الواقع واللغة - التعبير القاصر
اللغة في تعبيرها الفكري عن الاشياء والموضوعات دائما ما تكون قاصرة عن الاحاطة والتطابق التكاملي مع ما يدركه الوعي والفكر من تلك الموضوعات في وجودها الحقيقي الواقعي، والفكر والموجودات يبقيان مختلفان من حيث علاقة التفاوت في ترابط الفكر- اللغة بالموجود في حقيقته...ويبقى الفكر الأدراكي عاجزا عن استيعاب الوجود تماما الذي يبقى على الدوام محتفظا بما يراه مدّخرا فيه كفائض معنى غير مكتشف ولا مدرك في العديد من الجوانب المحجوبة عن الادراك الحقيقي للموجودات والظواهر.. الوعي الادراكي الحسي للموجودات وتناول العقل لإحساسات تلك الموجودات الواصلة اليه ليس شرطان كافيان للتسليم بحقيقة الاحاطة والالمام الكامل بتلك الموجودات..فالواقع الحقيقي للأشياء يختلف عن الوعي الادراكي لها والتعبير عنها بمنطق ولغة العقل..
القديس أنسلم 1033 – 1109 كان وصف هذا التفاوت في القرن الحادي عشر بين تعبير اللغة القاصر عن الاحاطة بالأشياء المدركة قائلا ( أن وجود شيء ما في الذهن فقط هو أدنى من وجوده في الواقع) وهو تعبير دقيق في تشخيصه الحالة التي تكلمنا عنها، فالعقل لا يستطيع أدراك الوجود على حقيقته في تطابق الشيء مع دلالة الفكر - اللغة في التعبير عنه تماما.. فالعالم المدرك بمكوناته وظواهره التي لا تحصى ولا تحد لا يقف الوعي بها وأدراكه لها عند حدود تفكير العقل وتعبير اللغة عن بعضها. فالعالم بلا محدوديته كفضاء يستوعب الطبيعة والانسان أكثر مما يستطيع الانسان والعقل واللغة أستيعابه والأحاطة به..
فالعالم بما يحتويه من موجودات لا حصر لها هو فضاء لا متناه لا تحّده عقولنا المحدودة الادراك ولا اللغة المعبّرة عنه في كل أشكال تمّثلاته الذهنية.. ويعتبرلودفيج فينجشتين أن حدود اللغة عند الفرد التي يعبّر بها عن العالم هي ذاتها حدود أدراكه وفهمه عالمه بما يستطيع الإحاطة به من خلال تعبير الفكر - اللغة عنه....لذا فهو لا يستطيع فهم وادراك العالم ليس على حقيقته وحسب وأنما حتى على صعيد عدم معرفة مكوناته وظواهره اللامحدودة.
ونخلص أن أدراك موجودات العالم بتصوراتنا الذهنية اللغوية هي وحدها تكون حدود معرفتنا العالم ولا يمكننا الاحاطة التامة بحقائق موجودات العالم من خلال لغة التعبير عنها فقط....وما يخرج عن هذا الإلمام المعرفي المتقّطع المجتزأ من العالم الذي لا ندركه كاملا بمجمله تماما يكون هو الوجود الحقيقي الذي نجهله في معظم تجلياّته المحجوبة عن الاحاطة بها إدراكيا من قبلنا....ويبقى عالم الموجودات محتفظا بحقيقته الجوهرية التي لا تدركها محاولاتنا معرفتها مرارا وتكرارا..ولا يعني هذا أن ما لانستطيع أدراكه بالفكر والتعبير عنه باللغة غير موجود فهذه ابتذالية ساذجة في التعبيروالفهم قبل ابتذالية عدم أدراكنا الوجود على غير حقيقته.
بهذا المعنى نجد نيتشة كان مصّرا على وجوب الاقرار بحقيقة أن اللغة لا يمكن أن تكون غير مجازية في تعبيرها عن المدركات دائما.. عليه اللغة تعطينا صفات الاشياء المدركة خارجيا ولا تعطينا الواقع في حقيقته كما نرغب معرفته... لذا تكون إدراكاتنا للأشياء خادعة ليس من الاحساسات الواردة عن طريق الحواس وحسب بل خادعة منقوصة أيضا في لغة الادراك التعبيري عنها فكريا بالوعي..
وعلاقة اللغة بالعالم حسب فرديناند سوسير هي علاقة أعتباطية لا تدل على الواقع تماما.. ونفهم من هذا أن اللغة في الوقت الذي نجهد فيه أنفسنا أن تكون معبّرة تعبيرا صادقا عن مدركاتنا تماما، نفاجأ أن اللغة لا تستطيع التعبير بأكثر مما هو متاح أدراكه لنا وتعبيرها عنه من تلك المدركات.. ومن أدراكنا بعض موجودات هذا العالم غير المحدود بمحددات مجتزأة وقطوعات غير مترابطة منه لا علاقة بينها تجمعها في إدراكاتنا لها..
أننا لا نستطيع أدراك موجودات العالم دفعة واحدة كما نرغبه كون الوجود فضاءا أكبر من مداركنا وحدود عقولنا..فمثلا بسيطا نحن نرى شجرة واحدة أو عدة اشجار في غابة لكننا لا نستطيع رؤية الغابة وأدراك موجوداتها من الاشجار وغير الاشجار من كائنات وموجودات دفعة واحدة من خلال حاسة البصر وحدها ونحن واقفين في مكان محدد من الغابة لا نبرحه ولا نغيّره.
أننا غالبا ما نتناسى حقيقة أن الافكار لا تأخذ كامل مدياتها في التعبير عن مدركاتنا الاشياء وتمظهرات العالم من حولنا كما هي على حقيقتها في الواقع بسبب محدودية أدراكنا لتلك المدركات ومحدودية التعبير عنها لغويا من جهة..وفي عجز العقل الألمام بها كاملة من جهة أخرى وقبل ذلك قصور حواسنا..
الفيلسوف الانكليزي والترسكوت 815 - 877 يعتبر الواقعي ليس هو كل ما نستطيع التفكير به أو حوله.. بهذا المعنى نذهب الى أن جميع أفكارنا عن الاشياء مجازات من التعبير اللغوي كما عبر عنه نيتشة لتصورات ذهنية بعضها مستمد من تمظهرات الواقع العصّي على أستيعاب اللغة له في حقيقته الماهوية الانطولوجية..
وبعضها الآخر يكون أكثر تعقيدا في عجز التفكير الذهني التعبير عن موضوعات أدراكه غير المادية في العالم الخارجي ونقصد بها مواضيع الادراك الخيالي المستمدة من خزين الذاكرة..فالخيال الذي هو نتاج الفعالية الذهنية الخيالية أوسع فضاءا من أمكانية اللغة التعبيرعنه وإمكانية الفكرالإحاطة به... فعجز اللغة الاحاطة بالمدركات المادية في الطبيعة يكون مضاعفا مئات المرات في عجز اللغة التعبيرعن مدركات المخيّلة المستمدة مواضيعها من الخيال والذاكرة..خيانة اللغة في عجزها أو في مخاتلتها التعبير عن الخيال العقلي هي أكثر بكثير من خيانة اللغة التعبير عن الواقع المادي..
الذرائعية والصدفة
المفارقة التي غالبا ما نمرر الكثير من الافكار غير المستوفية شروطها المنطقية بنفس المنهج البراجماتي (الذرائعي) الذي يحاول تطويع وسائله التعبيرية لمقتضيات النتائج المتوخاة المطلوبة من حيث أن المنهج البراجماتي لا يهمه كيفية تناول الافكار بالفهم والمعرفة ماديا أو مثاليا بقدر أهتمامه بنتائج تلك الافكار عملياتيا في التحقق من صحتها بالتطبيق الذي يحقق منفعة.. وليس بما تحويه من أتساق نظري فلسفي منطقي متماسك ظاهريا بما نرضى عنه.. ..فالمنطق الفلسفي هو نظريات مجردة لا يمكن الركون لها والأخذ بصحتها ألا من خلال التطبيق العملاني لها بحسب المنهج الذرائعي في المعرفة..
وغالبا كما أوضحناه في سطور سابقة تكون الافكار المجردة النظرية موضع ريبة وشك لا تفي التعبير الفكري اللغوي حقّه من الاستقامة المنطقية والصدق والتي تحمل تناقضاتها بأحشائها الداخلية التي نلمس بعضها تصدر على لسان فلاسفة الذرائعية الامريكية وليم جيمس وتشارلز بيرس وجون ديوي وآخرين جاؤوا من بعدهم.. فتشارلز بيرس يبيح (أن يكون العلم يقبل المصادفات) وهو تعبير يمكن القبول المحدود به أذا ما أخذنا توالي بعض الصدف في سياقها العلمي الصرف وضمن اشتغالات العلم التخصصية التجريبية، ولكن يصعب تمرير هذا الفهم بمنطق المنهج الفلسفي البراجماتي الذي يرى صدقية وسلامة أفكارنا أنما تكون من خلال مرورها من مصفاة مرشّحات وفلترة التجربة العملانية في تحقيق النتائج المطلوبة المتوخاة من الافكار..،، والا كانت تلك الرؤى والنظريات والافكار لا قيمة ولا معنى لها..
الماركسية أرادت أنقاذ التاريخ الانثروبوجي للإنسان من ورطة عشوائية الصدف الذي لا ينتظمها التفسير الواقعي المادي الحتمي في صنع التاريخ فعمدت الى ربط الصدفة بالضرورة التطورية الحتمية التي تحكم مسيرة التاريخ حسب ما تذهب له..لذا حسب الماركسية تكون الصدف التي تحدث في حياة الانسان بما لا يحصى أنما تحكمها الضرورة والهدف المسبق الذي يعمل على تسريع تقدم التاريخ الى أمام بدلا أن ترجعه الصدف غير المتوقعة الى الوراء أو الوقوف.. وهو ما يحتاج لتفسير يحدد لنا تأثير الصدف المتتالية في صناعة التاريخ من دون أي أرتباط لها بالضرورة.(نحيل القارئ الى مقالتنا المنشورة على موقع المثقف ومواقع أخرى تحت عنوان وهم نهاية التاريخ).
والمصادفات في التاريخ والسيوسيولوجيا هي وقائع ربما ندركها على نطاقهما الانثروبولوجي والمعرفي بأكثرأهمية ووضوح وجلاء عنه في مجال العلم التجريبي التخصصي من حيث صرامة التجارب العلمية في المعرفة بالقياس لانفتاح المجال السوسيولوجي المتاح لتمرير المصادفات على أنها من طبائع الامور بالحياة الاجتماعية التي تحكم الحياة وتحكم التاريخ الانساني معا،،...فالمصادفات هي وقائع ندركها في واقع الحياة اليومية على صعيد السيسيولوجيا ولا نتقبّلها أن تلعب دورا كبيرا في مجال العلم التجريبي بل ولا قيمة علمية لها – اي للمصادفات - باعتبارها أستثناء تشذ وتخرج عن القاعدة العلمية المستنبطة من سلسلة التجارب العلمية والنظرية في نسقها العلمي المتماسك،،
والمصادفات لا تصلح أن تكون مواضيع غير حدسية قبل توّقع حدوث وقوعها..كما أن حياة الانسان يغلب عليها توالي الصدف التي لا يستطيع درءها أو معرفة زمن وقوعها ولا يمتلك أرادة دفعها عنه،، فالصدف تكون خارج التوقعات وخارج أرادة الانسان التحّكم بها... أن دور المصادفات العفوية اللاضرورية تلعب دورا كبيرا في تصنيعها لحياة الانسان والمجتمع من غير أرادتهما، وليس تصنيع الانسان لحياته بإرادته القاصرة التي تتلقى عشوائية الصدف بلا حول ولا قوة لمنعها أو أيقافها..فالصدف غالبا ما تقوم بصنع حياة الانسان ولا يتمكن من لإيقافها بإرادته فهي تعمل بغير وبمعزل عن أرادة الانسان وتوقعاته لها..وكذا الحال مع المصافات غير المتوقعة التي تصيب المجتمعات وترسم الكثير من تاريخها دونما أرادة مجتمعية لها..
الميتافيزيقا والذرائعية
ونعود لنمضي مع بيرس الذي أعتبره وليم جيمس الاب الروحي للفلسفة البراجماتية التي أعتمدت كثيرا على أفكار دارون التطورية وأفكار لامارك في بيولوجيا تطور وظائف الاعضاء عند الحيوان والكائنات الحيّة في الطبيعة، أيضا على أعتبار قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الاصلح نزعة علمية في تفسير الحياة على أسس من أستقراء بيولوجي - أنثربولوجي متماسك الحلقات تقريبا بالنسبة لخصوصية كل عصر..كما أعتمدت الذرائعية منجزات العلم التجريبي غير النظري والدفاع عنها رغم ما شابها الكثير من أفكار الميتافيزيقا عند بيرس - وليم جيمس..يوضّح بيرس قائلا: (الذرائعية أو البراجماتية ليست عقيدة ميتافيزيقية ولا هي تحاول أن تحدد حقيقية الاشياء، أنها ليست سوى منهجا لتقرير دلالة الكلمات والمفاهيم المجردة )(1)
هذه الافكار لبيرس على مقدار ما تحمله من فتح جديد في تأسيس الفلسفة الذرائعية الى أنها لا ترقى الى مستوى طروحات وليم جيمس الناضجة فهو لا ينكر أن تكون الذرائعية منهجا عملياتيا يلاحق الافكار كي يتحقق من جدواها بالتجربة والتطبيق وهي وأن التقت بتعبير بيرس وديوي مع الذرائعية منهجا لتقرير دلالة الكلمات والمفاهيم المجردة بالتجربة ونتائجها، ألا أن جيمس نجده يسقط بورطة ميتافيزيقية أكثر أستهجانا من بيرس قوله : (أن أرادة الايمان تشكل حاجزا على مبدأ الذرائعية التي يكون فيها الله وليس المنهج هو المبدأ الاول والاخير لمعرفتنا دلالة الافكار في تعالقها مع معرفة الاشياء)(2)... وهو تعبير ميتافيزيقي غيبي يحاول جيمس التشبث به لتحقيق ما يعجز أثباته بقواه وقدراته الفلسفية، كان بيرس حذّر منه قوله الذرائعية ليست ميتافيزيقا كما ذهب جيمس نفس المنحى لكنهما بالمحصلة لم يكونا كليهما حذرين بما فيه الكفاية من الانزلاق في التعابير الميتافيزيقية التي وقعا بها،وهوما يتعارض مع المنهج البراجماتي العملاني والنسق الواقعي للذرائعية بالصميم..
الحقيقة التي لا تقوى الذرائعية نكرانها أو التخلص منها هي رغم ما يبدو في صلب فلسفتها من منهج صارم يقوم على تجريبية واقعية تطبيقية ألا أن أفكار فلاسفتها الثلاث بيرس وجيمس وديوي لم يتخلصوا من نزعاتهم المثالية، فهم في الوقت الذي لا ينكرون وجود العالم الخارجي المستقل الا أنهم يلتقون مع المثالية الابتذالية في معالجتهم العالم المادي من منطلقات ميتافيزيقية مثالية هم أيضا..أن الشيء المهم الذي يحسب للذرائعية الامريكية هو تغطيتها نزعتها المثالية في تسويق مقولتها التي تقوم على أن صدق وصوابية الافكار والنظريات لا يتم ألا من خلال المرور بفلترة تلك الأفكار بالتجربة والوقوف على نتائجها التطبيقية..
الحقيقة البراجماتية التي يجمع عليها جيمس وديوي ليست هي الفكرة المجردة التي لم تمر بمختبر مصفاة ترشّح وفلترة التجربة لها التي هي وحدها تجعل من الافكار وقائع ميدانية عملانية تعطي مردوداتها ونتائجها في تحقيق المنفعة وتخدم قيم تقدم الحياة العامة..فكيف يربط وليم جيمس بين وجود الله ومعرفتنا الاشياء كونه العّلة الاولى في معرفتنا حقائق الاشياء؟ كما أن الذرائعية تدين الاتجاه الذي يرى في الافكار المجردة أنها تعطي دلالاتها التامة من خلال أحالتها على أفكار أخرى مجردة هي الاخرى لم تكن أخذت فرصتها الاختبارية التجريبية للتأكد من صحتها كي تصلح أن تكون معيارا مرجعيا مقبولا لجعل الافكار المجردة المضافة لها التي اكتسبت منها الخروج من خانة التجريد الفكري الى واقع التجربة العملية والتحقق من النتائج المتوخاة المطلوبة منها..أن دلالة الكلمات والمفاهيم المجردة من منظور ذرائعي لا تعطي دلالاتها الحقيقية بإحالتها الى أفكار مجردة غيرها، بل يتم ذلك باحألتها الى أفكار تطبيقية هي نتيجة تجارب اختبارية تؤكد حقيقتها وسلامتها في تحقيق المنفعة حسب ما تدعو له الذرائعية’ عندها تصبح الافكار المجردة متراجعة كمعيار في الحكم وهي قيد التجربة والامتحان..
الذرائعية واللاهوت المسيحي
يحشر بيرس اللاهوت المسيحي في بعض من مفرداته الاكثر ميتافيزيقية في هذا المثال الذي نورده على لسانه ( أن الكاثوليك والبروتستانت يعرفون جيدا أن ليس للخبز ولا للخمر الصفات الطبيعية للحم ولا للدم، والمسألة تتعلق بتأثيرها على نفوس المؤمنين لذا – والكلام لبيرس – لا نفهم شيئا سوى ما يحدث بالحواس من آثار مباشرة وغير مباشرة، والتحدث عن غرض له كل الخصائص المادية التي للخمر كما لو كانت بالفعل دما، ماهي الا رطانة خالية من المعنى )(3)
على ماذا يحاول بيرس البرهنة عليه من مثاله اللاهوتي الميتافيزيقي الذي مررنا عليه وهو لا يحتاج الى جهد كبير في معرفة تأويله على المستوى العام قبل المؤمنين الذين قصدهم من الكاثوليك والبروتستانت المسيحيين..؟؟
من المفروغ منه أن مفاهيم الاديان جميعها وبلا استثناء أنما تقوم على أفكار الميتافيزيقا غيبيات ما وراء الطبيعة التي لا تضيف مناقشتها رصيدا فلسفيا يمكن اعتماده.. لذا تكون أفكار اللاهوت الديني بعيدة عن محاكمتها بمنطق الفلسفة خاصة الذرائعية التي ترى أن كل المفاهيم والرؤى والتصورات لا قيمة حقيقية لها أن لم يجر(ي) تمريرها من مصفاة التجربة العملية، لذا نجد بيرس أقحم قضية دينية ميتافيزيقية في معالجات تنظيرية خاصة بالبراجماتية كفلسفة بعيدة جدا عن مناقشة قضايا دينية لا يجب معاملتها بمنطق الواقع.. هذه الافكار الدينية اللاهوتية جعلت وليم جيمس يقتفي آثار بيرس في مؤلفاته من منطلقات إيمانية دينية غيبية تتقاطع بالصميم مع التنظيرات الفلسفية البراجماتية في جوهرها العملاني الواقعي والا فما معنى ان يقوم جيمس في مناقشة كيفية الاستدلال على وجود الله من منطلق أخلاقي براجماتي قوله (أن الافكار الدينية تتيح لنا أن نحيا بشكل جيد، وأن الله وليس المنهج هو المبدأ الاخير لدلالة الاشياء ) (4)..، لا تختلف هذه التعابير عما سبق لبيركلي القول به في ابتذاليته المثالية الذاتية الساذجة التي عزا فيها عجزنا أدراك أي شيء ليس مهما أذا ما علمنا أن الله يدركه بما لا ندركه نحن أنه موجود...وهل تكفي مدركات الله لمعرفة مدركاتنا التي تحتاج الى منظومة فكرية عقلية؟؟
والشيء الأهم أن وليم جيمس لم يكن الفيلسوف الوحيد الذي يكشف عن أيمانه الديني بوجود الله لكن إقحام الأفكار الدينية الميتافيزيقية في تفسير قضايا فلسفية تقوم على مرتكزات منطقية لا يمكن تمريرها بسهولة في وقت نبحث فيه عن الاتساق النسقي الفلسفي في الذرائعية بمنهج التطبيق العملاني الواقعي...وفي وقت نجد البراجماتية في صلب توجهاتها أن لا هناك للكلمات والمفاهيم المجردة أية قيمة سوى ما تتركه من أثر ملموس في مفاعيل تلك المفاهيم على المتلقين لها من نتائج عملية بالحياة، وألا فهي لا تستحق الوقوف عندها..أين هذه التوجهات الذرائعية بضوء تناقضات بيرس حين يقول ( الذرائعية منهج لا يستبق شيئا سوى نتائج تطبيقه) ومن بعده جون ديوي تأكيده (حين نريد اكتشاف دلالة الفكرة علينا التفتيش عن نتائجها في التجربة)..وكلها منطلقات واقعية صرف بعيدة جدا عن أي تفسير ميتافيزيقي أو لاهوتي ديني.
الواقعية الجديدة وريثة الفلسفة الذرائعية
ظهرت الواقعية الجديدة((The new Relatism كفلسفة أمريكية خالصة شأنها شأن الذرائعية تحت عنوان :
A program and first platform of six Realists
واستعارت الواقعية الجديدة الامريكية وريثة الفلسفة الذرائعية عن وليم جيمس فكرة - (أن الوعي ليس جوهرا بل وظيفة )
- والثانية (أن الوعي تجربة صرفة لا طبيعية ولا عقلية بل محايدة)..
والعبارتان بما تخصّان (الوعي) تحتاجان الى مناقشات ليس لها بداية ولا آخر، وسنتناولهما هنا بما يسمح به المجال في عدم خروجنا عن متن الموضوع.
لتوضيح عبارتي وليم جيمس هي أن تكون الافكار معارف يستقبلها ويطلقها الوعي ليس كجوهر متعالق ومتداخل بها من جهة ومتعالق مع العقل من جهة أخرى، بل الوعي في المنهج البراجماتي وسيلة معرفية شأنها شأن اللغة في توصيلها المدركات العقلية، والوعي محور مركزي في وظيفة تمكين العقل معرفة الاشياء والمدركات، من حيث يتعذر علينا الفصل بين الوعي والعقل تجريديا كما يرغبه جيمس قوله: الوعي تجربة محايدة وليست عقلية ولا طبيعية، والوعي في الوقت الذي يكون فيه وسيلة أستدلال معرفي وحلقة وصل وظيفية بين العقل ومدركاته لا يمكننا أعتباره وظيفة أو تجربة محايدة في عملية الادراك حسب تعبير وليم جيمس ايضا، فالوعي ليس (موضوعا) لأدراك عقلي كي يكون جوهرا منفصلا محايدا بل الوعي هو تفكير متداخل في صلب العقل المعرفي للأشياء، والوعي بدون ملازمته التداخلية الصميمية بالعقل لا يمكن أن يكون هناك أدراك سليم لموجودات العالم الخارجي في لا وجود وعي قصدي،ولا حيادية قائمة يمكن الركون على سلامة وقوعها للوعي باعتباره تجربة محايدة صرفة قائمة بأنفراد ليست عقلية ولا طبيعية بل هي محايدة..
الوعي ليس تجربة محايدة من خلال اعتباره وظيفة حسب الفهم البراجماتي، بل هو جوهر نافذ ومتنفذ غير منفصل عن منظومة الادراك العقلي بالقيام بدور معالجة المدركات الواردة ونقل مقولات العقل بشأنها أيضا في تداخله الصميم كحلقة وصل أيصال المحسوسات للعقل ونقل وإصدار ما يعطيه العقل من تفسيرات وعلاقات لها.. الوعي هو التجسيد الحقيقي لمنظومة الادراك بدءا من الحواس والى الذهن عبر الجهاز العصبي وأخيرا نقل الوعي أفكار العقل في تعبير اللغة عن الاشياء بالعالم..لذا يكون الوعي حلقة من حلقات منظومة الادراك العقلي ولا يكون موضوعا مدركا مستقلا..
ربما تكون حيادية المحسوسات التي مصدرها الحواس في علاقتها الادراكية المعرفية بالعقل هي أقرب الى الاقتناع من قولنا الوعي تجربة محايدة لا طبيعية ولا عقلية حسب ما تقول الذرائعية والواقعية الجديدة... والأنا كجوهر هي وعي ذاتي يسترشد العقل على الدوام في بيان معرفة حقيقة مدركاته ولا يمكن للوعي أن يكون تجربة محايدة في الادراك..وإذا جاز لنا التعبير أن العقل يكون موضوعا مدركا من العقل ذاته، عندها يصبح جواز القول أن الوعي هو موضوع محايد بمعزل عن العقل.. والعقل موضوع محايد عن الوعي....وهو ما يدخلنا في سفسطة لغوية منطقية تعبيرية لا معنى حقيقي لها..
تقوم أطروحات الواقعيين الأميركان الجدد الذين يرومون تطوير الفلسفة الذرائعية الام على ثلاث مرتكزات في تداخلها معا هي:
- فلسفة المعرفة ليست أساسية من الناحية المنطقية، بعبارة أخرى لا يمكننا استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة.(5)
- لا وجود للقضايا الوجودية أو غير الوجودية تكون سابقة على فلسفة المعرفة (6)
- المعرفة بوصفها علاقة فهي تنتمي للعالم نفسه الذي ينتمي اليها موضوعها، وبالتالي يكون كل موضوع هو حاضر بشكل مباشر في الوعي، والفرق بين ذات الوعي وموضوع الوعي(المعرفة) ليس فرقا بالكيفية ولا بالجوهر بل فرقا بالدور أو في الموقع أو في التشّكل..(7)
يمكننا استخلاص أكثر من ملاحظة فكرية بضوء ما أدرجناه عن الواقعية الامريكية الجديدة:
- الواقعية الجديدة فلسفة تلتقي أنماط المفاهيم الوجودية عند (سارتر، هيدجر) بالمعنى المشترك بينهما كمفاهيم فلسفية مجردة وليس كمفاهيم خاضعة لحتمية التجربة الذرائعية..فالاشياء في فرادتها الانطولوجية تكون موجودة حتى لو لم يكن لدينا وعي بها وبأدراكها..
- مقولة الواقعية الجديدة لا يمكن استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة مقولة تحتاج الكثير جدا من التوضيح للاقتناع والتسليم بصحتها..
- الكليات كمواضيع أدراك متعذر علينا الوعي بها ومعرفتها كاملة كما هي أنما هي تظل وجودا قائما باستقلالية حتى حين يكون لنا وعي عاجز عن أدراكها أكثر من تجزئتها تحليليا .
- ميزة الواقعية الجديدة في خروجها على الذرائعية أنها أيّدت حقيقة الكليات التي تعارض كل من ديوي وجيمس وذرائعيي مدرسة شيكاغو أذ لا شك في وجود العالم الخارجي المستقل قبل كل شكل من أشكال المعرفة والادراك.
- تعتبر الواقعية الجديدة الامريكية الفلسفة الامريكية الثانية وريثة الذرائعية التي حاولت إخراج الفلسفة الامريكية من المستنقع السايكولوجي الاستبطاني والحدسي والمنطقي الارسطوي الذي كانت قد انزلقت اليه بهدف حملها الوقوف على أرض صلبة .(8) أن الوعي ليس جوهرا قائما بذاته كما هو ليس تجربة خالصة منّبتة محايدة مبتورة عن العقل، لذا فالوعي وظيفة مادية وعقلية ماهوية مستمدة من جوهر العقل في تعالقهما المشترك وتخارجهما معا في أدراك الاشياء وفهمها وتفسيرها.. لذا يكون جوهر الوعي غير منفصل عن جوهر العقل.
أما اعتبار الوعي تجربة خالصة كما تذهب له الذرائعية الأمريكية فهو تعبير لا يحمل معه التفسير البراجماتي العملي والعلمي معا.. لأننا لا يمكننا اعتبار الوعي تجربة خالصة محايدة حسب رغبتنا الذرائعية، في حين كل معطيات العلم والمعرفة تؤكد أن الوعي يتداخل مع العقل ويتكافل معه في معرفة وتفسير مدركاتهما.. وتجربة الوعي لا تكون تجربة خالصة لوحدها وهي تمثل تجربة العقل في الادراك والمعرفة.. وتجربة الوعي وتجربة العقل واحدة لا يمكن الفصل بينهما من حيث أنهما أدراك مشترك واحد لشيء أو لمجموعة موجودات ومواضيع تتم معرفتها بتداخل الوعي والعقل وظائفيا ..ومن الممكن أن نعتبر الوعي وظيفة أو وسيط في نقل مدركاته الحسية الى العقل وبالعكس في نقل مقولات العقل عن مدركاته في العالم الخارجي، وبهذا المعنى لا يكون الوعي وسيطا ناقلا محايدا بين مدركات الحواس ومدركات العقل، فالوعي هو حلقة متداخلة في منظومة معرفية متكاملة تبدا بالشيء كموجود، ومن ثم بأدراك الحواس له، ومن ثم استقراره كوعي في الذهن وأخيرا تأتي مقولات العقل النهائية بشأن مواضيع مدركاته... لذا الوعي في حالة أدراكه الاشياء غير العاقلة في الطبيعة فهو لا يدركها ألا كوسيط بين الحواس والذهن..لهذا من الخطأ اعتبار الوعي تجربة خالصة لذاتها ومحايدة في أدراكها الموجودات في العالم الخارجي.. بماذا نستدل على أن الوعي كاف أن يكون تجربة خالصة؟ كيف؟ ألا أذا ما أخذنا الوعي هو وظيفة أبستمولوجية ليست محايدة ولا منفصلة وليست قائمة كتجربة موضوعية لوحدها من دون اعتبار الوعي حلقة في منظومة معرفية متكاملة تبدا بالوجود ولا تنتهي بالعقل.
الهوامش
** الاقتباسات المحصورة بين قوسين غير المشار لها بالهوامش مأخوذة من مصدر هذا المبحث كتاب /الفلسفة الاميريكية/جيرار ديلودال/ترجمة د. جورج كتورة ود.الهام الشعراني.
- المصدر اعلاه ص 123
- المصدر اعلاه ص120
- المصدر اعلاه 120
- المصدر اعلاه ص 124
- المصدر اعلاه ص 123
- المصدر اعلاه ص130
- المصدر اعلاه ص 130
- المصدر اعلاه ص132