هو وعي أدراكي قصدي غرضي هادف كما هو عند هوسرل، فسارتر أراد بهذه العبارة التوفيقية أخراج الانسان من عدمية الوجود الى نوع من الوعي المطلوب وجوديا هو الوعي (لذاته) بدلا من الوعي الخالص الذي هو الوعي السلبي بذاته الى وعي مفارق أيجابي هو الاندماج في الكليّة المجتمعية بحرية مسؤولة، كي لا يخرج سارترعن فهم هوسرل للذات المشروطة بالقصدية والهدف المسبّق بالذهن،....ويلتقي مع فهم هيدجرأيضا أن وعي الذات يمتلك ديناميكية شغّالة تربطها بالاشياء والعالم الخارجي في تخارج جدلي مفروض على الوعي الذاتي الوجودي. ونجد من نافل القول هنا الاشارة أن وعي الذات عند الفيلسوف الامريكي جون سيرل هو السعي لاشباع قصدي يحتاجه الشخص المدرك لوعيه الذاتي ولموضوعه..وهذا الاشباع نوعان اشباع غريزي بيولوجي واشباع قصدي معرفي..
أن الوعي (الخالص) الذي قصده سارتر يبقى في تناقض واضح مع مفهوم ميرلوبونتي أن الوعي لا يوجد خارج كلمات لغة التعبير، بل وجوده مفروض عليه أن يكون جزءا من العالم الخارجي وفي الطبيعة وفي المجتمعية الانسانية أمر لامجال الغنى عنه... الوعي الخالص الذي قصده سارتر لا يتحدد وجوده في صمت اللغة في أدراكها الاشياء والموضوعات تأمليا تجريديا خياليا في الذهن... الوعي الخالص أن لا يكون الانسان نومينيا، أي أن لا يكون وجودا ( بذاته) فقط مثل وجود صخرة أو شجرة أو نهر الخ.الوعي الخالص الذي أراده سارتر عند الانسان هو الوعي الذي يتسامى فوق مدركات وقدرات الشخص العادي الذي يعيش حياته بالاندماج في الكلية المجتمعية كما يرغبها هيدجر،لذا أعتبر تحقق الوعي الخالص استحالة انطولوجية أبعد من التجربة الصوفية لا يمكن الانسان بلوغها ولا يمكنه الافصاح عنها، الوعي الخالص هو فوق مرحلة صوفية غير متحققة في الطموح والتجربة والتطبيق ولا يمكن تحققها بالحياة الواقعية والعملانية..لذا اشار سارتر الى صرف النظر عنه حاله كما في دعوته وجوب مغادرتنا انا افكر .... الوعي الخالص عند الانساني ليس هو يماثل وجود الاشياء بذاتها في استقلالية سلبية عن التاثر والتاثير.
سارتر في فلسفته العدمية السوداوية أراد انقاذ وتدارك الوجودية أن تميت الانسان الف مرة وتقعده عن ديناميكية الحياة، وهو منعزل عن الاخرين الذين هم الجحيم، لذا عمد الى مهادنة الماركسية والفلسفات المثالية في البنيوية في أقراره الصاغر بأن الوعي الخالص لا ينطبق على وجود أنساني الا بانتسابه لمنظومة أجتماعية تحتويه شاء أم أبى ذلك، متغاضيا سارتر عن حقيقة أن الوعي الخالص لا يمكن تحققه في مجتمعية تحتويه بل في أنفرادية تمايزية سلبية عن غيره يعيشها بشل قدراته أراديا في فهمه العميق لا جدوى ولا معنى الحياة....ولا يمكن تحقق الوعي الخالص ألا في مدركات عقلية منفردة لا علاقة لها تربطها بالمحيط المجتمعي..وفي هذا أستحالة وجودية..للموجود هناك الدزاين على حد تعبير هيدجر..يدرك سارتر جيدا أن الوعي الخالص في محاولة وعي الانسان لذاته خيالا عقليا مجردا عن أي أنتماء أو موضوع يتخارج معه هو محال فقال عبارته الشهيرة (يتوجب علينا مغادرة انا افكر اذن انا موجود)، وأدرك هوسرل قبله هذه الحقيقة قائلا وعي الذات يقترن ب(قصدية) كما أدركها بعده هيدجرقائلا وعي الذات الحقيقي يقترن ب(الديناميكية) في وجود الذات متحققة - في - عالم. ثم اصبح الوعي القصدي ايقونة فلسفية لدى الفلاسفة الاميركان ريتشارد رورتي، جون سيرل، سانتيانا، سيلارز وغيرهم.
ما عدا فلاسفة المثالية ، جميع فلاسفة الماركسية والوجودية والبنيوية بأستثناء فيلسوفا التفكيكية والعدمية ( جاك دريدا، وجياني فاتيميو) خرجوا على الكوجيتو الديكارتي، في أقرارهم صاغرين بأن التفكير عقليا في صمت اللغة كوسيلة أدراكية لا يمكنها تحديد أو فهم الوعي الخالص، بمعزل عن أقتران ذلك الوعي بهدف يجعل منه جزءا من منظومة أجتماعية وجودية تعيش الحياة بأي شكل من الاشكال...لكنهم أبتدعوا مثالية أبتذالية جديدة (تفكيكية دريدا) بما لايقاس مع الفلسفات المثالية ، تلك هي فلسفة اللغة بأعتبارها معضلة مركزية يتوقف عليها حل جميع اشكاليات الفلسفة التي كانت اللغة سببها في سوء أستخدامها متناسين أن قصور وعجز فكر الفلسفة كتفكير منطقي تجريدي هو المبتدأ والمنتهى، واللغة في كل الاحوال هي وعاء الفكرألذي لا تمّثل اللغة كل الفلسفة فيه ولا يمثل الفكر كل اللغة...خطأ الفكر يسبق خطأ اللغة من حيث أن الفكر فعالية عقلية يحتاج قالبا أدراكيا يحتويه هو اللغة..عليه يكون خطأ المضمون(الفكر) لا ينسحب على تخطئة (الشكل) اللغة..في هذا المنحى نجد هيدجر أراد أن يخرج وعي الذات من المجرد الفكري داخل منظومة العقل، الى أثبات الوعي وجودا وكينونه في وعيه الاشياء كمتعّين انطولوجي خارج العقل، فلا يمكن أدراك الذات من غير وعي العالم الخارجي وأدراكه ... فوجود الاشياء في العالم الخارجي لا يرتبط بعلاقة مع الفكر، من دون أن يجعل الوعي منها وبها تفكيرا أدراكيا لوجودها، موضوعا وكينونة متعيّنة مدركة عقليا وذهنيا في أسبقية الفكر على اللغة أن جاز مثل هذا الفصل الافتعالي بينهما....لتوضيح أكثر نقول لا يمكن أنفصال الفكر عن اللغة في التعبير عن مدركات الاشياء خارج العقل في حين يكون مثل هذا الفصل الافتراضي واردا في معالجة العقل للاشياء ذهنيا داخله في صمت اللغة وفي تفكيرالذهن صوريا لا لغويا تعبيريا في وصف مدركاته معرفيا..
سارتر وميرلوبونتي ولغة الصمت
أن الانسان العاقل يفكر ذهنيا وهوصامت، ويفكرصامتا وهو نائم، ويفكرصامتا وهو حالم، والصمت لغة حوار العقل اللاشعوري مع ذاته داخليا في الموضوعات على اختلاف تنوعاتها، فالعقل لا يفكر في فراغ ولا في لا معنى – سنوضح هذا لاحقا – ويكون تفكير الصمت بلا لغة تعبير تواصلي أفصاحي أيحائي لا يشترط توسّله اللغة ممكنا وجودا، عندما يكون الصمت هو تفكير في موجودات مادية واقعية تكون مادة تفكير صامت خياليا مستمدا من مخزون الذاكرة في معرفتها، أو أن مواضيع التفكير الصامت خيالية مستمدة من انعكاس وجودها الواقعي بالذهن في وجودها المادي كمتعينات في الواقع المحسوس والمدرك ، ويتناولها العقل بالتفكيرالذهني المجرد، والصمت الذي يفكر بموضوعه سواء المادي أو الخيالي لا يلغي دور العقل أو لايستطيع الاستغناء عن الوظيفة العقلية في الوعي والتفكير بالاشياء...أن وظيفة العقل في التفكير بالمجردات الذهنية خياليا أرقى درجة نوعية منها التفكير في الموضوعات المادية التي يعقلها العقل كواقعات مادية ويدركها ظاهراتيا أو ماهويا كموجودات مادية في الطبيعة....فالعقل في ملازمته الخيال ورقابته على اللاشعور وتداعيات التصورات الذهنية تكون مهمته أصعب من مهمة العقل في تناوله الماديات والموجودات والاشياء في الطبيعة، لكي لا ينتج عن التفكير الخيالي الذهني المجرد أصوات وهذاءات تعبيرية لا تعطي المفكّر به من موضوعات مادية أو مجردة خياليا أستحقاقها الواعي الادراكي كما لاتعطي الهذاءات غير العقلية وعي الذات مصداقيتها في الادراك.
اللغة خاصية الانسان كنوع
يقول سارتر:( أن مسألة اللغة تسير جنبا الى جنب مع مسألة الجسم)(2)، وهي عبارة سليمة في توكيد بديهة بايولوجية فيزيائية، أن اللغة لاتفارق جسم الانسان العاقل الناطق بأعتبارها خاصية أنسانية انثروبولوجية يتمايز بها الانسان ويحتازها عقله لوحده من دون الكائنات الحية في الطبيعة... الانسان وجود لغوي ينضح بانسانيته قبل أي خاصية آخرى يحتازها الانسان ولا يمكنه الافصاح عن وجوده الفاعل بالحياة كما تفعله اللغة..
ويقول ميرلوبونتي (الكلمة أيماءة حقيقية لأنها تحمل معناها، وليست عشوائية أو طبيعية ) (3) الانسان في جنبة محورية جوهرية من كينونته الطبيعية هو أنه وجود عقلي مفّكر لغوي تواصلي ... فالانسان يفكر وهو يتكلم ويفّكر وهوصامت ويفّكر لا شعوريا وهو نائم، ويفكر وهو في حلم اليقظة، ويفكر وهو ماشيا لوحده أو مع مجموع... وفي كل حالات الصمت يحتاج الانسان التعبير اللغوي أو الكلامي ألشفاهي عن بعض الاشياء والموضوعات، ويكتم أو يستعصي عليه التعبير عن بعضها، أو يتعّذّر عليه الافصاح التواصلي في بعضها الآخر. أذن الانسان وجود مفكر في صمته وفي الافصاح أو الأحجام عن بعض تفكيره الصامت في الكلام أو اللغة أو الكتابة...والانسان هو كينونة عقلية أدراكية تفكيرية، ولغوية ناطقة،وخيالية تجريدية، تحتويها كل خصائص الانسان المادية وجودا،،والانسان كائن لغوي في وجوده الانثروبولوجي الفاعل...
يقول ميرلوبونتي(أذا كانت اللغة كيان باطن، فان هذا الباطن ليس فكرا مغلقا على ذاته وواعيا بها).(4) أنه لمن المهم أدراكنا أن اللغة في التفكير الباطني العقلي أي الصامت داخليا، هي وسيلة العقل أن يعقل نفسه ووسيلة العقل في وعي الاشياء المادية وغير المادية أي الخيالية تجريدا ذهنيا...كما أن العقل هو الوسيلة الوحيدة في أدراك وعقلنة وفهم الوجود الخارجي ولا بديل عنه...أما أذا بقي هذا الادراك العقلي منغلقا على العالم الخارجي، في عدم أدراك تواصله الجدلي والتخارجي المعرفي مع الاشياء والموضوعات، فهنا يصبح الانسان كيان لغوي حواري داخلي صامت فقط ومفارقا في صمته لجوهر أنسانيته الاجتماعية، وهو محال أن يكون وضعه هذا دائميا بالنسبة لأنسان سوي عاقل وناطق أيضا سواء يعيش منعزلا أو يحتويه مجتمع...ومحال أيضا أن يكون الانسان خارج طبيعته بخصائصها الانسانية،أن لا يوجد ويكون جزءا من الطبيعة متفاعل تواصليا مع مظاهرها ومكوّناتها، لا أن يكون كيانا مفكرا بذاته فقط ، منعزلا عن واقعه ومحيطه الاجتماعي. ولا في تعطيله لغة الحوار التواصلي مع الآخر.
الصمت حوار لغوي في تعطيل لغة التواصل المنطوقة او المكتوبة
الصمت الانساني هو حوار لغوي داخلي يعمل في الذهن البشري المفكر، بينما يكون صمت الحيوان (عدما) غير متعيّن لا عقليا ولا ذهنيا ولا تفكيرا منطقيا ولا تعبيرا لغويا... فهو صمت يغيب عنه تفكير العقل المعقد بخلاف الانسان... وفي عجزالحيوان الصامت أن يكون صمته تفكيرا خياليا تجريديا محكوما بوعي زماني ومكاني، كما عند الانسان حيث يقوم العقل ومن ثم اللغة على تنظيم ذلك التفكير الخيالي في وعيهما أدراكات الزمن...في هذا تكون علاقة الانسان بالطبيعة أثراءا لوجوده المتطور، وبقيت علاقة الحيوان بالطبيعة أفقارا لوجوده الحيواني، وكذا مع موجودات النبات في الافقار التدريجي الذي يقود الى أختلال بيولوجي مفزع في الطبيعة يقود الى أنقراض العديد من الكائنات الحيوانية والنباتية، ومن هنا كان الانسان كائنا وجوديا مستقبليا، أي يفكربالزمن المستقبلي بما لايتوفر للحيوان ذلك الا مع تدّخل الانسان بالطبيعة في جعل الذئب يرعى مع الغنم عندما تنتفي الحاجة الى القتل والافتراس الحيواني لأسكات الجوع في محميات الحفاظ على التنوع البيئي الطبيعي... في قانون وضعي لم تألفه الطبيعة هو التطبّع يروّض الطبع.
لغة التعبير الفني مثلا في النحت والرسم وفي جميع جماليات الفنون التشكيلية، هي أيضا لغة حوار داخلي صامت معبّرا عنه بوسائط توصيل هي غير لغة الكلام أو الكتابة...وتكون لغة الحوار التواصلي في الفن حالة كمون يستنطقها الانسان المتلقي للفن والجمال ويفهمها حسب ثقافته وتكوينه النفسي والجمالي...واللغة الصامتة بالفن منتج عقلي للفكر المتداخل مع تداعيات اللاشعور...أما لغة التعبير الانساني الكلام أو اللغة المكتوبة فهي منتج مصنع الحيوية العقلية الانسانية المتفردة خياليا أو فكريا تواصليا، وبذلك يصبح الانسان كائنا لغويا يفكر وهوصامت وفي مخياله حضور وعي الزمن كتحقيب ماضي وحاضر ومستقبل... وهذا النوع من الادراك بالزمن والمستقبل لا يتوفر عليه الحيوان.فالحيوان لايعي الزمن لافوضويا عشوائيا ولا منتظما مثل الانسان، حتى وأن كان هذا الوعي الزمني يمارسه الانسان أفتراضا وجوديا أستدلاليا لا غنى عنه في ادراكه ومعرفته الاشياء..
من الملاحظ أن الزمن المدرك حدسيا لم ينّظم هو حياة الانسان من الفوضى الزمنية التي يستتبعها حتما فوضى الوجود والحياة ، كما أن الزمن بعلاقته بالانسان لم يكن هو منّظما لحياته،، وأنما كان تنظيم الانسان لحياته مستمدة من تنظيم الانسان للزمن أدراكيا بدءا من أختراعه توقيتات الثانية والدقيقة والساعة وليس انتهاءا بتحقيب الزمن تقويما في توالي الليل والنهار وتقويمات السنة والفصول الاربعة وهكذا.. .
وعي الذات والصوفية
الانسان كينونة فينومينولوجية من ذات وظواهر،، وماهيته وجوهره المعبّرعنها في جميع صفاتها وكيفياتها تجعل من الانسان كائنا متمايزا في هوية جوهرية ماهوية مستقلة، وفي هذه الخاصية يتأكد أستحالة الاتحاد الانساني غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته (الانسان)، والوجود بذاته (الله)، ومثال هذه الاستحالة تتمثل في محاولة الصوفية الاتحاد الانجذابي الاتحادي المؤقت بين الله الذي هو وجود أفتراضي (بذاته)، مع الانسان الذي هو وجود (لذاته) في كيان مادي ماهوي متعيّن،الله كيفية أفتراضية لا يمكن أتحادها بكيفية أنسانية مغايرة مادية. والله كائن نوراني خارج محدودية المكان والزمان لا يدرك عقليا وغير متعيّن ماديا بالنسبة لادراك الانسان في محدودية أدراكه اللانهائي الكوني... وفي هذا الفارق الجوهري الكبيرممثلا في تغاير (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها عقل الانسان والاخرى مادية تتمايزماهويا ذاتيا عنها، كما تتمايز بعلاقتها مع قوانين الطبيعة التي يتحكم بها مطلق الزمان ولا محدودية المكان...وبهذا فالانسان كيفية لا تلتقي الا مع كيفيات أخرى تشترك معها بالصفات الجوهرية المادية من نوعها تتجانس معها في كل أو بعض الصفات والماهيات ضمن ضوابط قوانين الطبيعة.لذا يكون الادعاء الصوفي في الحلول او الاتحاد بالذات الالهية حتى على مستوى الجوهر والماهية باطلا وعجز لا يمكن التغلب عليه..
وعي الذات جماليا
لغة التخييل الانساني هو قسمة مشتركة بين وعي ذاتها ووعي المدركات المادية وغير المادية الخيالية، كذلك مفهوم الخيال في وعي الانتاجية الفلسفية أو الجمالية ،وفي نظم الشعرية الادبية والفنية، وفي أية فعالية فنية جمالية ينتجها الانسان ويلعب الخيال الفاعل دورا مهما فيها، وفي مجمل الفنون التشكيلية والنحت والجماليات وغيرها، كذلك الحال في أبداعات الاجناس الادبية الشعر والرواية والقصة ومختلف السرديات التي تعبر عن جماليات الادب والفنون عامة...في كل ما ذهبنا له يكون الخيال اللاشعوري المنتج حاضرا.
رغم أني في عدة مقالات منشورة لي تناولت فيها علاقة التعبير اللغوي كقاسم مشترك يتوسط التعبيرين الفلسفي والشعري، الا أني أجد في نهاية هذه المقالة المرور السريع بهما... فالشعر بخلاف فلسفة افلاطون القريبة لغتها من الشعر، أكثر أنواع التعبير الانساني الذي يتعالق تواشجيا أرتباطيا بالتعبير الفلسفي كما يذهب له نيتشة وهيدجر وغيرهما.
لغة الخيال العقلي غير الانفصامي المرضي المنتج ،هو قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر بأختلاف أن لغة التعبير الفلسقي تلتقي بالشعر في ناحية أنها أيضا تتعامل بمنطق التعبير اللغوي التجريدي الذي يتداخل فيه الخيال مع الفكر،لكن التعبير الفلسفي التجريدي لا يلغي هيمنة العقل ورقابته الصارمة، على العكس من الشعر الذي يطغى فيه الخيال وتداعيات المنطق اللاشعوري في تهويمات اللغة، في الخيال اللاشعوري تكون اللغة متراخية غير متماسكة.. لأنها لا تتوّسل العقل في التنظيم اللغوي بل تعتمد تهويمات الخيال، ولا يستدعي الشعر العقل في لجم الخيال المتداخل في جوهر منطق التعبير الشعري الذي ينتهك اللغة المنظمّة ويعمل على جعلها لغة تهويم خيالي يخرج باللغة عن مألوفيتها التواصلية التداولية في أبتداع لغة خاصة خارج التنميط العادي.في وقت ترى الفلسفة لغتها التعبيرية في حضور صرامة العقل على التفكير الفلسفي أن تكون صياغة الافكار فيها تقترب جدا من صرامة منطق العلم ورياضيات التفكير.
الفلسفة في خروجها عن التنميط اللغوي التواصلي، تذهب باللغة الى مجاهل الفهم الاستعصائي على التلقي المباشر، فهي تستدعي العقل في رقابته الصارمة أن لا يخرج التعبير الفلسفي العقلي، عن منهجية اللاشعور في غلبة الخيال في أنتاج تعبير اللامعنى وأعدام نظام اللغة التقليدي كما في الشعر.
أؤكد ماسبق لي ذكره أن عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر، كما أن جمالية اللغة أسمى من جماليات التعابير الاخرى التي لا تتوسل اللغة قيمة عليا في التعبير. رغم أن تراتيبية أنتاجية العقل للغة لا يسبق أنتاجية العقل للفكر. وفي حال صمت الانسان، تكون اللغة هي الفكر ولا تفريق بينهما خارج الذهن كما لا تفريق بينهما داخله ايضا. فاللغة هي الفكرداخل العقل وخارجه في ترابط لا أنفكاك بينهما.
واللغة والفكر حوار داخلي غير مفارق ولا معلن، وكذلك هما خارج العقل حوار عقلي معلن لا انفكاك بينهما في أستحالة فهم أحدهما بمعزل عن الآخر. اللغة والفكرة تعبير واحد عن موضوع ملازم واحد في زمنية لحظوية محسوبة واحدة ، ويفترقان – الفكر واللغة - عن الخيال العقلي المنتج لهما ، وفي التمايز الدلالي بينهما، متى ما أصبحت الفكرة واقعا ماديا دلاليا معبّرا عنها بلغة يدركها المتلقي في ظاهرياتها، أوبما تستبطنه الفكرة من دلالات تحمل فائض المعنى بلا نهاية قرائية أستقبالية للنص.
علي محمد اليوسف
الهوامش
- ميرلوبونتي نقلا عن جعفر عبد الوهاب /الفلسفة واللغة ص 58
- نفس المصدر السابق ص 58 ايضا
- نفس المصر السابق ص 127
- نفس المصدر السابق ص 61