الإبستمولوجيا الهيومية : وجهها النقدي وأساسها المنطقي ـ عبد السلام بن ميس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse25131من الملاحظ أن المقالات والكتب التي نشرت حول فلسفة هيوم (1711-1776) كثيرة جدا. لكن هذه الكتب والمقالات في أغلبها ذات طابع عام[i].
ولم ينل الجانبان النقدي والمنطقي من فلسفة هيوم إلا اهتماما ضئيلا بالمقارنة مع الجوانب الأخرى. وغالبا ما يكتفي المهتمون بهيوم بالقول إن هذا الفيلسوف قاد التجربانية الكلاسيكية إلى الإفلاس وانتهى بتبني الشكانية. لقد كان بإمكان هذه التجربانية، حسب الوضعانيين الجدد، أن تنتهي إلى نتيجة أكثر ملاءمة مع بعض مبادئ هيوم نفسها، بدل أن تجد نفسها في طريق مسدود أو أن تنتهي إلى الشكانية. لكن الوضعانيين المناطقة قبلوا التوجه النقدي لفلسفة هيوم وقبلوا نتائجه والوضعانية، ووظفوها في هجوماتهم على الميتافيزيقا[2]. وهذان الجانبان هما العنصران الأساسيان اللذان يشكلان ما يمكن نعته بـ :"الإبستيمولوجيا الهيومية".
في هذا المقال، سوف نحاول الكشف عن الوجه النقدي والوجه المنطقي الوضعاني لإبستيمولوجيا هيوم، وذلك قصد المساهمة في التعريف بفيلسوف أيقظ كانط من سباته العميق ودفع بالفكر العلمي الفلسطيني الحديث إلى أقصى حدوده. وخلق كثيرا من المشاكل الإبستيمولوجية لا تزال قائمة حتى اليوم.

هل يمكن الحديث عن إبستيمولوجيا هيومية؟
للإجابة عن هذا السؤال يكفي الرجوع إلى كتابين أساسيين لهيوم: الأول تحت عنوان: بحث حول الطبيعة البشرية (1739) والثاني تحت عنوان: بحث حول الفهم البشري (1748)[3].
يتناول هذان الكتابان قضايا إبستمولوجية محض. ويمكن اعتبارهما المصدرين الوحيدين لإبستمولوجيا هيوم[4]. لكن، لا ينبغي أن ننتظر وجود فرق جوهري بين الكتابين المذكورين. وهيوم نفسه يشير إلى هذا في التمهيد الذي افتتح به كتابه بحث حول الفهم البشري، يقول هيوم: "أغلب مبادئ التعقل الواردة في هذا الكتاب، سبق نشرها في كتاب آخر من ثلاثة أجزاء تحت عنوان: بحث حول الطبيعة البشرية". لكن هيوم يتمنى أن يكون كتابه بحث حول الفهم البشري هو المعبر الحقيقي عن آرائه الفلسفية[5]. وفي نفس المكان يتحفظ هيوم بعض الشيء عن الاعتراف بالعمل الذي قام به وهو شاب والمتمثل في كتاب بحث حول الطبيعة البشرية. لكن، إذا فحصنا الكتابين معا فسوف نجد أن هيوم لم يقدم أية حلول في البحث حول الفهم البشري للمشاكل التي طرحها وهو شاب في البحث حول الطبيعة البشرية.
في هذا الكتاب الأخير يناقش هيوم مشكلتين أساسيتين: من جهة مشكلة طبيعة المعرفة البشرية، ومن جهة ثانية طبيعة بعض الكينونات المعرفية مثل "السببية" و"الجوهر" و"الهوية" و"الاعتقاد" وغيرها. وإذا استثنينا طبيعة المعرفة البشرية يبدو أن هيوم يتناول باقي مشاكله من وجهة نظر أنطولوجية وليس إبستيمولوجية[6]. أضف إلى ذلك أن التصميم الذي تبناه هيوم في كتابه بحث حول الفهم البشري لا يختلف عن الذي تبناه في بحث حول الطبيعة البشرية، رغم أن الجانب الأنطولوجي في الكتاب الأول أقل طغيانا عما هو عليه في الكتاب الثاني باستثناء الجانب المتعلق بمشكلة السببية.

من جهة أخرى، لم يكن الهدف الحقيقي لهيوم واضحا منذ البداية حتى بالنسبة لهيوم نفسه. لقد اعتبر هذا الفيلسوف نفسه ثوريا. وككل الثوريين كان على استعداد لتبني أية وسيلة في متناول يديه لتحقيق هدفه. ففي مقدمة كتابه بحث حول الطبيعة البشرية ينبهنا هيوم إلى أنه سوف يدرس "علم الإنسان". وهو مشروع يمكن تحقيقه في نظره بتفسير مبادئ الطبيعة البشرية. أما المنهج الذي يقترحه هيوم فهو المنهج التجريبي وخاصة الملاحظة الاستبطانية للظواهر الذهنية والملاحظة الموضوعية للسلوك البشري. معنى هذا أن هيوم حاول بناء سيكولوجيا تجريبية. ولكن، عندما نقرأ هيوم، يصعب القول بأنه مارس التجريب المنظم بالمعنى العلمي للكلمة. فنوع الملاحظة التي تميز منهجه لا تتوجه إلى الإنسان في خصوصياته، بل إلى السلوك البشري كحل. وهذا النوع من الملاحظات يمكن أن يمارسه أي شخص من عامة الناس. أضف إلى ذلك أن هيوم، عندما يتحدث عن "علم الإنسان" فهو يقصد من ذلك كل أنواع الأنشطة البشرية، باعتبار أن علم الإنسان تشترك فيه كل العلوم الأخرى.

يستنتج هيوم من دراسته للطبيعة البشرية نتيجتين أساسيتين: 1) لا يستطيع العقل البشري أن يعرف الأسباب الأولى للأشياء، 2) لا يستطيع العقل البشري أن يكون سيد انفعالاته. يقول هيوم: "ليس هناك فيلسوف واحد تجرأ على تعيين السبب الأول لعملية طبيعية(…) صحيح أن آخر مجهود للعقل البشري لهو رد المبادئ التي تنتج الظواهر التابعة للطبيعة البشرية إلى أكبر قدر ممكن من البساطة، ورد التمظهرات الخاصة إلى عدد قليل من الأسباب العامة بناء على خاصية التشابه وبالاستعانة بالتجربة والملاحظة. ولكننا لا نستطيع أبدا الكشف عن أسباب هذه الأسباب العامة، وسوف نكون دائما عاجزين عن إعطائها تفسيرا صائبا"[7]. يعضد هيوم هذه النظرية في محدودية الفهم البشري بالنتائج التي استخلصها من التحليل الإبستيمولوجي الذي مارسه على مجموعة من المفاهيم مثل مفهوم المادة ومفهوم السببية ومفهوم الجوهر ومفهوم الزمان وغيرها.

ما هو سبب قصور الفهم البشري على إدراك الأسباب الأولى للأشياء؟ إنه المنهج التجريبي. فهذا الأخير هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة أشياء العالم، ولكن، مع الأسف لا يفيدنا في معرفة الأسباب الأولى. لنلاحظ هنا أن هيوم يرفض الحلول الميتافيزيقية. وبما أنه لا يرغب في تجاوز حدود التجربة، فقد وجد نفسه مجبرا على تبني الشكانية[8].
ينبغي أن نسجل منذ الآن أن فلسفة هيوم هي نوع من "السلاطات" المتباينة العناصر (hotch-potch)[9]. فهو يتحدث عن أشياء كثيرة وبطرق مختلفة وفي مقامات مختلفة إلى درجة أنه من الصعب فهم بعض مواقف هيوم أو الحسم في انتمائه الفلسفي. وبالتالي من الصعب الكشف عن كل أبعاد فلسفته ناهيك عن نسبة نظرية إبستمولوجية إليه. فنحن نجد عنده كثيرا من أفكار الفلاسفة الذين سبقوه مثل نيوتن وليبنتز وباركلي ولوك وغيرهم. ولكن، رغم ذلك، فهو يعارض كل هؤلاء[10]. ولا ينبغي أن نبحث عند هيوم عن مذهب أو عن نسق متكامل أو عن منهج محكم البنية. فهيوم ضد المنهج وضد الأنساق المقننة. ولكن هذا لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى التنقيص من مساهمة هيوم في نشأة وتطور الإبستمولوجيا الحديثة، فهو فعلا لا يملك نظريات ولكنه يملك مواقف: تلك التي تبناها حول مجموعة من المشاكل أصبحت اليوم من أهم القضايا المتداولة في الإبستمولوجيا المعاصرة.

منطق العقل ومنطق الفهم:

لبناء علم الإنسان، هيوم في حاجة إلى أدوات منطقية جديدة تخلف منطق القياس الأرسطي الذي كان موضع نقد شديد منذ ديكارت[11]. ورغم كون هيوم، في هذا الصدد، مقلدا إلى حد ما لأعدائه العقلانيين، فإنه يرفض القواعد الديكارتية للمنهج. ويرفض حتى بعض مواقف تجريبيين مثله كرفضه لنظرية الحكم عند لوك[12]. لكنه يقبل ليبنز ويقول عنه: "إن السيد ليبنز المشهور أدرك بوضوح العيب المشترك بين الأنساق المنطقية، فهي تتحدث كثيرا عن عمليات الفهم ولكنها لا تولي أهمية كبيرة للاحتمالات"[13]. ويؤكد هيوم أنه أصلح هذا العيب الذي يعم أنساق المنطق التقليدي وذلك بوضع علم للإنسان مؤسس على فن في التعقل جديد. ويعتبر هيوم التجربة هنا "أكبر مرشد للحياة". وبالتالي فإن الفرضيات التي تعتمد على الكيفيات الميتافيزيقية مرفوضة[14]. وينبغي أن توضع القوانين العامة لعلم الإنسان على صورة القوانين النيوتونية. ويعتبر هيوم مبادئ ترابط الأفكار بمثابة الإسمنت الذي يربط بين عناصر العالم[15].
من المؤكد أن مبادرة هيوم المتمثلة في تطبيق منهج العلوم الفيزيائية على موضوعات العلوم الإنسانية مبادرة مهمة في حد ذاتها، ولم يسبق لها مثيل في تاريخ الفلسفة. ولكن، في نهاية كتابه بحث حول الطبيعة البشرية، يخبرنا هيوم أن آماله في تحقيق هذا التطبيق قد تبخرت. وفي هذا الصدد يقول: "عندما أراجع نفسي وأفكر في معارفي، فلا أجد إلا شكا وجهلا"[16]. ولكن، يضيف هيوم، "إذا كنت أحمق، كما هو حال كثير من الناس الذين يؤمنون بأي شيء، فإن حماقاتي سوف تكون على الأقل طبيعية ولطيفة"[17].

أول حماقة لطيفة لهيوم تتمثل في رد العلاقات المنطقية التقليدية إلى ترابطات سيكولوجية. وبالتالي فإن الثوابت المنطقية، وكذلك المقولات الميتافيزيقية، ليست إلا شكلا من أشكال ترابطات الأفكار[18]. حسب هيوم، "الهدف الوحيد للمنطق هو تفسير مبادئ وعمليات تعقلاتنا وطبائع أفكارنا"[19]. ويمكن اعتبار كتاب بحث حول الطبيعة البشرية نموذجا لتطبيق هذا التعريف للمنطق عند هيوم. وبالتالي فإن المنطق باعتباره "نظرية في التعقل" ينبغي أن ينطلق من الإدراك (أو التصور Perception). وبناء على هذا الاعتبار تبدأ معادلة المنطق بالسيكولوجيا في أخذ أبعادها الأولية. أضف إلى ذلك أن المنطق عند هيوم، على خلاف ما كان عليه الأمر عند الديكارتيين ومناطقة بور روايال، ليس علما معياريا وليس فنا يعصم الذهن من الخطأ. وبالتالي فإن المنطق لا ينبغي أن يكون مبحثا وصفيا لعلم الإنسان، أي المبحث الذي يهتم بوصف عمليات الفهم.

يستعمل هيوم أحيانا كلمة "منطق" في معنى ضيق: عندما يتحدث عن "قواعد للحكم على الأسباب والنتائج". وعن هذا المعنى يقول هيوم: "ذلك هو المنطق الذي ينبغي استعماله في كل تعقلاتنا"[20]. إن قواعد هذا المنطق، في رأي هيوم، هي في نفس الوقت ضرورية ومحرجة: فهي ضرورية للاستدلال ومحرجة لكونها لا مكان لها في المنطق الوصفي.

بصفة عامة، نلاحظ عند هيوم نوعين من المنطق: منطق العقل (logique de la raison) ومنطق الفهم (logique de l'entendement). الأول منطق برهاني، بينما الثاني منطق احتمالي. فالعقل يبرهن على منطقه ومنطق الحقائق الضرورية (الصورية). والفهم يؤدي بنا فقط إلى نتائج احتمالية. ومن هنا يمكن تقسيم كل تعقلاتنا إلى صنفين: التعقلات البرهانية وهي التي تتناول علاقات الأفكار، والتعقلات الأخلاقية [ التجريبية] وهي التي تتناول المسائل التجريبية"[21]. فكل موضوعات أبحاثنا، يقول هيوم، "يمكن أن تصنف إلى صنفين هما: علاقات الأفكار والوقائع، وينتمي إلى الصنف الأول علوم الهندسة والجبر والحساب، أيكل القضايا الصادقة بالحدس أو بالبرهان"[22]. ويمكن اكتشاف هذا النوع من القضايا بفضل إعمال الفكر وحده دون الرجوع إلى الواقع التجريبي. أما الصنف الثاني لموضوعات أبحاثنا فهو الوقائع أو الأحداث التجريبية. ويعتبر هيوم طبيعة القضايا التي تتناول هذه الوقائع مختلفة تماما عن طبيعة القضايا التي تنتمي إلى الصنف الأول. فالقضايا التجريبية لا تتضمن أية ضرورة. ويمكن تصور نقيض واقعة تجريبية دون السقوط في تناقض بالمفهوم المنطقي لهذه الكلمة.

رغم اختلاف هاذين النوعين من المنطق فإن بينهما علاقة. وتتمثل هذه العلاقة في كون الضرورات البرهانية قابلة للرد إلى وقائع سيكولوجية. مثلا، أن نعتبر الضرورة التي تجعل مجموع زوايا مثلت مساويا لمجموع زاويتين قائمتين متعلقة فقط بفعل الفهم المتمثل في مقارنة تلك الأفكار. لكن التصور العام الهيومي هو أن القضايا البرهانية تتمتع بضرورة موضوعية تتعارض مع الضرورة الذاتية (أو السيكولوجية) التي تتمتع بها العلاقات السببية أو القضايا التي تتناول الأحداث التجريبية.

إذا كان "المنطق الصوري" ممكنا، فلن يكون، بالنسبة لهيوم إلا "منطق العقل". وإذا كان هذا الأخير ممكنا، فلن يطبق إلا في إطار الرياضيات[23]. يعتبر هيوم الرياضيات هنا حالة خاصة. فهي العلم الوحيد الذي يستوفي كل شروط الفعل العقلي، أي التعقل البرهاني. ولكن المشكل الحاصل عند فيلسوفنا هو أن نظريته في المعرفة (نظرية الأفكار) لا تترك أي مكان للبرهنة الرياضية. يقول هيوم:
"لقد لاحظت سابقا أن الهندسة، الفن الذي بواسطته نحدد خاصيات الأشكال، ورغم كونه يتجاوز في عموميته وفي صحته كل أحكام الحواس والمخيلة، فإنه لا يصل قط إلى الدقة والصحة المطلقتين. فمبادئ الهندسة لا تزال تستخرج من المظهر العام للموضوعات. وهذا المظهر لا يقدم لنا أي ضمان(…)"[24].
كل أفعال الفهم، حسب هيوم، قابلة للرد إلى فعل واحد هو الإدراك[25]. ومن الخطأ، يقول هيوم، تقسيم أفعال الفهم إلى إدراك وحكم وتعقل. يبدو هنا أن هيوم يتبنى موقف مالبرانش (N.Malebranche) القائل بأنه، من جهة الفهم، "ليس هناك فرق بين الإدراكات والأحكام والتعقلات، إلا في كون الأحكام والتعقلات إدراكات مركبة"[26]. المهم هو أنه في كل حالة نجد أنفسنا أمام فكرة. ولقد سمح هذا التصور للفهم عند هيوم باعتبار القضية "س موجود" حكما، رغم كونها لا تحتوي، حسب هيوم، إلا على فكرة واحدة، هي فكرة "س". أي أن فكرة وجود الشيء ليست صفة تضاف إلى فكرة الشيء، بل هما معا يمثلان فكرة واحدة. وسوف يوظف هيوم هذا التصور للفهم لتعريف "الاعتقاد" (Croyance).

يختلف هيوم عن باقي الفلاسفة، خاصة عن لوك ومناطقة بور روايال، في مسألة اعتبار الحد الأوسط أمرا أساسيا لقيام التعقلات كما هو الحال في القياس الأرسطي. لا يرى هيوم ضرورة هذه الوساطة عند ما يتعلق الأمر بالاستدلالات القائمة على التجربة كما هو حال الاستدلال السببي. فنحن نستنتج السبب من النتيجة مباشرة. وفي هذه الحالة ليست هناك إلا فكرتين: فكرة السبب وفكرة النتيجة، دون واسطة. ويعتبر هيوم هذا الاستدلال لا فقط نوعا قائما بذاته من أنواع التعقلات بل أكثر التعقلات قوة على الإطلاق وأقواها إقناعا بالمقارنة مع الحالة التي نضع فيها فكرة أخرى كواسطة للجمع بين الفكرتين الأساسيتين[27]. لكن، في كتابه بحث حول الفهم البشري، يقبل هيوم كون البرهنة بواسطة الحد الأوسط مسألة قائمة في ميادين علوم الكم والعدد. هل معنى هذا أن هيوم يدافع عن القياس الأرسطي؟ إذا كان الجواب إيجابيا، فسوف تبقى نظرية البرهنة في النسق المنطقي الهيومي غير قابلة للهضم[28]. الواقع أن هيوم، عندما يتحدث عن الرياضيات، يسقط دائما في نفس الأخطاء التي سقط فيها المناطق التقليديون.
يلتقي منطق العقل ومنطق الفهم على مستوى ما يسميه هيوم بالعلاقات الفلسفية[29]. والعلاقات الفلسفية هي نوع من الترابطات بين الأفكار. وفي هذا الإطار يتحدث هيوم عن علاقة يعتبرها هامة، وهي علاقة التشابه. ويعتبرها ضرورية بشكل أو بآخر لكل العلاقات الأخرى. كما يعتبرها، على الخصوص، شرطا ضروريا لقيام القضايا. لكن معنى التشابه عند هيوم لا يتعدى أحيانا إمكانية المقارنة. وبفضل هذه الأخيرة يصبح ممكنا للأفكار أن تكون عناصر في القضايا. والواقع أن هيوم يسعى هنا إلى الحصول على نسق منطقي انطلاقا من الاستعمال الإمبريقي لمفهوم التشابه.

وعندما يغيب التشابه تصبح القضية سالبة (أو منفية). فالنفي عند هيوم هو غياب التشابه، أي غياب العلاقة. والنفي أيضا هو مكون من مكونات ما يسميه هيوم بالتعارض (Contrariété). لكن فيلسوفنا لا يعتبر التعارض علاقة قائمة بذاتها، بل هو علاقة ناتجة عن تضافر علاقتين أخريتين هما السببية والتشابه. "عندما يكون موضوعان متعارضين فإن واحدا منهما ينفي الآخر (أو يقوضه)، أي أن واحدا منهما سبب اندثار الآخر. وفكرة اندثار موضوع تتضمن فكرة وجوده المسبق"[30]. أضف إلى ذلك أن علاقة التعارض لا تصلح أن تقوم بين الأفكار، باستثناء بين فكرتي الوجود واللاوجود. لكن، على العكس من ذلك، النفي هو الأنسب أن يقوم بين الأحداث لأنه لا يستلزم أي تناقض. ولقد رأينا أن التناقض هو كيفية تقال على علاقات الأفكار (في ميدان الرياضيات والمنطق الصوري) وليس على الأحداث.
من الواضح أن نظرية هيوم في التعارض قائمة أساسا على نوع من المنطق تكون فيه الترابطات سيكولوجية فقط. ولقد سمحت هذه النظرية لهيوم بتجنب التعارض القائم بين مفهومي الصوري (formel) وغير الصوري (non-formel)؛ لأن هيوم لا يتصور قيام التعارض إلا بين فكرتي الوجود واللاوجود.

نلاحظ هنا أن هيوم يحاول رد كل الاستدلالات إلى الاستدلال السببي. فهل نجح في ذلك؟ نحن نعرف أن علاقات التلازم لا تقوم خارج الرياضيات. ولكن، عندما يتعلق الأمر بالقواعد العامة، يبدو أن هيوم مجبر على قبول "ترابطات ضرورية" (أي تلازمات) بين قضايا لا تمثل حقائق ضرورية (أي لا تنتمي إلى ميدان الرياضيات). يحاول هيوم أن يبرهن على أن "القواعد العامة" تستخلص من تجربة الترابط المستمر. واستعمالها في تعقلاتنا، بشعور أو بدون شعور، ليس إلا استدلالا. لكن الاستدلالات التي بواسطتها نطبق هذه القواعد العامة على الحالات الخاصة ليست استدلالات سببية. فرغم كون "القواعد العامة" مستخرجة من التجربة، فإن الاستدلال من القاعدة إلى الحالة الخاصة لا يمكن رده إلى عادة ذهنية.

بغض النظر عن هذه الاعتبارات يبقى المذهب الرسمي لهيوم هو المتمثل في القول بأن الاستدلال الذي يتناول الوقائع الأمبريقية لا يمكن أن يكون برهانيا؛ لأنه استدلال مؤسس على السببية. وهذه الأخيرة مؤسسة على التجربة. وسوف يكون من التهور تجاوز التجربة. وإذا كان لا بد لتعقل سببي أن يكون برهانيا فلا بد لعكس مبدأ اطراد الطبيعة أن يكون غير قابل للتصور. ولكن، نحن نعرف أنه ليس مستحيلا أن يلحق الطبيعة تغير ما. إذن فالتعقل السببي ليس برهانيا (أي ليس صوريا). وإذا كان التشابه يعني "وجود خاصيات مشتركة"، فينبغي أن تكون تجربتنا هي تجربة "الترابطات العامة". وإذا كان على الترابط أن يخلق عادات، فعلية أن يكون مطردا. ولكن، إذا كان الترابط بين الأحداث أو بين الأفكار مطردا، فإن تجربتنا ينبغي أن تكون مؤسسة على أجناس الأشياء وليس على الأشياء الشخصية. فهل يمكن إذن اعتبار ردود أفعالنا العادية عبارة عن اكتشافات لقضايا كلية؟ في هذا الصدد يتبنى هيوم الموقف القائل بأننا لا نستطيع افتراض مبدأ يؤسس العلاقة بين القضايا الشخصية، ولكن معرفة هل هذا النوع من المبادئ قابل للتطبيق على القضايا الكلية مسألة لم تحظ باهتمام هيوم[31].
من خلال ما تقدم يمكن استخلاص مجموعة من المميزات انفرد بها موقف هيوم الإبستيمولوجي، وهي في أغلبها خاصيات تقال على الأساس المنطقي لإبستيمولوجيا هيوم:
1)إذا استثنينا الرياضيات، أو العلوم القائمة على علاقات الأفكار بشكل عام، الترابطات الصورية غير ممكنة؛
2)لا يعتبر هيوم التناقض عيبا إلا في ميدان علاقات الأفكار (أي في ميدان المعرفة البرهانية).
3)كل قضية حول الأحداث الإمبريقية هي قضية احتمالية وليست برهانية.
4)يخضع تصور الربط بين القضايا الإمبريقية لسلوك قسري من طرف الذات العارفة مؤداه أننا لا نستطيع، في ظروف معينة، أن نمنع أنفسنا من انتظار أن يحصل B عن A أو افتراض أن A سبق B.
5)المنطق "علم وصفي" وهو بالنسبة لهيوم نظرية الظروف التي فيها يمر ذهننا من فكرة إلى أخرى.
6)المنطق التقليدي هو أساس، وجزء من، "الميتافيزيقا السيئة"g

مصادر ومراجع
Basson A.H (1958), David Hume, London, a Pelican Book.
Burton J.H (1846), Life and correspondance of D.Hume, 2 vols, Edinburgh.
Church R.W (1935), Hume’s Theory of the Understanding, London.
Descartes R.(1932), Regulae ad directionem ingenii (Règles pour la direction de l’esprit) texte revu et traduit par Georges Leroy, Paris : Boivin et cie.
Green T.H and Grose T.H (1875), Hume’s philosophical works, 4 vols, London : Longmans Green and Co.
Hume D. (1973), HTAL : Traité de la nature humaine, trad. A.Leroy, Paris : Aubier Montaigne, 2 vols.
Hume D. (1977), HEAL : Enquête sur l’entendement humain, trad. A.Leroy, Paris : Aubier Montaigne.
Kolakovski L. (1976), La philosophie positiviste, trad. du polonais par Claire Brendel, Paris : Donoël.Gonthier.
Locke J.(1972), Essai concernant l’entendement humain, traduction française de M.Coste, éd. Naert E., Paris : J.Vrin.
Malebranche N. (1972), Recherche de la vérité, éd. Rodis-Lewis G., Paris : J.Vrin, 2ème édition.
Passmore J.(1968), Hume’s Intentions, London : the Cambridge Univ. Press.

 

[i] - انظر لائحة المراجع في نهاية هذا المقال.
[2] - KOLAKOVSKI L.(1976), La philosophie positiviste, trad. du polonais par Claire Brendel, Paris, Danoël/Gonthier, p48.
[3] - نفضل هنا الإحالة على الترجمتين الفرنسيتين لهذين الكتابين كما يلي:
HTAL = Hume D. (1973), Traité de la nature humaine, traduction André Leroy, Paris : Aubier Montaigne, HEAL = Hume D. (1977), Enquête sur l’entendement humain, traduction André Leroy, Paris, Aubier Montainge, Si le lecteur souhaite consulter une version anglaise, nous lui conseillons l’édition de L.A ; Selby-Bigge (1978).
A treatise of Human nature, Second Edition, Oxford at the University Press.
[4] - Cf.Green T.H and Grose T.H (1875), Hume’s philosophical work, 4 volumes, Longmans, Green and co.
[5] - HEAL, pp37-38.
[6] - Cf.Basson A.H (1958), David Hume, London, Pelican Books, p16.
[7] - HEAL, pp75-76.
[8] - HEAL, pp75-78.
[9]- J.Passmore, Hume’s Intentions, p1. Passmore. انظر (هذا وصف اقترحه):
J.Passmore, Hume’s Intentions, p1.
[10] - HTAL, p357.
[11] - Cf. Descartes R., Discours de la méthode, pub. Par ch. Adam et P.Tannery, Paris : J.Vrin, pp17-18 et passin.
[12] - Cf.Locke J., Essai concernant l’entendement humain, Livre IV, chap. XLV.
[13] - Hume D., An Abstract of human nature…, Cambridge, Univ. Press, 1938, pp7-8, éd. J.M.Keynes.
[14] - HEAL, p81.
[15] - « These laws [principales] are the only links that bind the parts of the universe together », in Hume D., Abstract, p32.
[16] - HTAL, p357.
[17] - HTAL, p363.
[18]  - Passmore J., Hume’s Intentions, pp12-13.
[19]  - Hume, Abstract, p7.
[20]  - HTAL, p262.
[21]  - HEAL, p80.
[22]  - HEAL, p70.
[23] - يختلف هيوم في هذه المسألة عن لوك. فهذا الأخير لا يميز بين القضايا البرهانية والقضايا التجريبية ويعتبرهما معا من طبيعة واحدة. انظر:
Locke J., Essai, Livre IV, chap.III, parag.18.
[24]  - HTAL, pp142-143.
[25]  - HTAL, p171, note 1.
[26]  - Cf.Malebranche N., Recherche de la vérité, livre VI, chap.II.
[27]  - HEAL, p62.
[28]  - Passmore, op.cit., p22.
[29] - العلاقة الفلسفية عند هيوم هي التي تعبر عن طرف خاص يجمع بين فكرتين دون أن تربطهما علاقة طبيعية. فالمسافة مثلا، بهذا المعنى، علاقة فلسفية. نشير هنا إلى أن هيوم يحصر عدد العلاقات في سبعة وهي: التشابه، الهوية، التجاور في المكان والزمان، العدد والكم، درجة الكيفية، التعارض، السببية. أما العلاقات التي تنتمي إلى ميدان البرهنة فهي أربعة: التشابه، العدد والكم، درجة الكيفية، التعارض. باقي العلاقات تنتمي إلى ميدان المعرفة التجريبية.
[30]  - « Le contraste ou la contrariété est aussi une connexion entre les idées, mais on peut sans doute le considérer comme un mélange de causalité et de ressemblance. Quand deux objets sont contraires, l’un détruit l’autre ; c’est-à-dire il est la cause de son annihilation et l’idée de l’annihilation d’un objet implique l’idée de son existence antérieure ». cf. Hume, Enquête, p60, note 4 et p68, note 1.
[31]  - Passmore, op.cit., oo30-40.

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

السلام عليكم، إن فلسفة هيوم هي التي أيقضت كانط من سباته العميق، وأخرجته من الدوغمائية الوثوقية، وبعثت في نفسه الشك والريبة حول قدرة العقل على فهم العالم، وإن كان من فضل لها، فذلك يرجع إلى مساهمتها في تأسيس صرح فلسفي يقدر بحجم فلسفة كانط. شكرا...

السلام عليكم، إن فلسفة هيوم هي التي أيقضت كانط من سباته العميق، وأخرجته من الدوغمائية الوثوقية، وبعثت في نفسه الشك والريبة حول قدرة العقل على فهم العالم، وإن كان من فضل لها، فذلك يرجع إلى مساهمتها في تأسيس صرح فلسفي يقدر بحجم فلسفة كانط. شكرا لأستاذي عبد السلام بن ميس على هذه المقالة.

اقرأ المزيد
أحمد فريحي
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟