إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 تتوزع العقلانية المطبقة في فلسفة ليفيناس بين مستويين: مستوى نهج نصف منطقي ونصف عملي في علاقة الذات بالعالم، ومستوى مقاربة ما قبل منطقية في علاقة الذات بالمستقبل والألوهية. ويمكن إثبات الفرق في معالجة الموقفين من خلال الانتقال من المعنى إلى المعقول، وهما أفهومان أساسيان يشهدان هنا على تجاوز النظرية نحو ما وراء لا تتوافق وسائل مقاربته مع تلك التي يمارسها العقل. وبالتالي سيكون من الجدير التساؤل حول التمييز بين المقاربتين، التأملية وقبل التأملية، ذواتي أفق نشأة فكر ليفيناس انطلاقا من تجذره في فينومينولوجيا هوسرل.
- النزول على أرض الملموس
من بين الأطروحات التي قدمها من خلال أعماله، طور ليفيناس باستفاضة فكرة أولوية الحياة على الفكر. ويمكن تلخيصها بفكرة أن التجربة المعاشة هي أساس أي فعل ذي أساس نظري وليس العكس. تُظهر القراءة المتأنية لنصوصه منذ أطروحته الأولى (1928) أن الاكتشاف الفينومينولوجي لقصدية الوعي يجعل من الممكن تفضيل العملي على النظري، بطريقة لا تعود فيها الحقيقة تُعطى للذات تبعا لمعرفة قد تكتسبها ولكن بشكل مباشر وبدون وساطة مع ضمان أرضية أصلية موضوعية ملتزمة بالفعلي. من خلال الفحص الدقيق لهذه العلاقة القصدية بين الذات والموضوع، فضل ليفيناس الشاب هذا المنظور في الفكر الهوسرلي، "فلسفة حية [...] في قلبها يتعين الارتماء والتفلسف". ولذلك فإن ثيمة الملموسية هي التي تكشف أولاً عن الرهان المتمثل في المقاربة الهادفة إلى اكتشاف الواقع انطلاقا من الاستثمار المعرفي الذي يسطّح المسافة بين الواقع والمثال. وهذه الرؤية العامة التي احتفظ بها ليفيناس هنا من هوسرل هي التي تغذي التوتر بين الفكري والفعلي، والتي أصبحت تدريجيا، بالنسبة إلى ليفيناس، نقطة وضاءة وجهت تفكيره منذ الثلاثينيات إلى الستينيات. مثلت هذه المقاربة الأولى بالنسبة إلى ليفيناس الشباب إمكانية إعادة تأهيل علاقتنا بالعالم من خلال إعادة التوازن للعلاقة ذات-موضوع بواسطة الأفكار الفينومينولوجية عن الارتباط، عن قصدية الوعي التي تحقق هدف الأشياء كما أعطيت لنا، عن المعنى بآفاقها المفتوحة بشكل دائم لتوضيح العالم مباشرة انطلاقا من المعطيات الأصلية وأخيرا، عن تصور للذات يسمح لنا بالحديث عن فلسفة الذات التي تدرك العالم بينما تكون ملتزمة بواقعه الفعلي.
لكن سرعان ما نلاحظ أنه من خلال دفع هذه الأفكار إلى أقصى حدودها، وجد ليفيناس الشاب نفسه في مواجهة موقف فينومينولوجيي وصفه بأنه تأملي للغاية، واعتبره بالتالي غير كاف، معاتبا "هوسرل على فكرانينه". هذا التمشي، الذي ظل مرتهنا إلى حد كبير بتأثير هايدجر، ولكن أيضًا على ما وحد العديد من المفكرين الفرنسيين ضد المنزع التنظيري في الفلسفة في ذلك الوقت، مع المطالبة بالعودة إلى الملموس، استدعى نقدا للفكرانية. قادت هذه الاعتبارات ليفيناس، وكذلك ميرلو بونتي وسارتر، إلى إظهار أن أطروحة الملموسية لا تصمد أمام الفحص على الإطلاق، وبالتالي متهمين الفينومينولوجيا الهوسرلية بنزعة تنظيرية مفرطة. تم طرح الأسئلة التي غذن هذا الموقف الفلسفي الأساسي عند ليفيناس على النحو التالي:
هل هناك حقا أولوية للنظرية؟ هل هناك مثال للتأمل يجب احترامه؟
إن الرؤية العامة التي احتفظ بها ليفيناس من الفينومينولوجيا تظهر للوهلة الأولى أن المقاربة الهوسرلية بدت وكأنها تعترف بتكييف الملموس، مما عزز مرة أخرى الفكرة التي مفادها أن الفكر لا ينفصل عن الحياة. تلعب الوظيفة المرجعية للحياة دورا استراتيجيا إلى حد أن أي اتصال مع كائن ممثل يتطلب وجوده (ظهوره) أمام الوعي. لا ينطبق هذا المبدأ الفينومينولوجي فقط على إعطاء الأشياء المادية من خلال أفعال مدركة أو ملموسة، ولكن أيضا على تحقيق مقاصد المعنى المتعلقة بالأشياء الخيالية والمتخيلة وغيرها. وهكذا تحتاج مقاصد العقل إلى الخبرة حتى تتمكن من الانتقال من الوقائع المفترضة إلى البداهة المترابطة، وهكذا تكون التجربة المعاشة ضرورية لأنه بدونها يظل كل معنى غير مفهوم عبثيا.
مع هوسرل، يقول ليفيناس، لم نعد نسعى إلى إضفاء الشرعية على المعرفة في شكل بناء عقلي خوفا من تدخل عفريت شرير قد يصرف أفعال وعينا. في الواقع، جعل هوسرل غير شرعي البحث عن عنصر ثالث للوساطة بين الفكر والعالم التي جاءت لتوضيح وجعل الكينونة التي تقدم نفسها للعقل موضوعية. وتبعا لهذا الاكتشاف للقصدية بالتحديد، سيتمكن ليفيناس من التمسك ب"روح الفلسفة الهوسرلية" حتى في عمله المتأخر جدا "خلافا للوجود أوما وراء الماهية" (1974)(*).

لكن فترة الشباب هذه سمحت له قبل كل شيء بتفضيل العملي على النظري على إثر الظهور المباشر للعناصر التي تشكل المعرفة. خاصة أنه بفضل القصدية، لم يعد من الضروري المرور من فحص نقدي للمعرفة للتمكن من تحديد الموضوع، ما دام أن التعاون الفعال بين الفعل القصدي والحدس يفعل ذلك بشكل مباشر. ومع ذلك، ظل ليفيناس يتهم هوسرل بعدم الذهاب إلى أبعد من ذلك في بحثه الفلسفي عن الحياة، وبقائه أسير الأولوية النظرية التي لا تسمح لنا باكتشاف الواقع كما هو، "في غياب الافتراضات". إننا نجد هذه الانتقادات بالفعل في صفحات الشباب التي مدحت فينومينولوجية الملموس، ولهذا السبب فإن وجاهة هذا الاعتبار الأول لا يمكن إهمالها. إنه لا يعكس ببساطة تطور القراءة الليفيناسية، ثم التحول الذي قام به ليفيناس باتجاه المقاربة نصف المنطقية ونصف العملية في الفينومينولوجيا، ولكنه يعكس أيضا بذرة فكر أصيل. لقد جعل من الممكن تسليط الضوء على المسار الذي انطلق من فلسفة ما تزال تأملية بعمق (نظرية أو فكرانية، هذان المصطلحان مترادفان هنا)، إلى فلسفة تبرز البعد الأخلاقي للعلاقة بالآخر في حد ذاتها بصرف النظر عن العلاقة النظرية بالعالم.
- حواجز الفكرانية الفلسفية
إن المكانة الخاصة التي تتمتع بها الفينومينولوجيا، وهي النظرية التي تكشف الحياة، تحللها وتميزها مع احترام طبيعتها الخاصة، أكسبتها إعجابا كبيرا من لدن الفيلسوف الشاب الذي كان يستعد ليكون أحد الرواد الذين جاءوا بالفكر الهوسرلي إلى فرنسا. وهكذا، من أجل تناول نشأة فكره انطلاقا من تجذره الهوسرلي يجب التأكيد على التغيير المفاجئ في موقف ليفيناس تجاه الفينومينولوجيا، التي تعتبر، من ناحية، منهجا نظريا لا يشوه الإحساس بالواقع فحسب، بله غير قادر على التحرر من حكم مسبق فكراني يحدده ليفيناس على النحو التالي:
"الموقف الأول والأساسي تجاه الواقع موقف نزيه، تأمل خالص، تأمل يعتبر الأشياء مجرد أشياء . المحمولات القيمية، خصائص الشيء المعتاد، بما هو معتاد، هي خلفية فقط. إن عالم النظرية أولي".
قادت اعتبارات العلاقة ذات-عالم ليفيناس إلى اتهام الفينومينولوجيا بإهمال المعنى الذاتي والخاص الذي يحمله كل شيء بالنسبة إلينا من أجل تفضيل دلالته الموضوعية الأكثر انتشارا والمقبولة بشكل عام. إن موضوعية الأفاهيم مثل المعتاد، الجمالي، الضروري مثلا، تحل محل الجانب الذاتي البحت الذي تحمله خصائص الشيء بالنسبة إلينا. إن أساس هذا الاتهام بالتشييء المفرط لا يرجع بالتالي إلى عدم الاهتمام المفاجئ في هذه المقاربة بما يتعلق بالواقع الفعلي، لأننا رأينا للتو أن أصالتها ترتكز على لقاء حقيقي بين عالم الحياة وعالم الروح؛ بالفعل، الفينومينولوجيا ليست سوى تنظير حول عناصر العالم التي تعطي نفسها لنا كما هي. إن حكم ليفيناس النقدي يرجع بالأحرى إلى حقيقة أن الفينومينولوجيين يعودون إلى المفاهيم المكونة (الماهيات) للأشياء، متناسين قيمتها الشخصية – العاطفية أو النفعية أو غير ذلك – وبالتالي ثروتها الحقيقية لذات الفرد. فرغم تبعية العلوم للمعطيات التي توفرها لها التجربة، ورغم الموقع الثانوي لهذه العلوم بالنسبة لاكتساب المعطيات، إلا أنه يبدو أن الفينومينولوجيا، إذا ما اعتبرت هنا نموذجا للمنهج النظري، لا تستطيع أن تحرر نفسها تماما من موقفها التأملي.
ومن أجل تجنب مثل هذا الموقف تجاه العالم، تبنى ليفيناس مقاربة مختلفة عن تلك التي اقترحها هوسرل، ولكن دون اقتراح بديل آخر في كتاباته وتعليقاته. البديل الوحيد الذي قدمه يظهر بعد ذلك في إشارة موجزة إلى المفهوم الهايدجري عن الاهتمام، معتبرا الحياة مجالا للنشاط وليس مجالا للاستثمار المقاصدي. فرغم التقدم الذي حققته الفينومينولوجيا الهوسرلية والذي سمح لها بالحفاظ على الاتصال بالجانب الحي والملموس للحياة، إلا أن هذا المنظور ظل ينظر إلى الوجود انطلاقا من وجهة نظر نظرية وليس انطلاقا من وجهة نظر نشطة، مشاركة في الوجود ومرتبطة بالوجود. إن مثل هذا الموقف يوفر منهجا علميا صالحا على نحو كوني، لكنه لا يكفي للتساؤل الفلسفي لأنه يتطلب أولاً المرور عبر النظرية لاكتشاف أسرار اتصال الإنسان بالطبيعة. إن طريقة مثل تلك التي قدمها هوسرل تفحص العالم انطلاقا من تعبيراته في الوعي (المعاني المقصودة التي تنتظر تحقيقها عن طريق الحدس) وليس انطلاقا من نشاط التدخل المتبادل (بين الذات والعالم) والتعامل مع الذات. ولذلك تظل أولوية المثال (eidos) والعلم على الواقع المعاش أسيرة، في نظر ليفيناس، لاعتبار انعزالي تجاه العالم:
"لكن هنا مرة أخرى، يمكن لنا أن ننتقد هوسرل بسبب فكرانيته. فإذا وصل إلى فكرة عميقة جدا مفادها أن عالم العلم في النظام الأنطولوجي متأخر عن عالم الإدراك الملموس والغامض، ويتوقف عليه، فربما كان مخطئا عندما يرى، في هذا العالم الملموس، عالما من الأشياء المدركة قبل كل شيء. هل موقفنا الأول تجاه الواقع هو موقف التأمل النظري؟ ألا يقدم العالم نفسه، في جوهره، كمركز للفعل، كمجال للنشاط أو الاهتمام، على حد تعبير مارتن هايدجر؟".
يشير مفهوم الاهتمام هنا بشكل خاص إلى الفكرة الهايدجرية المتمثلة في الوجود مع الآخر. بطريقة غريبة شيئا ما، سمح هايدجر لليفيناس بأن ينسب إلى هوسرل أطروحة ليست له، من خلال المزج بين وجهتي نظر متعارضتين: الأولى تدعي أن كل اتصال بالعالم يخضع أولاً لاعتبار العقل (المنظور الهوسرلي) و وترى الأخرى أنه يكفي استخدام الشيء بهدف اللجوء إليه دون الحاجة إلى التعرف عليه مسبقا (المنظور الهايدجري). وهكذا يستخدم ليفيناس الموقف الهيدجري لانتقاد هوسرل، معتقدا أن الأشياء، كونها في متناولنا، موجودة أولاً لتثير "اهتمامنا" وتشجعنا على استخدامها. في مثال هايدجر، يضرب الحداد الحديد بالمطرقة طوال اليوم دون أن يفكر فيها عند كل مرة يرفع فيها يده ليضرب بها مجددا الحديد، وبالتالي يضحي بمبدأ الانعكاس الفينومينولوجي، أي النية السابقة على الاستخدام. بيد أن ليفيناس أوضح على الفور أنه من خلال تفضيل وجهة النظر هذه، فإننا نخاطر بفقدان الوجود المصطنع للعالم والمشاركة الملموسة للإنسان في عالم الحياة. وفي مقابل “الفلسفة الفكرانية” التي “تسعى إلى معرفة الإنسان ولكنها […] تترك جانباً فعالية الوجود الإنساني ومعنى هذه الفعالية”، يضع ليفيناس بالتالي في المقام الأول فلسفة “هايدغر [الني] جلبت فكرة الفهم الذي لا يختلف فعله عن التأثير وفعالية الواقعة". لكن السؤال الرئيسي، وهو ما إذا كان الاتصال الأصلي بالعالم هو تنظيري (مقصود) أو غير تنظيري (عملي، وظيفي، محسوس أو غير ذلك) ما يزال مهما. وهذا هو السبب وراء ظهورها مرة أخرى في جميع مراحل الفلسفة الليفيناسية، وخاصة في العمل الناضج "الشمولية واللامحدودية" (1961، حيث نجد المستوى الأول من الانعكاسية المسبقة، الفعالة، في الاستمتاع المحسوس بالطعام. هنا، صادفنا الشرط الأول لليفيناس وهو الوقوف على أرضية الملموس؛ ويبقى لنا أن نرى كيف تتم إعادة ترجمته لاحقا على مستوى ما قبل الانعكاسي في شكل لا هو أنطولوجي ولا هو نظري، بل مجرد تجربة
- هل نحن دائما منطقيون أصلا دون أن نعرف؟
لا يقتصر الهوس الليفيناسي بالفكرانية على الفينومينولوجيا فحسب، بل على أي مقاربة تتطلب وجود معطيات واعية حتى نتمكن من فهم محيطنا. لذلك، ليس الامتياز الممنوح للمقاربة التأملية تجاه العالم هو ما يعارضه ليفيناس فحسب، بل أيضا خضوع هذه العلاقة لوجود المعطيات المعرفية التي تمثلها. إنه لا يثق في فكرة أن الحياة الفكرية لها الأسبقية على الحياة المعاشة، وبالتالي تسجنها في الخلايا المثالية لعقولنا المكونة. ومع ذلك، ومن المفارقة أن هذا النقد لأولوية الفكر يتحول عندما يسلط ليفيناس الضوء على موضوع الدلالة الذي بفضله يتم رفض دور وساطة التمثيل لإفساح المجال لوساطة الحواس. وهو يرى أن الأطروحة المقاصدية تتحرر بالتالي من شرط التمثيل لأنه من خلال المعاني نستهدف أولاً الأشياء. هذه الملاحظة، التي يحركها نقاش ليفيناسي داخلي يتحدى مناهضته للفكرانية، تكشف عن مزايا الفلسفة التي تحررنا من القيود الغنوصية أو الوجودية. لكي نرتبط بأشياء العالم، لا نحتاج بالضرورة إلى معرفتها أو تمثيلها أو تأكيد وجودها: يكفي أن نستهدفها رمزيا من خلال معاني مثالية.
إن نقطة التحول الحاسمة هذه التي جلبتها النظرية الفينومينولوجية للمعنى تقدم إعادة تأهيل محتملة للنظرية الهوسرلية، ولكنها تستمر في تفعيل أي اتجاه عقلاني-مثالي يتخذ الجهة المنطقية كنقطة انطلاق في العلاقة مع محيطنا.
هكذا، لم يؤاخذ ليفيناس الشاب هوسرل كثيرا على رغبته العلمية في توضيح طريقتنا في الوجود من خلال وصف ما يحدث في الوعي، بقدر ما لامه على كونه عندما لم يذهب كفاية بعيدا في رفضه لأي افتراض (حتى ولو كان مهما)، أسس لسيادة روح مجثتة، منفية من الحياة التي مع ذلك تكيفه.
إذن، المنزع النظري في حد ذاته ليس مدعاة للملامة في نظر ليفيناس.
أمام قارئ منزعج بإدانة ليفيناس للفكرانية (وإلا لماذا يتنصل في الواقع من موقف متأصل في طريقتنا في الوجود؟)، يجب علينا أن نتجنب أن ننسب إليه عدم ثقة فلسفية زائفة ونسلم بأن ليفيناس يعترف بسهولة بمزايا النظرية والمعرفة. تمنح الكفاءة المقاصدية، وفقا له، قدرا معينا من الاستقلالية والحرية الروحية، اللتين تشيران إلى قوتنا على التأكيد حيال العالم، رغم عدم كفايتهما على المستوى العملي للفعل. في التواصل الاجتماعي، يبدو الموقف النظري ضروريًا بالنسبة له لأنه أساس العدالة. لكي نكون منصفين، يجب أن نكون قادرين على المقارنة والحكم على الأشخاص، الأمر الذي يستوجب اللجوء أولا إلى عقلنا ومعرفتنا ثم بعد ذلك فقط إلى شعورنا الأخلاقي بالمسؤولية.
بالإشارة إلى ما يسميه هوسرل بـ "القبحملي"، أي الفكرة التي نكونها عن موضوع سابق لنشاط الحكم المنطقي المحض، يستحضر ليفيناس الإعلان الهوسرلي الشهير: "نحن دائما منطقيون أصلا دون أن نعرف ذلك". في نفس العبارة تقريبا التي اعتاد ليفيناس على استحضارها باللغة الألمانية: « wir sind schon Logicker, ohne es zu wissen»، يتلخص دور النظرية الذي لا يمكن إنكاره. إن التجربة المقاصدية التي تسبق أي تأكيد على الصدق أو الكذب تجعل من الممكن تفسير إدراك الأحداث قبل إخضاعها للاستدلال. لأنه قبل أي تمثيل، وعلى مستوى الإدراك الحسي، فإننا نمتلك بالفعل جميع الاستعدادات اللازمة لنصبح منطقيين ولتوضيح الأحداث ووصفها. بفضل القصد الذي يصاحب دلالة فعل فكري (القصد الدلالي)، فإن تصور رجل في الشارع، والذي يعطيه هوسرل كمثال، يوفر فكرة قبحملية عن الرجل؛ يتعلق الأمر بإلمام عقلي معين يتم تصحيحه لاحقا عندما نقترب منه، نلاحظ أنه دمية في الواجهة ( التجربة والحكم). وهكذا، كما يقول ليفيناس، قبل الإنجاز الذي يؤكد أو ينفي توقعاتنا، وقبل تدخل الحكم الذي يقيم الدليل، فإننا نمتلك أصلا القوة العقلية للتعبير عن العالم (عن حق أو عن خطإ).
يبقى أن صعوبة قبول فكرة أن علاقتنا بالعالم مؤهلة في المقام الأول لتكون منطقية أو نظرية هي التي تحدد تساؤل ليفيناس، تساؤل يضعف الفرضية الفكرانية، وخاصة القناعة الموضوعانية لدى هوسرل، وكذا غلبة الشريحة التأملية. يتعلق الأمر بإشكاليات شديدة التنوع حتى لو كانت جميعها تعنى بنفس الافتراض النظري الذي لم يتوقف أبدا عن إزعاج ليفيناس. تشهد على ذلك الرسالة التي وجهها إلينا الأستاذ جاك كوليت:
«قرأت في ملاحظاتي: هل الفينومينولوجي ساذج إلى هذه الدرجة؟ من خلال النزول إلى أعماق الإدراك، سندرك ببساطة أن كل شيء منطقي اصلا بحكم الأمر الواقع. لماذا نعتبر أنه من الضروري أن يكون الروحي دائما واعيا بشيء ما؟ ألا توجد مقتضيات أخرى سابقة على الوجود المعطى؟ هذه بعض الأسئلة النادرة التي صاغها [ليفيناس] بشكل تلميحي، في محاضرات هذه الفترة التي كانت تهدف فقط إلى شرح نصوص هوسرل”.
ليست إذن القدرة البشرية الرائعة التي تستمد مصادرها من عالم الدوكسا هي ما سعى ليفيناس إلى التشكيك فيه، بل الدور الأساسي الممنوح لهذه القدرة النظرية هو الذي يجعلنا أسرى لأولوية فكرنا الخاص. إنها إذن المفارقات الفلسفية التي تأتي من فكرة أن الموقف النظري يشكل المصدر بامتياز لفهمنا للعالم هي التي يجب وضعها في الواجهة لكشف العناصر الليفيناسية الأصلية التي انطلاقا منها ينتظم فكره. لا تهدف هذه الاعتراضات إلى اتهام هوسرل بتفضيل الوعي في العلاقة مع العالم فحسب، بل إنها تكشف أيضا أسباب قلب النموذج الهوسرلي الخاص بكتابات نضوج ليفيناس. تلك أسباب تكون أحيانا موضع شك نظرا لقراءته للفينومينولوجيا، ولكنها تسمح لنا أيضا باكتشاف طريق يأتي من ضفة أخرى، مما وراء التأملات.
- ضد فكرة أن كل المعاني من صلاحية اللوغوس
إن التأصيل الليفيناسي للفينومينولوجيا يشكل بالفعل نقطة تحول لغوية وأخلاقية أدت إلى التفكير في نظام المعنى. فبقدر ما قد يبدو الأمر متناقضا، سمح الأفهوم المفاهيمي يالأساس للدلالة في الفينومينولوجيا لليفيناس أولاً بقلب أولوية الموقف النظري على أعتبار انه يفتح آفاقا جديدة. إن أفعالنا لا تقوم على تمثلات ذاتية ( تمثلي للعالم)؛ يشهد تشكل المعنى على المشاركة النشطة التي تحرر من العزلة التأملية؛ التجارب المنبثقة من عالم الحس (حالات انفعال، أفعال إرادية، إلخ..) دون أن تكون مفهومة بالكامل، ومع ذلك يكون لها معنى بالنسبة إلينا. يظهر هذا التأويل مساهمة هوسرل الحقيقية في التفكير ما بعد الحداثي، لأن ليفيناس، عبر جميع كتاباته، بقصد أو بغير قصد، فرض رؤية تفضل المنظور المقاصدي للمعنى.
ومع ذلك، على المدى الطويل، يبدو هذا المنظور غير كاف بالنسبة إليه، مما زاد من استخفافه بفلسفة معينة ترى أنه بما أن عقلنا هو المشكل لمعنى الظواهر، فهو أساس وشرط كل هذه العلاقات التي نقيمها مع الكون.
لذلك، نتساءل: هل يجب علينا أن نستمر في التفكير، على غرار الفينومينولوجيا، بأن العالم ليس له معنى إلا بقدر ما هو معروف؟ وهل المعنى كله يبدأ حقاً من معرفة اللوغوس؟ إذن، بمجرد ما يتم تأكيد "السير النظري أخيرا للخطاب الفلسفي" لهوسرل بشكل قاطع من خلال المعيار التأملي للمعنى، يأسف ليفيناس على العمى الذي لا يسمح لنا بالتفكير في المعنى، وخاصة معنى حياتنا، إلا انطلاقا من التفكير. من هذا الخلاف نشأ الانقسام بين المقاربتين الفلسفيتين اللتين تم تناولهما هنا: هكذا يتم اكتساب توجه جديد، ومعه تمشي هرمينوطيقي يصل إلى أعماق لا يمكن الوصول إليها بواسطة القصدية.
بالفعل، رفض ليفيناس أولًا ما يسمى بالمثالية المطلقة للمعنى، وركز بالتالي، في جداله مع الفينومينولوجيا ولكن أيضا مع التقليد التأملي بشكل عام، على مبدإ التيممة pré-traçante (المصطلح من نحتنا)، كما لو أن الدور المهيمن
للجواهر القبلية، الموجه للفهم كله، يشكل تسلسلاً غائيا ينعش المعنى مسبقًا، وذلك لإفقار أفهوم المعنى ولإخفاء واقعية العالم بواسطة مثاليته. وهل كل معنى يندرج بالضرورة ومسبقا ضمن جوهر عقلاني مثلما يندرج معنى جملة “لون الدم الأحمر على إصبعي” ضمن جوهر اللون الأحمر بشكل عام؟ إن قبول هذه القواعد يعني اعتبار أي شيء جديد بمثابة نتاج مشتق لما هو موجود بالفعل (أو يمكن أن يكون) وأي معنى مقصود يعتبر بيانا نهائيا إلى حد ما. لكن، في الحقيقة، هذه الهيمنة النظرية المثبتة مسبقا في الفينومينولوجيا لم تزعج ليفيناس لنفس الأسباب كما في السابق. ليس فقط سوء فهم لملموسية أخرى، ملموسية عالم لم يطبع معناه على الجوهر وحيث يتم اختبار الممارسة أولا قبل فهمها، هو ما يطالب به في كتاباته المبكرة. إن ما أزعج ليفيناس في كتابات نضوجه هو بالأحرى اختزال الحياة إلى مجرد جهة المعرفة، الإنسان إلى العامل الحكيم الذي يحملها، وفوق كل شيء، جهل الأساس الأصلي لمعنى الحياة الذي لا يمكن لأي فكر أن يكشفه. هل من المعقول أن تتلخص الحياة في تطبيق شكلية ذات معنى؟ الرفض كامل:
"الدلالة التي تحرك العاطفي، الاكسيولوجي، الحركي، الحسي، الجوع، العطش، الرغبة، الإعجاب، لا تأتي من التيممة التي يمكن العثور عليها فيها، ولا من تنوع أو جهة التيممة. البعض-للبعض الذي تشكله الدلالة ليس معرفة بالوجود، ولا أي وصول آخر إلى الجوهر".
رغم أن النموذج الفينومينولوجي ليس غريبا على طريقتنا في الوجود، نظرا لأن "كل شيء ينتهي إلى أن يصبح معروفا، فإننا لا نعتقد"، كما يصر ليفيناس، "أن المعرفة هي المعنى ونهاية كل شيء". إن عدم الأخذ في الاعتبار لبعد آخر يفلت من تأثير التعالي العقائدي يؤدي، وفقا لليفيناس، إلى اختزال الإنسان إلى مجرد جهة منطقية بدون ماض وبدون تاريخ.
يُنظر إلى إنسان الفينومينولوجيا على أنه الشخص الذي يحمل الأفعال، باعتباره المحرك الحر الذي يسمح للأشياء بالظهور من خلاله (تأخذ هذا الشكل أو ذاك)، ويفقد كرامته كذات إنسانية. يجادل ليفيناس هنا من منطلق مطلب إنساني. بالنسبة له، نتيجة هذا التصور الهوسرلي للمعنى بشكل عام، ولمعنى حياتنا بشكل خاص، تصبح أكثر عمومية، وتقدم بالتالي شخصا مختزلا إلى ذاتية متعالية يسبقها دائما جواهر يجب استعادتها. إن ذاتية، على النقيض من الروح (geist) الهيغلية، الروح المطلقة التي تحدث عنها كتاب "فينومينولوجيا الروح" لهيجل، لا تخاطر بلاشخصية وعي قادر على معرفة نفسه من خلال المعرفة المطلقة، أي أنه قادر على الكشف عن نفسه فقط من خلال الكونية وليس في خصوصياته. إن خطورة مقاربة فلسفية مثل تلك التي اتبعتها فينومينولوجيا هوسرل تكمن في مكان آخر. إنها لا تأتي من فقدان الهوية الذاتية، لأنه بفضل القصدية، يتمكن الوعي من دمج الكوني والفردي دون التضحية ببُعده الشخصي. وفقا لليفيناس، يبدو أن الخطر، وراء المثالية الوفيرة للتتبع القبلي الفلسفي، موجود في معرفة الذات. لا القدرة على معرفة (الذات، الكون، الآخرين)، والتي كانت تُعتبر لعقود من الزمن علامة على العقل الذي يميزنا عن الحيوانات، ولا قدرتنا على استخلاص هذا الشكل الودي النقي من ذواتنا الذي هو الكوجيتو، تضع في متناولنا ما يجعلنا بشرا. بقواعد منهجه، بالتعالي الموضوعي الذي يسود الوعي الفينومينولوجي والبحث المستمر عن "الحضور الكامل للتيمة الموضوعية"، أي المعرفة، لا نلغي ربما فرادة الذات، ولكنها مع ذلك تفقدها لاحقا. إن العواقب الاجتماعية والتاريخية لهذه النظرية الفينومينولوجية كبيرة. يتساءل ليفيناس: ألا ينتهي الأمر بالإنسان، الذي تحدده ذاتية لا تحفز سوى الصيغ العامة للتفكير، إلى فقدان إنسانيته؟ ألا ينتهي الأمر إلى حجب البعد الحقيقي للمعنى، وخاصة معنى الحياة؟
- ضد فكرة أن كل المعاني من صلاحية اللوغوس
إن التأصيل الليفيناسي للفينومينولوجيا يشكل بالفعل نقطة تحول لغوية وأخلاقية أدت إلى التفكير في نظام المعنى. فبقدر ما قد يبدو الأمر متناقضا، سمح الأفهوم المفاهيمي يالأساس للدلالة في الفينومينولوجيا لليفيناس أولاً بقلب أولوية الموقف النظري على أعتبار انه يفتح آفاقا جديدة. إن أفعالنا لا تقوم على تمثلات ذاتية ( تمثلي للعالم)؛ يشهد تشكل المعنى على المشاركة النشطة التي تحرر من العزلة التأملية؛ التجارب المنبثقة من عالم الحس (حالات انفعال، أفعال إرادية، إلخ..) دون أن تكون مفهومة بالكامل، ومع ذلك يكون لها معنى بالنسبة إلينا. يظهر هذا التأويل مساهمة هوسرل الحقيقية في التفكير ما بعد الحداثي، لأن ليفيناس، عبر جميع كتاباته، بقصد أو بغير قصد، فرض رؤية تفضل المنظور المقاصدي للمعنى.
ومع ذلك، على المدى الطويل، يبدو هذا المنظور غير كاف بالنسبة إليه، مما زاد من استخفافه بفلسفة معينة ترى أنه بما أن عقلنا هو المشكل لمعنى الظواهر، فهو أساس وشرط كل هذه العلاقات التي نقيمها مع الكون.
لذلك، نتساءل: هل يجب علينا أن نستمر في التفكير، على غرار الفينومينولوجيا، بأن العالم ليس له معنى إلا بقدر ما هو معروف؟ وهل المعنى كله يبدأ حقاً من معرفة اللوغوس؟ إذن، بمجرد ما يتم تأكيد "السير النظري أخيرا للخطاب الفلسفي" لهوسرل بشكل قاطع من خلال المعيار التأملي للمعنى، يأسف ليفيناس على العمى الذي لا يسمح لنا بالتفكير في المعنى، وخاصة معنى حياتنا، إلا انطلاقا من التفكير. من هذا الخلاف نشأ الانقسام بين المقاربتين الفلسفيتين اللتين تم تناولهما هنا: هكذا يتم اكتساب توجه جديد، ومعه تمشي هرمينوطيقي يصل إلى أعماق لا يمكن الوصول إليها بواسطة القصدية.
بالفعل، رفض ليفيناس أولًا ما يسمى بالمثالية المطلقة للمعنى، وركز بالتالي، في جداله مع الفينومينولوجيا ولكن أيضا مع التقليد التأملي بشكل عام، على مبدإ٦ التيممة pré-traçante (المصطلح من نحتنا)، كما لو أن الدور المهيمن
للجواهر القبلية، الموجه للفهم كله، يشكل تسلسلاً غائيا ينعش المعنى مسبقًا، وذلك لإفقار أفهوم المعنى ولإخفاء واقعية العالم بواسطة مثاليته. وهل كل معنى يندرج بالضرورة ومسبقا ضمن جوهر عقلاني مثلما يندرج معنى جملة “لون الدم الأحمر على إصبعي” ضمن جوهر اللون الأحمر بشكل عام؟ إن قبول هذه القواعد يعني اعتبار أي شيء جديد بمثابة نتاج مشتق لما هو موجود بالفعل (أو يمكن أن يكون) وأي معنى مقصود يعتبر بيانا نهائيا إلى حد ما. لكن، في الحقيقة، هذه الهيمنة النظرية المثبتة مسبقا في الفينومينولوجيا لم تزعج ليفيناس لنفس الأسباب كما في السابق. ليس فقط سوء فهم لملموسية أخرى، ملموسية عالم لم يطبع معناه على الجوهر وحيث يتم اختبار الممارسة أولا قبل فهمها، هو ما يطالب به في كتاباته المبكرة. إن ما أزعج ليفيناس في كتابات نضوجه هو بالأحرى اختزال الحياة إلى مجرد جهة المعرفة، الإنسان إلى العامل الحكيم الذي يحملها، وفوق كل شيء، جهل الأساس الأصلي لمعنى الحياة الذي لا يمكن لأي فكر أن يكشفه. هل من المعقول أن تتلخص الحياة في تطبيق شكلية ذات معنى؟ الرفض كامل:
"الدلالة التي تحرك العاطفي، الاكسيولوجي، الحركي، الحسي، الجوع، العطش، الرغبة، الإعجاب، لا تأتي من التيممة التي يمكن العثور عليها فيها، ولا من تنوع أو جهة التيممة. البعض-للبعض الذي تشكله الدلالة ليس معرفة بالوجود، ولا أي وصول آخر إلى الجوهر".
رغم أن النموذج الفينومينولوجي ليس غريبا على طريقتنا في الوجود، نظرا لأن "كل شيء ينتهي إلى أن يصبح معروفا، فإننا لا نعتقد"، كما يصر ليفيناس، "أن المعرفة هي المعنى ونهاية كل شيء". إن عدم الأخذ في الاعتبار لبعد آخر يفلت من تأثير التعالي العقائدي يؤدي، وفقا لليفيناس، إلى اختزال الإنسان إلى مجرد جهة منطقية بدون ماض وبدون تاريخ.
يُنظر إلى إنسان الفينومينولوجيا على أنه الشخص الذي يحمل الأفعال، باعتباره المحرك الحر الذي يسمح للأشياء بالظهور من خلاله (تأخذ هذا الشكل أو ذاك)، ويفقد كرامته كذات إنسانية. يجادل ليفيناس هنا من منطلق مطلب إنساني. بالنسبة له، نتيجة هذا التصور الهوسرلي للمعنى بشكل عام، ولمعنى حياتنا بشكل خاص، تصبح أكثر عمومية، وتقدم بالتالي شخصا مختزلا إلى ذاتية متعالية يسبقها دائما جواهر يجب استعادتها. إن ذاتية، على النقيض من الروح (geist) الهيغلية، الروح المطلقة التي تحدث عنها كتاب "فينومينولوجيا الروح" لهيجل، لا تخاطر بلاشخصية وعي قادر على معرفة نفسه من خلال المعرفة المطلقة، أي أنه قادر على الكشف عن نفسه فقط من خلال الكونية وليس في خصوصياته. إن خطورة مقاربة فلسفية مثل تلك التي اتبعتها فينومينولوجيا هوسرل تكمن في مكان آخر. إنها لا تأتي من فقدان الهوية الذاتية، لأنه بفضل القصدية، يتمكن الوعي من دمج الكوني والفردي دون التضحية ببُعده الشخصي. وفقا لليفيناس، يبدو أن الخطر، وراء المثالية الوفيرة للتتبع القبلي الفلسفي، موجود في معرفة الذات. لا القدرة على معرفة (الذات، الكون، الآخرين)، والتي كانت تُعتبر لعقود من الزمن علامة على العقل الذي يميزنا عن الحيوانات، ولا قدرتنا على استخلاص هذا الشكل الودي النقي من ذواتنا الذي هو الكوجيتو، تضع في متناولنا ما يجعلنا بشرا. بقواعد منهجه، بالتعالي الموضوعي الذي يسود الوعي الفينومينولوجي والبحث المستمر عن "الحضور الكامل للتيمة الموضوعية"، أي المعرفة، لا نلغي ربما فرادة الذات، ولكنها مع ذلك تفقدها لاحقا. إن العواقب الاجتماعية والتاريخية لهذه النظرية الفينومينولوجية كبيرة. يتساءل ليفيناس: ألا ينتهي الأمر بالإنسان، الذي تحدده ذاتية لا تحفز سوى الصيغ العامة للتفكير، إلى فقدان إنسانيته؟ ألا ينتهي الأمر إلى حجب البعد الحقيقي للمعنى، وخاصة معنى الحياة؟
- في البحث عن معنى الحياة
إن قيمة الإرث الذي “سيجلبه هوسرل إلى الفلسفة” لا تسمح باختزال مقاربته إلى جرد بسيط للعقل الذي يرتب ويصنف الجواهر أو إلى آلية شكلية تحتاج ببساطة إلى إعادة تنشيطها من أجل التفكير فينومينولوجيا. من أهم مساهماته المنهج الذي وصفه ليفيناس أيضا بأنه تقنية فينومينولوجية، تبلور نمطا من الولوج يسمح لنا بفهم التجربة دون الخضوع لنظام فكري صارم. ومع ذلك، سيكون من المرغوب فيه أن نقحم فيه شرط يتمثل في "العودة إلى ما هو أبعد" من التشييئ والتيممة النسقيين، نحو "التجربة الأساسية التي تفترضها التجربة الموضوعية نفسها"، أي العلاقة مع الآخر.
هذا الدافع قاد ليفيناس بين عامي 1961 و1963، خلال المحاضرات التي ألقاها في الكلية الفلسفية في باريس ثم في بروكسل، للبحث عن المعنى. بحث في الجوانب ما بعد الهوسرلية لهذا التفكير في المعنى، معنيا بعمق بمعنى الحياة، من خلال التأكيد بسرعة على أن المعقول بامتياز لا يمكن أن يعتمد على محتوى نظري (القول والمقول)، كما تدعي الميثودولوجيا النظرانية للفينومينولوجيا. كل معنى لا يبدأ بالمعرفة، ولا حتى بالمعرفة المسبقة المقاصدية، ولهذا السبب من الأفضل تعليق الخطاب الأنطولوجي العلمي للفلسفة مؤقتا.
وهكذا، أثناء صياغة هذه التحفظات، اتجه ليفيناس إلى طريقة الإجراء التي تؤدي من التيمة المطروحة أو الظهور المكشوف، "نحو الطرق التي نصل إليها". ليس فقط لأنه يعتبر أن وسائل الوصول لا تقل أهمية عن الظهور ("السقالات" التي تتطلبها الإنشاءات العلمية لا يمكن أن تصبح عديمة الفائدة أبدا، إذا كنا مهتمين بمعنى هذه الصروح")، ولكن أيضا لأن هذا الإجراء جعل من الممكن اكتشاف الأبعاد الخفية وراء الظواهر والتي تكشف عن معناها حتى عندما تظل الأخيرة غامضة أو غير محددة.
ومن تحليل هذا البعد ما قبل المشيئ ينشأ في نفس الآن نقد نظرانية المعنى وتحقيق فلسفي جديد يتميز عن أي موقف يطالب بنقطة بداية واعية وعارفة.
يكشف التوازن الفينومينولوجي بين قصدية المعنى التي ما تزال مقنعة كحدس مضيء عن تجاوز المستوى الإدراكي الدقيق، لكنه غير كاف وفقًا لليفيناس، الذي يرفض فكرة أن كل شيء يبدأ وينتهي بالمعطى الظاهر. يقول ليفيناس إن الاحتفاظ بالمعنى من خلال النظر هو في الأساس إجبار المعقولية على الانصياع لمعايير تقبلنا ونسيان الجانب الكامن للمعنى.
إن الكمون الذي ما يفتح، مثل صندوق باندورا، حتى يكشف عن أبعاد لم نكن حتى نشك في وجودها. في مواجهة الرؤية التي تشكل أصل المعنى النظري للعديد من مفكري الحداثة، يستحضر ليفيناس طريقة أخرى للمعنى دون الكشف عن نفسه. ولتجنب التورط في هذا الشكل الواضح من المعنى، اقترح الانتباه إلى اللاحاضر واللاممثل. مدركا أن "هذه الإحالة إلى الغياب"، مع استخدام الاستعارة كنموذج، تنتزع من الإدراك وبالتالي من القدرة الفيزيكونفسية على النظر، مهما كانت أهميتها، الدور البارع لمصدر المفهمة، مهما. من أجل تجنب أي لبس، لابد من أن نوضح أن اعتبار الاستعارة كجهة مميزة للعقلانية الليفيناسية لا يشير هنا إلى وظيفتها كصورة بلاغية تسمح للمرء بالانتقال من مقولة متميزة (مصطلح ملموس) إلى أخرى (سياق مجرد) وتعد من جهة أخرى موضوعا للتيممة. إنه يشير بالأحرى إلى تعريف الاستعارة كجهة للإحالة إلى ما بعد (العالم، النظام المقاصدي، المنطق)، الذي نستمده من أقوال ليفيناس نفسها ضمن النقاشات حول الأخلاق في "أَنَسيَّة الإنسان الآخر" وبشكل أكثر وضوحًا في "ما بيننا". ترمز الاستعارة، عند ليفيناس، إلى الإحالة إلى ما وراء المعنى الواضح؛ إنها تسمح لنا بتجاوز المحتوى الموجود إلى الفكر للبحث عن الموحى به الذي لا يتخذ شكلاً ولكنه مع ذلك يعبر عن نفسه من خلال قيادتنا نحو "مستوى" "تعالي القول للآخرين"، بمعنى نحو هذا الخط الفاصل غير المرئي الذي ينير عالمنا في ما وراء الفكر من خلال تعريضنا للمعنى العميق للبعد الأخلاقي والمتسامي. وهكذا، فإن حركة الاستعارة التي تميز الهيرمينوطيقا الليفيناسية تقتضي إحالة من الحضور إلى الغياب، مثلما يحيل كشف الوجه في اللقاء الأخلاقي إلى الله، ويمثل طريقة غير محددة بنيويا للانتقال من البديهي إلى الملغز، من المقول إلى القول ومن المحايث إلى المتعالي.
تقودنا الاستعارة من المعنى الحرفي، المستوحى من المحتويات التي تقدمها لنا التجربة (كتاب: سميك، ثقيل، مستطيل، إلخ..) والتي تضفي على الشيء طابعه الفردي، نحو المعنى المجازي الذي لا يمكن أن يحتويه أي معطى. لذلك، لا يعتقد ليفيناس، على عكس هوسرل، أنه يمكن اعتبار كل المعنى معرفة صريحة إلى حد ما اعتمادا على تحقيقها  الحدسي. فالمعنى لا يعني بالضرورة التعامل الفكري مع المحتوى المقدم للفكر، والذي يجب بعد ذلك تصنيفه حسب مستوى وضوحه وتحويله، بالتالي، إلى مفهوم واضح ومتميز. إن الدلالة تعني بالأحرى التعبير عن الذات من خلال حقل واسع من الاختلافات المحتملة من خلال إلقاء الضوء على نقطة غير محددة باستخدام هذا الخط الموجه والمفتوح الذي يقدمه هوسرل مع مفهوم الأفق.
بالنسبة لهوسرل، يظل المجال اللامتناهي للأفق – للعالم أو الوعي – دائما قابلاً للتيممة لأنه يمكن الوصول إليه بواسطة العقل. لكن، بقدر ما يتبنى ليفيناس هذا النموذج من الإحالة إلى ما لا نهاية له من الإمكانات، وإذا كان هناك بالفعل سبب للحديث عن سياق مرجعي للإلهام الهوسرلي، فسوف يكون بالأحرى سياقا مثاليا وأبديا لا يستطيع الذكاء أن يعرفه أبدا في شموليته.
انطلاقا من وجهة النظر هاته، لا تشكل الإحالة إلى الغياب في الاستعارة إلى قاعدة معطيات أخرى، بل إلى إمكانية ذات معنى تحدث دون أن نتمكن من إعادة تشكيلها عقليا لأنه كغياب، هذا البعد الأبدي الإلهي أو اللامتناهي. الذي يعطي معنى للوجود الإنساني لا يُعطى من تلقاء ذاته أبدا.
هكذا تربط هذه المساهمة الليفيناسية المعنى بعملية تحويل. فرغم أن الاستعارة، كظاهرة لغوية، لا تتقيد بمسار ثابت (تستخدم بطرق مختلفة للتعبير عن وضعيات مختلفة)، فإنها في الدور النموذجي الذي أسنده إليها ليفيناس، ترمز إلى اللجوء إلى ما لا يستطيع الفكر ضمانه. بحيث أن ولادة المعنى لا تكون مشروطة بمضمون أو موضوع حاضر، ولا بتنبؤ حكيم. إنه ثمرة حدث تحويلي وليس له أي أسبقية سوى التدفق اللامتناهي للإمكانات المهمة التي تم إدراجه فيها. باختصار، إنه تصور للمعنى لا يمكن دائما أن يقتصر على ما يمكن توقعه من خلال المحتويات الحاضرة والمرئية والمتأملة. إن إزاحة المعنى التي تعمل بها الاستعارة هي بمثابة نقطة دخول إلى مجال غير قابل للاختزال – إلهي، لا نهائي، لا زمني – والذي لا يمكن فهمه من خلال النموذج الفكري للانتقال من التمثل إلى المعرفة. وهذا لا يعني، بحسب ليفيناس، أن هذا المرجع الاشتقاقي ليس مدرجا بالفعل في العالم الكون للغة.
الخطاب، كما يقول، هو ظهور العلامات اللغوية الراسخة في زمكاننا. والحال أنه رغم واقعة أن "الكل يبقى في لغة أو في عالم"، فإن الإحالة المهمة في الاستعارة تسمح لنا بتجاوز الحالة الفكرية الفينومينولوجية للحاضر المعطى والمقدم لفهم ما لا يمكن تصوره. ومن ثم فإن نقطة البداية لكل معنى لا تقع عند ظهور معطى (الوجه المقدم للآخر) الذي يوحي بكلمة، بل في الإحالة المتكلمة، القول، إلى ما لا يستطيع ظهور مصطنع أو عقلي أن ينقله (الوجه الموحي للآخر). يقدم مفترق الطرق الفلسفي لنشوء المعنى طريقين محتملين: طريق النموذج الاستعاري عند ليفيناس الذي يربط أصل المعنى بالإحالة إلى الغياب، وطريق النموذج الفكراني عند هوسرل الذي يعزو أصل المعنى إلى عرض معطى بشكل يمكن التحقق منه.
هكذا، لتمييز النموذج الاستعاري في التعالي، وبشكل أكثر عمومية، "طريقة في العني مختلفة كليا عن تلك التي تربط الظهور بالرؤية" عن التجارب التي جرت مفهمتها وفقا للظهور المتميمم لموضوعها، يرفض ليفيناس المرادف المقترح من قبل هوسرل بين المعنى والدلالة. يظهر هذا التمييز بشكل خاص في "أَنَسيَّة الإنسان الآخر". ومع ذلك، رغم اللبس الاصطلاحي لهذا التمييز في كتابات ليفيناس اللاحقة (خاصة في "خلافا للوجود أو ما وراء الماهية )*، فإن محتوى صرامة فلسفته يكشف عن العقلانية المطبقة في الانتقال من هوسرل الفكراني إلى أخلاقيات ما قبل نظرية. اقترح ليفيناس، مثل هوسرل، مقاربة جديدة، لكنه، على عكس هوسرل، لم يقترح صياغتها من خلال المعرفة.
بدلاً من البحث، كما هو الحال في الفكر الغربي المعاصر، عن معيار المعقول في الأفق التعددي للمعرفة والمجتمعات من خلال تعيين مبدإ موحد جديد غير تمييزي في كل مناسبة (الحاجة، العلم، الوجود أو الله في خدمتنا)، راهن ليفيناس على طريق خالٍ من أي غائية ومن أي افتراضات ثقافية أو نظرية. هكذا دعا البحث عن المعنى، خارج أي سياق للتفسير، إلى توجه جديد ومقاربة جديدة لمعنى الحياة غير متوقف على التباين الجوهري للدلالات. ولإثبات ذلك، أقام ليفيناس علاقة صارمة بين الدلالة والتفكر من ناحية، وبين الحس والتوجه من ناحية أخرى. وتتحدد هوية المعنى بالإحالة إلى متلق مجهول يرث الاستكشاف الفينومينولوجي لآفاق غير متوقعة ولكنه يحدث انقطاعا في الفكر بفكرة ظهور غير مكون بطبيعته، في حين أن هوية المعنى تتحدد بمؤسسة منطقية تعترف بحصة تأثير السياق الملموس (التاريخي، الثقافي، الاقتصادي، الخ..) والتي هي، كما تقتضي الظاهراتية، جزء من عالم متعدد المعاني:
"ألا ينبغي منذئذ أن نميز، من ناحية، الدلالات، في تعدديتها الثقافية، ومن ناحية أخرى، ابمعنى، وجهة ووحدة الوجود، الحدث البدائي الذي تأتي لتوضع فيه جميع التمشيات الأخرى للفكر وسائر الحياة التاريخية للوجود؟"
عبر هذه المقتضيات المختلفة، قدم ليفيناس مستويين متكاملين من الدلالة: مستوى الدلالة أو المقول الذي يتم إنتاجه كوظيفة للمفهومية (تترجم في تحليل هوسرل على أنها مصادفة بين القصد والحدس)، ومستوى المعنى، القول أو المعقول الذي يتولد من فيضان القدر التأملي من خلال فتح وميض على عالم التعالي الساحر وغير المرئي . وهكذا، فإن التوجه الجديد الذي قدمه ليفيناس بفضل فكرة المعقول يسمح ببديل للمقاربة النظرية لأنه يجردنا من المعطى، من الآن، من التعددية وحتى من الدلالة التي تحول دون رؤية أبعد. في الواقع، إنها تحجب هذه الخلفية التي تعطي معنى لكل شيء.
مثل الإحالة الاستعارية، ترتب تقديم التوجه الجديد عند ليفيناس، عن فيضان المستوى المباشر للبنية الأنوية/الانعكاسية للأفق القصدي الذي يقود إلى السياق القبتفكري الذي ينبثق منه المعنى. هذا السياق الدلالي لا يتكيف بشكل متعالي كمصدر للتأمل، بل كمصدر للحكمة. هذه الحكمة لا يفهمها ليفيناس باعتبارها وحدة العلم وفقا للعصور اليونانية القديمة، أو المعرفة الكاملة وفقا للعقلانيين، أو باعتبارها "أحاسيس من عمق" عقولنا تتطلب تحولا إلى "أشكال واضحة وعقلانية" وفقا للظاهراتية الهوسرلية. بل ككلمة إلهية ذات نفحة أخلاقية. على عكس أولئك الذين يؤيدون التماسك العقلاني والصروح التأملية الصارمة، لم يقلل ليفيناس من شأن فوضى اللاعقلاني وغموض ما هو مخفي، وبالتالي سعى إلى توسيع نطاق الطيف الفلسفي إلى ما هو أبعد من الثبات النظري. يتمثل تمشيه في حرف تركيز النظرة المتأملة لأجل تجنب السقوط في كهف اللوغوس والوصول إلى المخفي في مكان آخر. ولكن مم يتكون هذا المعنى المخفي؟ وكيف ننظر إلى التوجه الجديد القبتفكري الذي يؤدي إليه؟
- المعنى كتوجه جديد نحو الآخر
يتم تحقيق تجاوز مثال المعرفة، وفقا لليفيناس، في خطوة التوجه الذي يؤدي إلى الكشف عن المعنى العميق.
إن الاختلاف الذي يقدمه عرضه هو بمثابة خط فاصل بين المسار الذي يستهدف العالم والحركة التي في اعتباطيتها ترتقي إلى ما يتعالى على العالم. إنه توجه بلا وجهة ودون إمكانية تحديد ما يوقفنا، مثل الكشف عن وجه الآخر. إنه يتوقف، لكنه، في الوقت نفسه، ينتج إضاءة معينة تسمح بالتقدم. وبالتالي فإن الأمر لا يتعلق بظاهرة سطحية، بل يتعلق بالارتفاع أو ب"الزخم". تماما مثل الاستعارة، يشير هذا التوجه، عند لفيناس، إلى الإحالة إلى ما ليس له جاذبية ولا غائية، لكنه مع ذلك يدفعنا إلى الاعتراف بوجود طريقة أخرى تكشف عن معنى وجودنا غير تلك القائمة على التحديد والاعتراف. تتضمن هذه الجهة توجها متناقضا: ليس التوجه الذي نمنحه لأنفسنا، بل ذلك الذي نتلقاه من الآخر. إنها لا تسمح لنا بمعرفة طريقنا ولكنها مع ذلك تحافظ على معنى هذه الرحلة التي تكشف الرهانات الكبرى في حياتنا. ولكن هل حركة بلا توجيه هي التي تكشف لنا عنه؟ هل تيهان بدون غاية وبدون معايير موضوعية من شأنه أن يكشف لنا ما كان دائمًا وفي كل مكان هو المعنى الحيوي.
في غياب المعايير الموضوعية لنسق منطقي يعمل كنقطة انطلاق، يتبين أن طريق المعنى الذي يقترحه ليفيناس غير موجه بإرادة الاقتراب من عنصر مرغوب فيه، بل بل بانجذاب إلى شيء غامض. ما لا يمكن تصوره عند هوسرل يصبح ممكنا عند ليفيناس لأن ما يعبئنا لا يأتي مما هو مرغوب فيه بعد أن يتم تحديده كهدف، بل من المجهول بامتياز، مما لا يمكن تصوره جوهريا. مثل مغامرة ملك إيثاكا الأسطوري في قصص الأوديسا، فإن التوجه الليفيناسي هو رحيل غير مقرر دون تصميم ثابت يكشف مصيره غير المتوقع عن المعنى العميق. لكن على عكس رحلة عوليس الذي "لم تكن مغامرته في العالم سوى عودة إلى جزيرته الأصلية" بحسب ليفيناس، فإن المسار الحر لهذا التوجه الجديد لا يسمح لنا بتسجيل نهايته منذ البداية أو نتيجته منذ البداية.
يرى ليفيناس في مسلر التوجه الذي يتمثل في
"الذهاب نحو" من أجل القدرة على العودة إلى نقطته الأصلية، حركة نسميها ثنائية المعادلة ل"خط السير" المتنازع عليه بشدة في
الفلسفة المعاصرة، التي ليست إلا تحقيقا للتنبؤات، بلتوقعات وللتفكير الذاتي. ينصب هذا النقد أولاً على الفلسفة التأملية، ثم يعمم على فلسفة عصره في مجملها:
"المعرفة الفلسفية ما قبلية: فهي تبحث عن الفكرة الملائمة وتضمن الاستقلالية. وفي كل مساهمة جديدة، تتعرف على البنيات المألوفة وتحيي المعرفة القديمة. إنها أوديسا لا تكون فيها كل المغامرات سوى حوادث العودة إلى الوطن".
الرحيل من أجل العودة يعني إرادة إعادة اكتشاف عقلانية ما تم التفكير فيه سابقا من خلال منع العودة الجذرية إلى المعنى الأصلي (المعقول). في مواجهة تقليد معين في الفلسفة، يرفض ليفيناس إخضاع بحثه عن المعنى لأي شكل من أشكال التكييف المسبق الذي يمنعه من اكتشافه بحرية. إنه يريد تحرير التمشي الفلسفي من أي نقطة مرجعية سابقة ــ سلطة أو تشريع ــ من شأنها أن ترشده وبالتالي تلقي بظلالها على عفوية إيحاء دلالي قد يظهر خلال المسير. إن الجدة التي أتى بها، رغم كونها موضع شك نظرا للافتراض الذي تتمسك به فلسفته الخاصة، تتمثل في تقديم اتجاه خالٍ من أي قبلية مقاصدية أو متعالية أو حتى أنطولوجية، كدعم لهذا المسار. وهكذا لم ينصب نقده على مقاربة فلسفية معينة؛ مقاربة الفكرانيين الذين يشتغلون على ضوء المثل الأعلى للمعرفة بينما ينسون أن الحياة تسبق المعرفة، أو حتى مقاربة اللافكرانيين مثل هايدجر الذي يعترف بأن الوجود يسبق الفكر لكنه يستمر في اعتبار كل لحظة نختبرها في تجربتنا وسيلة للاحتفاء بالوجود الأساسي.
من خلال محاولته التأجيل الجذري، ناقش ليفيناس النموذج الثنائي للفلسفة المعاصرة بشكل عام والذي يتمثل في الذهاب نحو الغير (العالم، الآخر، اللانهائي) من أجل العودة إلى النفس (الكوجيتو، الذات، الوجود) وفق نهج وتطلعات لا تخلو من دوافع خفية. عدم القدرة على العمل إلا وفق ما تم التخطيط له، المضي قدما على أمل العودة لتأكيد التوقعات، الذهاب نحو المجهول - الغيرية بالمعنى الواسع - فقط من أجل تأكيد ما تم افتراضه قبلا، لا يتوافق مع مسعى مفتوح ولكن مع مجرد جيئة وذهاب.
لكي يكون للأشياء معنى، يجب تحديدها. لكن للبحث عن معناها الأصلي، من الضروري، كما يعتقد ليفيناس، اتباع النموذج الأحادي لمسار "الوحدة": أي الانفتاح دون حتمية العودة. وحده التخلي عن كل تبادلية في التوجه الذي يتقدم دون أي بنية داعمة، بصرف النظر عن الجذب غير الانعكاسي الذي تكتشفه الذات داخل نفسها، يمكن أن يؤدي إلى مكان المعنى ذاته. إن استجواب ليفيناسي لهذه الحركة المترددة وغير العقلانية، المقترحة كبديل للمسار المدروس للفلسفة المعاصرة، يهتم أيضا بالخفة غير المستقرة للرحلة التي تمر عبر الغريزة العمياء:
"ولكن هل يجب أن نتخلى عن المعرفة والدلالات للعثور على المعنى؟ فهل التوجه الأعمى ضروري لكي تأخذ الدلالات الثقافية معنى فريدا ولكي تجد وحدة المعنى؟ ولكن ألا يمثل التوجه الأعمى النظام الغريزي وليس البشري حيث يخون شخصي رسالته كشخص من خلال استيعاب نفسه في القانون الذي يضعه ويوجهه؟ أليس من الممكن إذن أن نتصور في الوجود توجها – معنى – يجمع بين الوحدة والحرية، وهذا على الأقل هدف التحليل الذي نقوم به”.
إن مغامرة المعنى بحسب ليفيناس ليس لها موضوع معروف ولا خطة مبرمجة.
وللعثور على الحبل السري الذي يربط الدلالات المتعددة، المرتبطة ببعضها البعض حسب الاختلافات الثقافية والاجتماعية والتاريخية، فإنه يدعو إلى إجراء مشترك يبدد بعالميته خطر إنكارها. وبالتالي فإن عرض التوجه هو أيضا عرض اليقظة القادمة من الإلهام الذي لا يوصف بالملاءمة الفكرية التي تطالب بها الظواهرية ولكن من خلال جانبين يجب تذكرهما: القبتفكرية والتوحيد. بدلا من افتراض أن المعقول يُعطى في عملية فحص وجود شيء ما، ومظهره وإمكانية التحقق منه، أو حتى في كشف الوجود ، يفضل ليفيناس مسارا جذريا ومتحررا لكل هذه الشروط. إنه يقدم طريقا بلا وصفة لا تحدده مبادئ العقل الموضوعي، ولا يخضع لتأثير الوجود أو للاندماج في طريق وجودي مقدر بحتمية الموت (الوجود من أجل الموت وفقا لهيدجر)، والذي لا يتعلق أبدا برسالة صووفية.
بدون استراتيجية وبدون قيادة، يفسر ليفيناس التوجه الجديد على أنه خلق "عمل" يتصرف دون ضمان المكافأة المخصصة لأولئك الذين ينتصرون في النتيجة. يتعلق الأمر بمقاربة “لا تدخل في الفراغ” لأنها بهذه الطريقة “تفقد توجهها المطلق" بل بالأحرى بالتزام دون أي هدف واضح. إن الوصول إلى الدلالة يتطلب الصبر والسخاء والتفاني لأن "الدفع إلى الحد الأقصى يعني بالنسبة للفاعل: التخلي عن المتزامن مع النتيجة، التصرف دون الدخول في أرض الميعاد". ولكن من يريد أن يسلك طريقا لا يقوده إلى أي مكان خلال حياته؟ ما الذي يحفز مغامرة مجردة من بعض الإشباع، مع المخاطرة باكتشاف المعنى الأعمق بعد فترة طويلة من وفاتنا، في أوقات وأماكن أخرى؟ ما سبب هذا الانفتاح المليء بالتضحيات؟
بالتأكيد ليس الأمل في سيادة الإنسان وانتصاره على العالم، ولا الرغبة في الوقوف على أرض صلبة من العقل حيث يتم وضع كل شيء وفقا لإمكانية تحويله إلى معرفة. فهي إذن ليست مبادرة خاصة بالموضوع، بل هي دعوة آتية من الآخر، من إلهام خارجي، تثير هذا الانطلاق. يبدأ التوجيه حيث تتخلى الذات عن كل تخطيط لأفعالها وتستجيب لاستدعاء خارجي في فعل حر تماما وصفه ليفيناس بأنه شعائري. ومن خلال تمييز الشعيرة عن "أي معنى مستعار من أي دين إيجابي"، يعرّفها ليفيناس على أنها خطاب محايد إلى إله يمكنه دائما أن يظل أصم عن صلواتنا. لكن هذه الإشارة لا تحول التوجه إلى حركة دينية، كما يريد البعض أن يعتقد. إنها تكشف عن روحانية تتمثل في التوجه نحو المجهول والعمل من أجل الأشياء البعيدة دون توقع أي شيء في المقابل. هذا "الذهاب نحو" لا يتضامن مع العبادات الدينية، ولكن يتم تحديده فقط بالمجانية التي توجه أيضا التكريس لإله غير متسول وغير مُرضي.
ومن هنا إلى الاعتراف في هذا التوجه بتعبير أخلاقي، فإن الطريق قصير إذا لأن هذه الحركة بمجانيتها تجسد "الأخلاق نفسها". أينما توجهنا نحو الآخر دون عناد في معرفة ما نبحث عنه أو ما الذي سيحدث أو ما الذي سنستفيد منه، في فعل نبيل مثل التصرف دون حساب مع التعرض لخطر محتمل، هناك سبب للحديث عن التوجه الأخلاقي. ومن خلال نبذ القطبية الثنائية التي تميز الاكتشاف التأملي للدلالة، فإن الإنسانية، وفقًا لليفيناس، لا تجد معناها الأساسي فحسب، بل تجد أيضا أملها. إن الإنسان الذي ينخرط في الحركة الحرة لـ "مجانية العمل الكاملة - المجانية المتميزة عن اللعب"، يرفع الإنسانية إلى مرتبة الطموح الإيثاري: العمل لوقت آخر (الأجيال القادمة)، من أجل الآخرين، وبالتالي من باب اللطف الخالص. في ومن خلال تحريضات التوجه الجديد، نكتشف أن المعنى العميق لحياتنا يتمثل في إعطاء أنفسنا دون قيد أو شرط لغيرية أخرى غير معروفة. هل تم وضع المعقول الآن في مكان لا يمكن الوصول إليه؟
لا، لأن الدال في الحركة وليس في النتيجة. كما هو الحال مع الفينومينولوجيين، يتم الكشف عن ذلك في "الذهاب نحو". ولكن على عكس قصد الوعي الذي يتجه نحو الآخر من خلال استهدافه لتشكيل معناه، فإن المعنى العميق ينكشف، بحسب ليفيناس، دون دعم تحليل مضيء أو قصد يضعه في منظور مكتشف. وبسبب طبيعة ظهوره المفاجئة (بعد انكشاف غير متوقع لوجه الآخر وفقا للمثال المتكرر الموجود عند ليفيناس)، فإن المعقول يعطى في الواقع بطريقة ما قبل قصدية للدلالة التي تسبق فهمه لأي تأويل، رغم أن الفهم الإضافي للوضع ممكن دائما. وهكذا فهو يعطى، في نظرنا، على المستوى القبتفكري الذي يتم التقاطه مرة أخرى على المستوى الأخلاقي، الثاني، في العلاقة مع الغير، وأخيرا على المستوى الثالث، المتعالي، في العلاقة مع الله اللامتناهي الذي يسبق عصرنا ووجودنا. لا مرغوبا فيه ولا مستهدفا، تندرح الغيرية "المرغوب فيها" في "علاقة لا تصبح بالتالي ارتباطا"، إذا كان من الممكن التحدث عن علاقة، نظرا لأنه "من خلال اختلافها غير القابل للاختزال، [إنها] ترفض معرفة متيممة". إنها جاذبية الرحمة الخالصة التي تغذي حركة ترك الذات للاقتراب من الآخر. الرغبة في المجهول والتي في حد ذاتها كافية للعودة إلى معنى المعاني: "إن الرغبة في الآخر التي نختبرها في التجربة الاجتماعية الأكثر تفاهة هي الحركة الأساسية، التحويل الخالص، التوجه المطلق، المعنى". إنها في الواقع يقظة في وعينا المعرفي يبرهن عليها ليفيناس من خلال موضوع الكشف عن وجه الآخر الذي يتحدى الذات، ويهزها إلى درجة الفوضى الكاملة لكل قصد. هذه التجربة النموذجية للأخلاق من شأنها أن تحطم بشكل نهائي الأمن المنطقي، منتصرة على الميل إلى التدقيق في أي تأثير خارجي، لأنه من خلال ظهور وجهه، يعطل الآخر الصيانة المستمرة للأجهزة الداخلية التي تضمن الانتقال من تدخل خارجي إلى يقظة مفكر فيها. ثم يبرهن عليها بموضوع التعالي الإلهي الغائب وغير المرئي، الذي يتلألأ بهذا الوجه في لحظة اللقاء الأخلاقي، والذي يجسد الإحساس الذي لا يمكن لأي منهجية أن تقهره.
لذلك يحق لنا أن نقول إنه بعد تحديد الظواهرية والاعتراف بالدور المهم الذي يلعبه منهجها، فإن هذه هي العودة الحتمية نحو ما لم يعد الفكر قادرا على قصده هو ما يدافع عنه ليفيناس. إن إعادة توجيهه الفلسفي تقدم في الواقع تجاوزا لوضوح الذات المتعالية من خلال التعالي الموصوف في المصطلح الروحي "الارتفاع" والذي تم تأسيسه بالفعل في عالمنا. إن الظهور المفاجئ لهذا التعالي يحدث على وجه التحديد في التجارب القبتفكرية للحياة عندما تصل التجربة الفينومينولوجية للذات إلى حدودها، لتستجيب “لما لم تحسبه مقاصدها”.
هكذا يبدو الفصل بين سجلات المعنى والدلالة أكثر استدلاليا من كونه انقساميا نظرا لأنه يندرح في كلية (ليست كلية بالمعنى الهيجلي للكلمة)، مما يسمح لـ "المعقولية الأولى" بالظهور غير القابل للتيممة والذي يجسد معنى المعاني في حياتنا النشطة والواعية. وهكذا، بقدر ما يتسارع ظهور التيمات،ىبقدر ما يبدو أن الهيرمينوطيقا الليفيناسية تشكل مجالا جديدا للمناورة الفلسفية. ومع إدخال البعد ما قبل النظري، نكتشف توجهاً يؤدي إلى المعنى العميق لوجودنا، متجاوزاً البعد النظري الذي لا يعطي معنى إلا على أساس الارتباط بين كلمة وكلمة، أو بين ذات وموضوع. وهكذا يوسع ليفيناس سؤال "إلى أين نذهب" إلى ما هو أبعد من الاهتمام العقلي البسيط، من خلال الكشف عن بُعد ما قبل نظري أكثر جوهرية يكشف عن هيمنة الآخر (الإنسان ثم الإلهي) على الذات التواقة إلى المعرفة. ما يثير الصعوبة الأساسية التي يفرضها ربط الأخلاق الأولية بالمنهجية النظرانية. في الواقع، إن طرح ليفيناس لتوجه جديد يمكن أن يؤدي إما إلى تجاوز أو إلى قطيعة مع الوساطة النظرانية، وسيكون من الضروري معرفة ما إذا كان التغيير المطلوب للانتقال من المقاربة التفكرية إلى المقاربة القبتفكرية يأخذ شكل صدع أو استمرارية فلسفية، ومن ناحية أخرى، ما إذا كان فكر ليفيناس يدعي فعليًا أنه يجب علينا الاختيار بين المقاربتين لتحديد علاقتنا العميقة بالحياة.
__________________
(*) تجدر الإشارة إلى ان الأستاذ رشيد النفينف انجز عن هذا الكتابة قراة قيمة يمكن الولوج إليها رقميا دون أدنى شرط مسبق.
المرجع: https://www.cairn.info/revue-internationale -de-philosophie-2006-1-page-35.html

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟