جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

في المرحلة الرابعة من هذه الجولة الفلسفية، وقع اختياري على مقال للفبلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ كتبه ونشره سنة 1848 تحت عنوان: "الطريق نحو الحقيقة والحرية، ملاحظات حول جوهر الإيمان بحسب لوثر". والجدير بالذكر أن فيورباخ اختتم بهذا النص إحدى أكثر الفترات إنتاجية في فكره. وإذا كانت انتقادات اللاهوتيين والظروف السياسية تفسر تحول فيورباخ إلى دراسة لوثر، فإن الحقيقة تظل أن أهميتها تكمن في الحوار مع من يسميه "الإنسان الأول": بالنسبة إلى فويرباخ كقارى للوثر، فإن الله الموحود لأجل الإنسان ألغى نفسه كإله في ذاته عندما أصبح محسوسا في المسيح، وأظهر، بإدراكه كمحبة، التكامل بين محبة الذات ومحبة الآخر. هكذا نجح فيورباخ، وهو يواجه المسيحانية اللوثرية، في تحقيق التوليف بين ماديته الحسية واختزاله الأنثروبولوجي لجوهر الله في جوهر الإنسان.

في نص منسوب منذ فترة طويلة إلى ماركس، نُشر عام 1843 في كتاب "حكايات عن الفلسفة الألمانية الجديدة" لأرنولد روج بعنوان "لوثر حكما بين فيورباخ وشتراوس"، يعارض فيورباخ لوثر مع اللاهوتيين مثل شتراوس، وتتم مماثلته مع الفلاسفة التأمليين، ويتمثل نفسه كشرط لإمكانية الخلاص:

"أيها المسيحيون، اخجلوا، وأنتم المسيحيون الٱخرون المثقفون والعوام، المتعلمون والجهلاء، اخجلوا من التزام مناهض للمسيح بأن يظهر لكم جوهر المسيحية في شكلها الحقيقي المكشوف! وأنتم، أيها اللاهوتيون والفلاسفة التأمليون، أنصحكم بتحرير أنفسكم من مفاهيم وأحكام الفلسفة التأملية القديمة إذا كنتم تريدون الوصول إلى الأشياء كما هي، أي إلى الحقيقة. بالنسبة إليكم ليس هناك طريق آخر إلى الحقيقة والحرية إلا عبر جدول النار. فيورباخ هو مطهر الحاضر".

هذا ما أعطى مقياس تأويل فيورباخ للوثر والأهمية التي كان يوليها له. في ختام أحد أكثر مراحل فيورباخ إنتاجية، في الوقت الذي كان يتم فيه تجميع "جوهر المسيحية" (1841 و 1843) و"مبادئ فلسفة المستقبل" (1843)، كان من المقرر أن يظهر لوثر في عام 1844، في نهاية الفترة التي انجذب فيها إلى راديكالية الشباب الهيغليين، ولا سيما من خلال اتصالاته مع جورج هيرويغ وأرنولد روج. لكن فيورباخ ليس مؤلفا سياسيا، ولا يريد أن يكون ثوريا، وبالرغم من أنفه تقريبا، ألقى دروسا حول جوهر الدين خلال الفترة من ديسمبر 1848 إلى مارس 1849، بناءً على طلب طلبة من هايدلبرج وأمام جمهور متنوع. في غرفة بفندق مدينة هايدلبرغ، بعد أن رفضت الجامعة أن تفتح له مقراتها. وهذه المحاضرات، حسب رأي فويرباخ نفسه، هي “نشاطه العام الوحيد خلال هذه الفترة الثورية”. غير أنه كان من الصعب الانطلاق في التفكير النظري لنقد اللاهوت والدين دون الشعور بالتبعات السياسية على الفور، ولا سيما من خلال نشاط الرقابة. وبعبدا عن كونه ثوريا، أراد فيورباخ مع ذلك أن يكون مصلحا. تحمل العديد من كتابات الأربعينيات هذا الادعاء في عناوينها، وهي تردد بوضوح صدى لوثر.

في هذا السياق ظهر "جوهر الإيمان عند لوثر" كتكملة ل جوهر المسيحية ”. لماذا العودة إلى أطروحات "جوهر المسيحية" وتقديم تحليل "جوهر الإيمان عند لوثر" باعتباره "تكملة" له؟ في كتابه "جوهر المسيحية"، اعتقد فيورباخ أنه قد انتهى من كتاباته اللاهوتية، وكان يأمل في أن يتحول أخيرا إلى ما كان يهمه في ذلك الوقت، أي دراسة العلاقة بين الروح والطبيعة. هل أراد ببساطة أن يوضح مرة أخرى أطروحة مدعومة جيدا بالفعل أم أنه اكتشف شيئًا جديدا من خلال التعمق في أعمال لوثر؟

في مقاربة أولى، يجب علينا بلا شك أن نرى في هذا الكتاب واللجوء إلى لوثر انعكاسا للوضع السياسي في ذلك الوقت، حيث ينضم الكفاح ضد الرقابة إلى تحديد اللاهوتي والسياسي. وهذا ما أظهره جون جلاس بشكل مقنع، والذي يمكن تلخيص حججه على النحو التالي: بالتركيز على لوثر، (1) يرد فيورباخ على انتقادات اللاهوتيين البروتستانت، وفي المقام الأول منهم لا بد من ذكر يوليوس مولر و (2) يمكر بالرقابة.

إن الانتقادات القادمة من اللاهوتيين البروتستانت، ولا سيما يوليوس مولر، تدعو إلى مبررات. تعرض فيورباخ لانتقادات خاصة لأنه ليس لديه فهم جيد للأفكار الكاثوليكية واللوثرية والكالفينية، ولخلطه بينها. كما تم انتقاده لأنه لم يستند إلا إلى "عدد قليل من اللاهوتيين من العصور الوسطى، ولا سيما المتصوفة" على حساب اللاهوتيين المعاصرين. في مقدمة الطبعة الأولى ل"جوهر المسيحية"، أكد فيورباخ أن المسيحية الحديثة ليس لديها ما تضيفه إلى المسيحية القديمة. في رده على يوليوس مولر، الذي رأى فيه "العدم المطلق، وبؤس اللاهوت"، يقدم فيورباخ ما سيكون أطروحة لوثر الرئيسية: "أصبح اللاهوت منذ زمن طويل كريستولوجيا، والأخيرة ليست سوى الأنثروبولوجيا الدينية الموحى بها". ولهذا السبب لا يوجد سوى شخصية عالمية واحدة في البروتستانتية، وهي لوثر "صاحب الإصلاح، وذلك لأنه كان في تاريخ الديانة المسيحية الإنسان الأول". ولم يعد لاهوتيًا. ولذلك نفهم أنه من خلال اتباع هذه الأطروحة العامة، انغمس فيورباخ في قراءة لوثر الذي سيكون حضوره قويا جدا منذ الطبعة الثانية ل"جوهر المسيحية".

لكن الاهتمام بلوثر هو أيضا نتيجة لعلاقة فيورباخ بالرقابة. كان فيورباخ مصدوما، من بين أمور أخرى، بسبب الحظر المفروض على عمله في النمسا، والصعوبات التحريرية التي يواجهها الشباب الهيجليون، والحظر المفروض على "أطروحاته المؤقتة"، وهي واحدة من أكثر التعبيرات المباشرة عن فلسفته، وهو يفكر في ما تعنيه هذه الرقابة وما العمل لأجل الالتفاف عليها. هناك رسالة من عام 1842 إلى أرنولد روج بليغة في هذه النقطة. فيها يسلط فيورباخ الضوء على الأهمية السياسية لانتقاده للدين. فهو يرى في قطيعته مع المسيحية “قطيعة، بالمعنى الدقيق للكلمة، ليس مع الكنيسة، بل مع الدولة نظرا لأن الأخيرة ظلت مرتبطة ببعض المظاهر الكنسية الخارجية”. بالنسبة إلى الدولة، "الكتابات التي تحتوي على حقائق ليست علمية، بل عصيانية". ولهذا السبب، كما يقول: "كان ينبغي لنا أن نكون أكثر حرصا وحكمة - ليس لأنفسنا، بل للقضية. المكر والحكمة هما أيضا جزء من الاستراتيجية. علينا ببساطة ألا نسمح بفرضها علينا. يجب أن نتقدم على العدو. [...] ألمانيا لا تدعم بعد الإعلانات ." ولذلك يوصي فيورباخ باستراتيجيات، مثل استبدال كلمة "الإلحاد" بكلمة "الألوهية الأنثروبولوجية" (anthropothéisme).:وهناك استراتيجية أخرى تتمثل، كما يوضح جلاس، في الإشارة إلى شخصية لوثر، هذا البطل الألماني الذي لا جدال فيه. وبالفعل، فقد مرت الطبعة الثانية، المعززة باقتباسات من لوثر، لكتاب "جوهر المسيحية" بسهولة على الرقابة.

ـ  من الممارسة إلى النظرية

تلك الدوافع الخارجية لقراءة لوثر سمحت لفويرباخ بأن يكتشف فيها المزيد، أي الانتقال من اللاهوت والفلسفة إلى الدين. وبهذا تم إنجاز الإصلاح الحقيقي للفلسفة. بالموازاة مع استمراره، اندفع فيورباخ تدريجيا إلى التأكيد على الجانب العاطفي للدين، الذي رفضه بعنف في البداية من خلال إعطاء الأسبقية للنقد الهيغلي لشلايرماخر. وبالعودة إلى "الدين" المبني على الشعور، الحب، احتياجات القلب، اقترب فيورباخ من شلايرماخر بينما نأى بنفسه عن هيغل، ممثل الفلسفة التأملية، الذي أصبح الخصم الرئيسي. ولكن، رغم قربه، ظل شلايرماخر بالنسبة لفيورباخ "اللاهوتي الأخير"، ومن الغريب أن لوثر، كما قلنا، هو الذي وصف بأنه "الإنسان الأول". جعل من الممكن تنفيذ الأنثروبولوجيا: من خلال اختزال اللاهوت في الدين، على اعتبار أن الفلسفة (التأملية) هي اللاهوت، سلط لوثر الضوء على حقيقة الدين. في الانتقال إلى الأنثروبولوجيا التي لم تعد تعتمد على الفلسفة، تنبأت كريستولوجيا (مسيحانية) لوثر باختزال الله في الإنسان، حتى لو لم يفهم لوثر نفسه من خلال السماح لله بالبقاء في ذاته. على هذا النحو، فإن "مبادئ فلسفة المستقبل" قدمت جوهر الإصلاح البروتستانتي: “إن مهمة العصر الحديث كانت تفعيل الله وأنسنته، وتحويل اللاهوت وحله في الأنثروبولوجيا". لقد تم إنجاز هذا التحول. إنه عمل لوثر الذي يُظهر، في مسيحانيته، إنسانية الله:

"كان الأسلوب الديني أو العملي لهذه الأنسنة هو البروتستانتية. وحده الإله الذي هو إنسان، الإله البشري، أي المسيح، هو إله البروتستانتية. لم تعد البروتستانتية مهتمة، مثل الكاثوليكية، بمن هو الله في ذاته، ولكن فقط بمن هو بالنسبة إلى لإنسان؛ كما أنها لم تعد ذات نزعة نظرية أو تأملية، مثل الكاثوليكية؛ لم تعد البروتستانية لاهوتا – إنها في الأساس مجرد كريستولوجيا، أي أنثروبولوجيا دينية".

إن مهمة فيورباخ إذن هي إصلاح ثان، أي إصلاح الفلسفة: "إن سر اللاهوت هو الأنثروبولوجيا، وسر الفلسفة التأملية هو اللاهوت [...]" كشف الإصلاح الأول عن السر الأول، والثاني بالاعتماد على الفلسفة الأولى المنحلة. وقال فيورباخ: "أنا لوثر الثاني".

لذلك ندرك أن فيورباخ كان في ذلك الوقت منشغلا بفكرة التحول الضروري، الإصلاح أو المراجعة، فكرة تجديد الفلسفة التي تم التعبير عنها منذ عام 1842 في "الأطروحات المؤقتة لإصلاح الفلسفة" التي أعلنت عن "مبادئ فلسفة المستقبل" لعام 1843. لكن يجب أن نتفق على المصطلحات. لأنه في ذهن فيورباخ، دوره محدد: يتعلق الأمر بالنسبة إليه، من حيث الإصلاح، بعمل على الضمائر يجعل من الممكن الارتقاء بالنظرية إلى مستوى الممارسة الفعلية. وبهذه الطريقة، فإن النظرية لا تسبق الممارسة، بل تتبعها. يقول فيورباخ: «القلب يقوم بالثورات، والعقل بالإصلاحات». وعندما تتفوق الممارسة على النظرية، يجب على النظرية أن تلحق بالممارسة:

"الرأس ليس في المقدمة دائما؛ إنه الشيء الأكثر حركية وثقلا. يسمح الرأس بميلاد الجديد، لكن في الرأس أيضا يبقى القديم لفترة أطول".

ذلك ما يشكل المدى السياسي للنقد النظري للدين:

"المهمة النظرية للإنسانية مماثلة لمهمتها الأخلاقية. وحده إنسان أخلاقي حقا وإنساني حقا هو ذاك الذي يمتلك الشجاعة لتمييز مشاعره واحتياجاته الدينية. إن أي شخص يظل عبداً لمشاعره الدينية يستحق أن يعامل سياسياً باعتباره مجرد عبد. ومن لا يتحكم في نفسه لا يحق له أن يتحرر من الضغوط المادية والسياسية. من يسمح لنفسه بأن تسيطر عليه كائنات أجنبية، غامضة، قد يظل معتمدا في الخارج على قوى غامضة".

هكذا ينضم النقد النظري إلى كفاح الهيجليين الشباب ضد الدولة البروسية والمسيحية، مستحضرًا الضرورة الأخلاقية والسياسية للقضاء على ظلامية الدين. وبعبارة أخرى، يسير التحرر السياسي جنبا إلى جنب مع التحرر الديني. وهذا الأخير لا يحدث إلا من خلال اختزال الدين والفلسفة "إلى أبسط عناصرهما، المحايثة للإنسان": "الفلسفة التي أصبحت إنسانية هي الفلسفة الإيجابية الوحيدة، أي الحقيقية". هذه هي بالضبط أبسط الحقائق التي يصل إليها الإنسان في أقرب وقت". لذلك لا فائدة من تغيير العالم ما دامت النظرية باقية، حتى لو كان الإنسان قد استعاد جوهره عمليا. وفي ذلك لم يرد فيورباخ أن يكون ثوريا، إذ ظل مقتنعا بأن التأويل هو شرط إمكانية أي تحول حقيقي. قرأ فيورباخ ماركس، الذي أطراه بالتأكيد على أن نقد الدين قد اكتمل أساسا في ألمانيا، وأصبحت المهمة بعد اختفاء "ما وراء الحقيقة" هي "تأسيس الحقيقة هنا أدناه" عن طريق تحويل "نقد السماء إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد القانون، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة". بالنسبة إلى ماركس، بعد أن اعترف بعظمة لوثر، أصبح الأمر من الآن يتعلق بالانتقال من الإصلاح إلى الثورة، ومن النظرية إلى الممارسة.

"حتى تاريخيا، كان للتحرر، بالنسبة لألمانيا، معنى نظري خاص. لأن الماضي الثوري لألمانيا نظري، فهو الإصلاح. وكما في الماضي بدأت الثورة في عقل الراهب، فإنها تبدأ اليوم في عقل الفيلسوف. - هزم لوثر فعلا عبودية التدين باستبدالها بعبودية الاقتناع. كسر الإيمان بالسلطة من خلال استعادة سلطة الإيمان. [...] حرر الإنسان من التدين الخارجي بأن جعل من التدين الإنسان الداخلي. حرر الجسد من قيوده من خلال تقييد القلب".

"الوحدة" في "الاختلاف الحقيقي بين الناس" تلك إحدى نتائج الإصلاح الفيورباخي. ويبدو لنا أن ذلك هو ما يجب أن نحاول التفكير فيه في النص نفسه، إذا كان هناك في ما كتبه عن لوثر ادعاء بالإتيان بشيء جديد. ذلك أنه في عام 1846، أوضح فيورباخ أن كتابه عن لوثر، خلافا لعنوانه، ليس "مكملاً" بسيطا ل"جوهر المسيحية"، بل له "معنى مستقل": هنا فقط "كنس" تماما الفيلسوف، رد الفيلسوف تمامًا إلى الإنسان. بالفعل، اكتشف فيورباخ في الحوار مع المسيحانية اللوثرية خلاصة ماديته الحسية واختزالها الأنثروبولوجي لجوهر الله في جوهر الإنسان.

معنى الإنسان

تتعلق أطروحة لوثر الأولى بالتعارض بين الإنسان والله: بالنسبة إلى لوثر، الله كائن وله ما لا يكونه الإنسان وما لا يملكه. فالله إذن ليس كل شيء إذا كان الإنسان لا شيء، ولا يكون الإنسان لا شيء إلا إذا كان الله كل شيء، نفي أحدهما تأكيد للآخر، ويقتصر أحدهما عاى الآخر. تتأسس ضرورة الله بالتالي على النقص البشري، الافتقار، البؤس. إنه إذن "حاجة" بالنسبة إلينا نحن البشر الأخرين الذين نحول إلى قيمة عليا فيه ما نشعر به على أنه عيوبنا: "كل نقص في الإنسان يعارضه كمال في الله. [...] عدم الإنسان هو افتراض جوهرانية الله”. في الله، يقدر الإنسان ويثمن ما لا يملكه، هكذا يكون الله مؤسسا على الرغبة في السعادة. لهذا السبب "لا يكون سوى على لسان الضرورة، البؤس، النقص، يكون لكلمة الله وزن، جدية معنى". ولذلك يجد الدين أساسه في الإنسان ككائن تابع. ويجد فيورباخ هناك صياغة لفرضية سيطورها في كتابه "جوهر الدين":

"كل البشر يحتاجون، يقول هوميروس في الأوديسا،

إلى الآلهة. ولكن ما هي الحاجة، إن لم تكن التعبير المرضي عن التبعية؟ وبهذه المناسبة يجب أن أشير إلى أن بداية جوهر الإيمان وكذلك جوهر المسيحية في التعارض بين الإنسان والإله وبداية جوهر الدين في الشعور بالتبعية هما نفس الشيء، إلا أن هذه المعارضة تدين بوجودها أكثر إلى التفكير في الشعور بالتبعية".

باختصار: الشعور بالتبعية أولي، والدين الثانوي ناتج عن السبب الذي ينطبق على هذا الشعور بالتبعية. من الواضح أن السعادة والسرور المسقطين على هذا النحو ليسا بالبداهة سوى "خيال" وإنما "باعتباره موضوعا للتمثيل، في المسافة، في الانفصال يصبح التافه مثاليا، الأرضي سماويا، الإنسان إلهيا". هذه البنيات الإسقاطية مألوفة لنا انطلاقا من كتاب "جوهر المسيحية". لكن، على وجه التحديد، على هذا التعارض بين الإثبات في الله والنفي في الإنسان، بني لوثر، وفقا لفويرباخ، نقده للكاثوليكية. في الواقع، هذا التعارض يفسر التناقض بين النعمة والاستحقاق: النعمة في الله، والاستحقاق من خلال الأعمال في الإنسان. لذلك يجب علينا أن نقرر: كل شيء لأجل الله وضد الإنسان ، أو كل شيء لأجل الإنسان وضد الله. لوثر حدد نفسه بشكل مطلق " لأجل الله ضد الإنسان": الله هو كل شيء والإنسان ليس شيئا. لكن هذه الصفة اللاإنسانية للإيمان اللوثري يتم تعويضها بإنسانية إلهه. ولهذا السبب فإن الإيمان اللوثري، بحسب فيورباخ، لا إنساني إلا في بدايته: الوسيلة غير إنسانية، لكن الغاية هي الإنسان. وهذا ممكن من خلال تأويل الله كوسيلة للإنسان للوصول إلى ذاته. ومن ثم، وفقا لمقدمة أساسية في المثالية الألمانية، فإن الآخرية الضرورية للعودة إلى الذات، ولحظة الاغتراب تسبقان الاستعادة. يقدم الله للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه، في حين أن الإنسان بالحاجة والضيق قد فقد إحساسه بذاته، وهذه طريقة أخرى للقول إن إحساس الإنسان موجود في الله. فيرد لوثر إلى الله مئة ضعف ما أخذه من الإنسان، وما لوثر إلا غير إنساني لأن له إلها بشريا جمع فيه كل خصائص الإنسان. وبذلك يصبح الانقلاب المستعيد لذلك السبب ممكنًا لأن الإنسان أيضا يمتلك بطريقة ما ما لدى الله: “هذا لك كملكية فيك، بل كشيء ؛ ولكن ليس كشيء قد يكون بالنسبة لك شيئا عرضيا، بل كشيء أساسي”. لذلك يتم تفسير عقيدة لوثر وفقا لأطروحة التشييء: "إن الله هو موضوع الإنسان الذي يقدم له جوهره الخاص، الذي لا يصدح للإنسان سوى بما هو عليه، بالتأكيد ليس وفقا للحواس، الجسد، الواقع، ولكن وفق رغباته وتطلعاته [...]". هكذا يكون الله هو المثل الأعلى للخيال.

ـ المسيحانية أو الله "من أجلنا"

تتعلق الأطروحة الأساسية الثانية في قراءة فيورباخ بالمسيحانية اللوثرية. داخل المسيحية، تتفق الكاثوليكية والبروتستانتية على الدور المركزي للعقيدة التي تؤكد، وفقا لقانون الإيمان النيقاوي، أن الله "صار إنسانا" في المسيح "من أجلنا نحن البشر". إن خصوصية لوثر هي الارتباط أقل بالله الذي صار إنسانا في المسيح من ارتباطه بـه "من أجلنا". لكن ما هو مهم، في نظر فيورباخ، في صيغة "من أجلنا (pro nobis) هو أن لوثر يبتعد هكذا عن جوهر الله ليرتبط بالبعد العملي للمسيح الذي تألم من أجلنا وبذلك حررنا من المعاناة. لأن الغرض من معاناته كان خلاص المسيحيين وفداءهم. بهذا استوعب لوثر جوهر الإيمان القديم وعبّر عما كان فيه مسكوتا عنه. هو الذي أخبرنا بسر العقيدة المسيحية وهو أن "الله ليس هو الله إن لم يكن إلهنا":

"جوهر الإيمان بحسب لوثر يتمثل [...] في الإيمان بالله ككائن يرتبط أساسًا بالإنسان - في هذا الإيمان بأن الله ليس كائنا موجودا لذاته أو حتى ضدنا، بل هو كائن من أجلنا، كائن صالح، أي صالح لنا نحن الناس الآخرين".

لذلك فإن الله ليس في ذاته، بل في علاقته بنا، من أجلنا، وهو ما يفسر لماذا يحتوي، كما أظهر "جوهر المسيحية"، على الخصائص الرئيسية للإنسان.

لكن ما الذي يضمن لنا أن الله إلى جانبنا؟ لا شيء ٱخر سوى ظهوره البشري في المسيح، إنسانية المسيح الضامنة في المقابل لإنسانية الله. هذا ما أدى إلى قيام فيورباخ بوضع ضرورة الحساسية ( Sinnlichkeit ) في قلب النظرية اللوثرية. إذا كان الله "صالحا" بالنسبة إلينا، فيجب أن يكون كذلك في الحساسية نفسها، لأنه لكي يكون المرء صالحا، يجب أن يكون قادرا على الإحساس بالآخرين، وعلى المعاناة، إلخ... تبعا لذلك، لكي يكون الله من أجل لإنسان، يجب أن يكون من أجل حواس الإنسان، لأن "كل ما هو ضد الحواس هو ضد الإنسان". وهذا يعني أن الخلاص يكون في الحواس. يتعلق الأمر إذن بمسألة تحويل الكائن المفكر إلى كائن حساس، وفقاً لنصوص "فلسفة المستقبل"، وهي طريقة للانتقال من اللاهوت إلى الدين. أعاد فيورباخ أيضا قراءة اللاهوت في ضوء الحساسية، كما حدث في "جوهر المسيحية"، من خلال تفسير "المعجزة" مثلا باعتبارها ضرورة برهان حسي.

الأطروحة المركزية هي أن الحواس تكشف وبالتالي فإن جوهر الوحي هو جوهر الحساسية: "ما يكونه كائن لأجل الحواس، يكونه أيضا لأجل الفهم، وليس "العكس [...] في كلمة واحدة : ما بكون لأجل الحواس يكون لأجل الإنسان كله [...]". لذلك تتلخص الكريستولوجيا في نظر فيورباخ في: "المسيح هو الوجود غير المرئي لله ككائن مرئي ومحسوس". نحن نرى في المسيح ما نفكر به في الله. و" الإله الحقيقي، الموضوع الحقيقي للإيمان اللوثري [...] ليس سوى المسيح". وبهذا، فإن عقيدة الثالوث القديمة التي بموجبها لا يتغير الله عندما يصير إنسانا قد انحرفت بشكل عميق. بالنسبة إلى فويرباخ، فإن صيرورة الله إنسانا في المسيح تعني أن "سر اللاهوت هو الأنثروبولوجيا"، وأنه يلغي ذاته كإله في ذاته إلى حد يكون معه "التحول" إلى أنثروبولوجيا "انحلالا" للاهوت. ويعود هذا الانحلال إلى أننا لم نعد قادرين، على المستوى البشري للمسيح، على التمييز بين "المسيح في ذاته" و"المسيح من أجلنا". إنه يوضح بالتالي ضرورة وجود "أنت" بالنسبة إلى "أنا" وبالتالي يفتح باب الحوارية.

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرجع:   https://journals.openedition.org/rgi/378

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟