أضواء حول مقال "فكرة عن تاريخ كوني من وجهة نظر المواطنة العالمية" ل كانط ـ اسماعيل فائز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

على سبيل التقديم :
تأتي هذه المقالة الكانطية المعنونة ب "فكرة عن تاريخ كوني من وجهة نظر المواطنة العالمية" في سياق خاص يشكل ردا أو استجابة لملاحظة (حول إمكانية كتابة تاريخ للجنس البشري على ضوء الفكرة القائلة بغائيته، وسعيه لتحقيق نظام سياسي مكتمل) تمت إثارتها في مجلة ألمانية.
أما السياق العام للمقالة فهو يقترن بمناقشات فلسفية طويلة حول مفاهيم: التقدم والغائية والمواطنة العالمية )الكوسموبوليتية(...في إطار ما يعرف ب "فلسفة التاريخ"....وحتى نتمكن من استيعاب مضامين المقالة سنسترشد بالتساؤلات الآتية : هل يستقيم الحديث عن تاريخ كوني )عالمي(؟ ألا تخفي التواريخ الجزئية-   للشعوب والحضارات- وراءها خيطا ناظما بإمكانه أن يرشدنا إلى حضور فكرة التقدم والغائية داخل التاريخ ؟ ثم هل يمكن التأسيس لنظام سياسي عالمي ينقلنا من المواطنة الدولتية  -إن صح التعبير- إلى المواطنة العالمية ؟ وبالمقابل أليس هذا التصور تعبيرا عن منظور ميتافيزيقي نابع من خارج التاريخ لا من داخله ؟
بداية لابد من استيعاب التمييز الذي يقيمه كانط بين مجال الفينومين )الظواهر( والنومين) الشيء في ذاته(. فإن كان الأول يرتبط بالطبيعة المحكومة بقوانين الحتمية، فإن الثاني يحيل إلى الجانب الميتافيزيقي المنفتح على حرية الإرادة.
بيد أن هذا التمييز لا يلغي في نظر كانط خضوع الأفعال الإنسانية لقوانين الطبيعة الكونية. ووحدها هذه الأخيرة يمكن أن تنقل الأفعال الإنسانية )والتاريخية( من مجال الصدفة والعرضية إلى مجال الحتمية والغائية. لتمنحنا بذلك إمكانية إيجاد خيط ناظم- مرشد- للتاريخ، تتحقق فيه فكرة التقدم باتجاه المواطنة العالمية )نظام سياسي كوسموبوليتي(. فكيف يعرض كانط منظوره هذا في المقال ؟

1-القضية الأولى :
يدافع كانط هنا عن مذهب الطبيعة الغائي القائل بخضوع الظواهر الطبيعية لجملة من القوانين )الحتمية( التي لا تسير بشكل عرضي عبثي )الصدفة( بقدر ما تسير نحو تحقيق غاية، وجهة محددة، وإلا فإن الحديث عن قوانين طبيعية، واستعدادات فطرية يصير أمرا مستحيلا.
2-القضية الثانية :
انطلاقا من إثبات غائية الطبيعة يبين الفيلسوف أن الفكرة السالفة الذكر لا تتحقق، ولا تظهر فعليا، إلا عند النظر إلى الإنسان كنوع لا مجموعة أفراد.
فإن نحن أردنا أن ندرك قصدية الطبيعة يلزمنا الخروج من إطار النظرة الجزئية )الضيقة( للإنسان- الفرد- إلى النظرة الكلية) الرحبة( للإنسان-النوع- ومنه نستطيع استيعاب تبادل المعارف من جيل لآخر.
3-القضية الثالثة :
يتجه تراكم المعارف الإنسانية، من جيل لآخر، بشكل تقدمي، نحو انتقال الإنسان من مرحلة الطبيعة) الوحشية( -حيث تقوده الغريزة- إلى مرحلة المدنية )الثقافة(، إذ يصير الإنسان قادرا على أن يستمد كل شيء من ذاته، باعتباره ذاتا عاقلة ومريدة، الأمر الذي ينفي مرة أخرى عبثية الطبيعة.

4-القضية الرابعة :
يقترن السير الإنساني نحو الغاية السالفة الذكر بحضور سمتين –متنافرتين ومتكاملتين في آن واحد- في الطبيعة البشرية. الأولى تتمثل في قابلية الإنسان للاجتماع -  الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه بتعبير أرسطو-  والثانية تكمن في لا اجتماعيته )أي ميله نحو التفرد والانعزال(.
من هنا يبدو أن تفتح واكتمال الاستعدادات الطبيعية-الفطرية للإنسان، والتي ستؤهله للانتقال من البداوة إلى الثقافة، مشروط بتفاعل وجدلية هاتين القوتين: القابلية للاجتماع واللااجتماع.
5-القضية الخامسة :
إن قابلية الاجتماع واللااجتماعية التي تميز الإنسان، تضطره إلى العيش داخل المجتمع، والبحث في الآن ذاته عن سبل تفرده. ومن هنا تنشأ الصراعات داخل وبين المجتمعات . مما يفرض علينا ضرورة إيجاد آليات تحد من الحرية، وتسمح بتعايش "الحريات"، حتى نتجنب العودة إلى حالة البداوة -حالة الطبيعة وتحقق هذا الأمر رهين ببناء مجتمع مدني، وتأسيس نظام مدني عادل بشكل كلي، ما دام هذا الأخير شرطا لا مناص منه لتحقيق الغاية والمقصد النهائي للطبيعة )أي السماح للاستعدادات الفطرية للإنسان بالتفتح والاكتمال(.
6-القضية السادسة:
في هذه القضية ينطلق كانط من الفكرة التي تفيد النزوع الفطري للإنسان نحو العدوانية، وإساءة استخدام حريته  )الإنسان ذئب لأخيه الإنسان بعبارة هوبس(. وبغية تجنب الآثار السلبية-المدمرة لهذا النزوع الطبيعي )الذي يبقي الإنسان في دائرة الوحشية والبداوة(. فمن الضروري إخضاع الإرادة الخاصة لإرادة صالحة كونيا. الأمر الذي يقتضي الحاجة إلى ايجاد قائد أو مبدأ أعلى من البشر، يكون عادلا بذاته، وهي فكرة تبدو مستحيلة.
إن الاقتراب، إذن، من فكرة الانصياع لإرادة صالحة كونيا وتأسيس نظام عادل كليا يتطلب استحضار شروط ثلاثة: ايجاد نظام ممكن التحقق، واكتساب تجربة واسعة ) تنصهر فيها تجارب إنسانية عدة(، ضف إلى ذلك توفر الإرادة الخيرة لقبول هكذا نظام.
7-القضية السابعة :
ذكرنا مسبقا بأن تبلور المقصد النهائي للطبيعة يتطلب ايجاد نظام مدني عادل وكامل، وبأن هذا الأخير يقتضي ضرورة الخضوع لإرادة كونية صالحة، إلا أن المشكلة التي تواجه الإنسان- في هذا السياق- ترتبط بسيادة الصراعات بين الأمم والدول، والاحتكام إلى إرادة القوة. مما يؤدي إلى إشعال فتيل الحروب. هذه الأخيرة، وإن كانت عائقا أمام الغاية النهائية للطبيعة، إلا أنها تمثل، في الوقت ذاته، فرصة لإدراك الحاجة إلى نظام عالمي، أو جمعية أممية يكون من شأنها تدبير العلاقات الدولية وفق أحكام العقل، لتسير بشكل مواز لغاية الطبيعة ) بهذا يكون كانط قد مهد لقيام منظمة الأمم المتحدة بفكرته هاته. لكن هل تسير هذه المنظمة وفق ما تصوره كانط فعلا؟؟(
8-    القضية الثامنة :
اعتبر الفيلسوف الألماني أن تاريخ النوع الإنساني يسير بشكل متواز داخليا وخارجيا لايجاد نظام سياسي كامل، وهو في سيره هذا لا يعدو أن يكون مجرد منفذ للمخطط الثاوي وراء الطبيعة. إنه تاريخ غائي بامتياز. بيد أن بلوغ الغاية المشار إليها سلفا، يقتضي من جهة ترسيخ قيم الحرية والتنوير داخل الدولة، ومن جهة ثانية بناء العلاقات الدولية على أسس التعاون المشترك في آفق بناء السلم العالمي، وصرف جهود الدول أو توجيهها نحو السماح للأفراد بتفتح استعداداتهم، وتطوير قدراتهم، بدل التركيز على الحروب المدمرة.
9-القضية التاسعة :
 في هذه القضية الأخيرة يصل كانط إلى الدفاع عن مشروعية المحاولة الفلسفية التي تأخذ على عاتقها مقاربة التاريخ من منظور كوني-شمولي لا تجزيئي يتوافق والمخطط الغائي للطبيعة الساعي إلى بناء نظام سياسي عالمي )المواطنة العالمية في إطار اتحاد سياسي كوسموبوليتي(. إن هذه الأطروحة تستمد مشروعيتها في نظر كانط من الفكرة القائلة بنفي الصدفة في مجال الطبيعة، وخضوعها بالمقابل لفكرة الغائية.
كما تتأسس هذه الدعوى على حجج أهمها: تطور النظم السياسية التي تعاقبت على مر التاريخ، إضافة إلى إمكانية ملاحظة الرقي والتقدم الذي مرت به البشرية من حضارة لأخرى)بشكل خطي منتظم(. علاوة على ذلك فالتاريخ البشري- كالطبيعة – محكوم بغايات عقلية.
في الأخير يستدرك كانط محاولا تصويب فهمنا لفكرة التاريخ الكوني، معلنا أنها لا تتعارض مع الدراسة العلمية للتاريخ ولاتنفيها. فالمؤرخ مطالب بدراسة التاريخ وفق مناهج وآليات علمية دقيقة، دون أن تغيب عن أذهانه فكرة التاريخ الفلسفي/ فلسفة التاريخ. التي تستطيع أن تدلنا على الخيط الناظم للتاريخ الامبريقي )كما وقع(.
يتضح لنا أن كانط ينطلق - في مقاله هذا الذي يتسم بتسلسل وتماسك قضاياه- من المنظور التاريخاني الذي يدافع عن حضور فكرة التقدم داخل التاريخ وغائيته. ولا يخفى على القارئ حضور التصور التعاقدي الليبرالي الذي يتغي بناء نظام مدني سياسي عادل وكامل. وعلى هاتين الركيزتين تصبج الدعوة لتأسيس جمعية أممية أو نظام عالمي ينقلنا من المواطنة المحلية إلى المواطنة العالمية أمرا مشروعا ومبررا.
على سبيل الختم :
في الختام بوسعنا القول إن  القراءة المتمعنة للمقال تجعلنا نشتم رائحة موقف يتمحور حول ما يدعى ب"المركزية الأروبية" التي تنظر إلى الحضارات الأخرى بمنظور استعلائي، إذ تعتبر الحضارة الأروبية أفضل ما وصل إليه سلم الرقي البشري. وتستبعد المعطى الانثروبولوجي الذي يكشف عن تنوع الحضارات والثقافات الإنسانية، ويرفض وجود سلم قيمي موحد ) ولنا أن نستحضر هنا فكرة ليفي ستروس عن مفهوم التقدم.... (ومن هنا صعوبة الحديث عن تقدم حتمي خطي للتاريخ. لأنه تصور يحاكم التاريخ من منطلق تاريخ جزئي لا تاريخ الإنسانية ككل. علاوة على ذلك يبدو أن هذا التعدد والتباين الذي يسم الثقافات الإنسانية يعد عائقا أمام إمكانية تأسيس نظام سياسي عالمي.
هذه الملاحظات التي أشرنا إليها لا تنفي أهمية الموقف الكانطي في تسليط الضوء على الخيط الناظم لمسار التاريخ، ولا تلغي قيمة الدعوة إلى بناء المواطنة العالمية القائمة على الوعي بالأخطار المهددة للبشرية، وتكثيف الجهود لمواجهتها )التوزيع غير العادل للثروات- الأخطار البيئية... ( دون السقوط في فخ العولمة.

 المصدر :  إيمانويل كانط : فكرة عن تاريخ كوني من زاوية نظر المواطنة العالمية. ترجمة محمد منادي إدريسي .
http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%83%D9%88%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%B2%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%B8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-2493

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟