قبل أكثر من عام بقليل فحسب، قام فريق متلهف من علماء الآثار بحفرِ الطين والآبار الجوفية في حيّ فقير في القاهرة. كان الحي مقامًا على أنقاض مدينة فرعونية قديمة هي هليوبوليس. عملية الحفر كشفت النقاب عن تمثال ضخم يمثّلُ في اعتقادهم الفرعون رمسيس. لكن سرعان ما تحولت النشوة إلى خيبة أمل عندما اكتشفوا أن التمثال لم يكن لرمسيس وإنما لحاكم أقل شهرةً من القرن السابع قبل الميلاد في مصر، هو إبسماتيك الأول.
مع أنه كان شبه منسيٍّ من ذاكرة العالم الحديث، إلا أن إبسامتيك حظي بالاحترام في مرحلة ما باعتباره حاكمًا عزز العلاقات التجارية والدبلوماسية مع اليونان. فقد سمحت سياساته للهِّيلينيين بإنشاء مستعمرات على الأراضي المصرية لأول مرة، مما أفسح المجال أمام علاقة تجارية وثقافية ستصمد لأكثر من ثلاثمائة عام.
كان المؤرخون الهيلنييّون اليونان وسواهم في وقت لاحق، مثل هيرودوتس في مؤلَّفه “تاريخ”، على قناعةٍ أن هذه هي الشرارة التي أوقدت مشعل التحول المحوري في الثقافة اليونانية، الذي واكب الانبثاق البهيّ للفلسفة من التربة اليونانية. بالنسبة للكثيرين منهم، كانت هليوبوليس هي الرافد لأعمق المفكرين اليونان، مثل فيثاغورس وأفلاطون، والتي وتعلموا فيها أسس الميتافيزيقيا، أو علم الفلك، أو الهندسة.
لألفيّ سنة لاحقة، تأرجح نوّاس علم التأريخ بين باحثين رأوا مصر باعتبارها بئر الحكمة الغربية، وآخرين رفضوا تلك الفكرة بوصفها سرابا. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان معظم المؤرخين الغربيين قد رفضوا "الأطروحة المصرية" بشكل قاطع. ففي عشرينيات القرن التاسع عشر قام جان فرانسوا شامبليون بفك شيفرة الهيروغليفية المصرية بدراسة حجر روزيتا المتعدد اللغات. وهو ما أتاح قدرا هائلا من النصوص المصرية الناجية لتكون بين أيدي علماء القرن التاسع عشر الذين أدركوا على الفور أن طريقة التعبير المصرية القديمة اختلفت إلى حد كبير عن تلك التي وجدت في نصوص مثل الميتافيزيقيا لأرسطو أو الإنيادة لأفلاطون. لقد أعلن هذا الاكتشاف موت النظرية الهيلوبيتينيّة [القائلة بأن مصر هي منبع الفلسفة]، أو إلى هذا ذهب كثيرون. لقد رأوا الفلسفة بوصفها "معجزة إغريقية" خالصة، ولدت من رحم الثقافة اليونانية، التي كانت منارة العقلانية في المستنقعات الضحلة للفكر ما قبل الفلسفي في الشرق الأوسط وأفريقيا.
لكن بعد مرور قرن من الزمان سجلت الأطروحة المصرية عودة مدويّة، عندما لفت عدد من الكُتّاب الأميركيين الأفارقة والكاريبيين والإفريقيين انتباه وسائل الإعلام بادعاء أن الفلسفة اليونانية سُرقت من أفريقيا، وبالتحديد من مصر. وقد استشهد أكاديميون مثل الدكتور مولفي كيتي أسانتي بجامعة تمبل بمجموعة متنوعة من المصادر اليونانية والرومانية والمصرية الرئيسية والثانوية، للادعاء بأن الحضارات الأفريقية هي أصل الفكر والعلوم والطب الغربي. ورغم من أن مارتن برنال لم يكن عضوًا في "معسكر الفوقية الأفريقية"، إلا أنه كتب عما يعتقد أنه الجذور المصرية للفلسفة اليونانية في المجلد الأول من أعماله المثيرة للجدل "أثينا السوداء" (1987).
لكن عندما ألقى خبراء آخرون في الحضارة القديمة نظرة فاحصة على الحجج، اكتشفوا تفسيرات غير متسقة للنصوص بالإضافة إلى أدلة زائفة، كالادعاء بأن أرسطو سرق الفلسفة المصرية من مكتبة الإسكندرية (مع أن المكتبة قد أقيمت بعد موت الفيلسوف). وقد استخدم علماء المصريات والكلاسيكيّات المزاعم المستبعدة لإطلاق رصاصة الرحمة على النظرية القائلة بأن مصر كان لها تأثير كبير على الفكر اليوناني. وبدعم كامل من المؤسسة الأكاديمية، قام علماء مثل أستاذة كلية ويليسلي ماري ليفكوفيتز بإسقاط القضية إلى بديهية بسيطة: برع المصريون في الأسطورة، بينما قدم اليونانيون العقل والمنطق. لم تعلِّم إفريقيا شيئاً لليونانيين عندما تعلق الأمر بالفلسفة، وما خلاف ذلك محض خيال أو تمنيات مدفوعة سياسيا.
المثير للدهشة، أن معظم أولئك الذين جادلوا في تلك الفترة، سواء أيدوا التأثير المصري أم رفضوه، تجاهلوا بعض المعارف المذهلة التي كشفت عن درر مفاهيمية نادرة من نصوص مصرية عمرها آلاف السنين. بمجرد أن نفض الغبار عنها، كشفت هذه النصوص عن مواضيع مشابهة لبعض جوانب الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، مثل نظرية الأشكال، ونظرية العناصر الأربعة، والتنظيم العقلاني للكون. عندما ينظر المرء في مثل هذه التشابهات المفاهيمية على خلفية العلاقات المصرية-الهيلينية التي تعاظمت خلال فترة ما قبل سقراط من القرن السابع قبل الميلاد فصاعدا، فإن احتمال أن تكون الفلسفة الغربية قد تلقت بعضا من بداياتها الأولى من هذه الحضارة، يبدو أقل بعدا. لذا فلنلقِ نظرة سريعة على بعض منها.
واحدٌ وعِدَّة في مصر القديمة
بعكس اليونان الكلاسيكية، فلم تتبلور المفاهيم المصرية الكونية والميتافيزيقية والأخلاقية على مدى بضعة قرون. إلا أنها كانت نتيجة آلاف السنين من العمل الفكري، والتي طور خلالها مئات من الكهنة أساليب صعبةً، متناقضة في الغالب، لفهم الكون. كجزء من هذه العملية، ظهرت العديد من مدارس الفكر الديني التي تنافست في بعض الأحيان على إنشاء آلهة لكل واحدة منها باعتبارها الخالق الأسمى. هذا التناحر، أثار عن غير قصد عدة اختراقات فكرية في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، أدى إلى قيام المصريين بتطوير أفكار مشابهة بشكل ملحوظ لبعض الدعائم الأساسية للفكر الهيليني اللاحق.
في كتاب "الاستجابات اللاهوتية لتل العمارنة" (2004)، أظهر عالم المصريات الألماني الكبير يان أسمان كيف بدأت هذه العملية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد عندما صعد إخناتون إلى العرش. حيث سعى إلى تفكيك المؤسسة الدينية القوية التي وقفت في طريق سعيه للحصول على السلطة المطلقة من خلال استخدام نظرة علمية للعالم للقضاء على الشرك في مصر. وهذا يعني أنه حظر عبادة كل الإلهة المصرية واستبدلها بشخصية واحدة: آتون، وهو يجسد قرص الشمس، أو الطاقة الشمسية. متقدما على المفكرين الأوائل ما قبل سقراط، الذين قاموا، بطرق مختلفة، بتتبع مصدر الكون إلى عنصر واحد، أعلن إخناتون أن الطاقة الشمسية ليست فقط مقدسة، بل أنها العنصر الوحيد الذي نشأ منه الكون بأسره. وقد وُصف كل عنصر من عناصر الواقع المرئي على أنه "تطور" أو انبثاق عن تلك الطاقة. في المقابل، تم تجاهل عالم الآلهة غير المرئية، والعالم السفلي، والأرواح، كقصص خرافية من حقبة ماضية. أغلقت المعابد، وامَّحت الكتابات التي تعظم الآلهة الأخرى، ودُمِّرت تماثيل الآلهة الأخرى. كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها تبني شكل من أشكال التوحيد باعتباره العقيدة الرسمية للمملكة.
لقد شكل هذا الإيقاف الخاطف والمفاجئ لكوكبة هائلة من الآلهة صدمة كبيرة للنخبة الفكرية المصرية التي اعتادت رؤية معتقدات دينية متعددة تتعايش سويا في كافة ربوع مصر؛ هكذا، كان مفاجئًا ذلك الشرخ المفاجئ الذي وقع عندما رحل الفرعون المهرطق، فقد أعاد الكهنوت المخلوع تأسيس النظام اللاهوتي القديم بحماس لا مثيل له، لكن كان مدفوعا بحتمية جديدة: التوفيق بين التعددية المتنوعة للواقع المُحتفى بها مع الآلهة المتعددة، وعقيدة أخناتون التوحيدية.
أجاب الكهنوت على تحدي أخناتون بالوحدانية بطريقة سبقت الجهود المحكمة وربما حتى القديمة للحضارة اليونانية، جهود بارمنيدس وأتباعه على سبيل المثال لكشف الواحدية التي تقبع خلف عالم متعدد. لقد رممت الكهنوتية المصرية أفكارًا أقدم لتخمين الكيان الإلهي، المتمثل بالشمس، بوصفه مؤلِّفا للكون ومسيِّرًا له. وبينما عانوا من محدودية المفردات في عصرهم، حاول الكهنة الإشارة إلى صفات غير مادية لهذه الكينونة غير المعروفة، وأسموها "بالواحد"، و"المستتر"، و"شبيه بالروح". لقد زعموا أن الوصول إليه باللغة والعقل أمر متعذر، وأنه مقيمٌ في مكان أنطولوجي منفصل عن عالم البشر. ومن عجيب المفارقات، أن نفس الكهنة كانوا أيضاً يفكرون في أن ملايين الآلهة ومكونات الكون الأخرى كانت تقوم باستمرار بتطوير أجزاء من هذا الكائن غير القابل للوصف، والذي ظل حاضراً وغير مرئي في الكون. لقد استخدم المصريون بشكل متكرر كلمة آمون "المستتر" اسما مستعارا للإشارة إلى الكائن الأسمى المجهول الذي كان كائنًا واحدًا شاسعًا لا حدّ له وعددًا لا نهائيًا من الأكوان في الوقت نفسه. قد يكون هذا التأكيد على "وحدانية" غير مرئية ومضمونة للكون المنظور مرجعًا للفكرة اليونانية الإيلية (مدرسة فلسفية) التي تقول إن العالم المتنوع للإدراك يخفي أو يسيء تمثيل الواقع الحقيقي، وهو في الأساس كائن وحيد فريد وشامل الوجود.
العناصر الأربعة في مصر واليونان
في "مدينة رام مان: قصة مدينة منديس القديمة" (2010)، أوضح عالم الآثار الكندي دونالد ب. ريدفورد أن الكهنة في مدينة منديس المصرية، قد طوروا الفكرة القائلة بأنه في إظهار نفسه وإدارة الكون، يمكن تحديد الكائن الأسمى عن طريق أربعة عناصر.
تركزت هذه الفكرة على الاعتقاد الأقدم بأن العدد أربعة يمثل كُلية الكون واكتماله. وحريٌّ القول أنه كان هناك عدد قليل من النظريات السابقة لهذه النظرية، التي مثّلت أحيانا قمّة الإلهية بحيازة رؤوس عشرة. أما في منديس حدد الكهنوت العدد إلى أربعة، وفقا لمفاهيم قانونية كهنوتية لما يتألف منه الكون.
استخدم حكماء منديس كبشًا غامضًا بأربعة رؤوس يدعى بان باداج لإيضاح هذه الفكرة. كل رأس من هذه الرؤوس يرمز لإله، يمثل عنصراً مانحًا للحياة. وهكذا، فقد مثل أوزوريس الماء؛ وراع لأشعة الشمس أو النار؛ شو كان الهواء، بينما مثّل غب الأرض. عندما اتحدوا، شكلوا الكائن الأسمى، ممثلا رمزيا بالكبش ذي الرؤوس الأربع، والذي يحوي العناصر الأربع التي تشكل الكون وتحافظ على استدامته.
ويمكن أن يلاحظ أي شخص لديه معرفة أولية بفلسفة ما قبل سقراط أن ثمة تشابهات قوية هنا مع نظرية طورها الفيلسوف اليوناني إيمبيدوكليس في القرن الخامس قبل الميلاد. متأثرًا بِالفيثاغورية، يعود الفضل إلى إيمبيدوكليس إلى حد كبير في إدخال نظرية العناصر الأربعة إلى الفكر الغربي. بما أنه ربط كل عنصر (أو "جذر" كما أسماه) بألوهية منفصلة: زيوس كان الهواء؛ هيرا كانت الأرض؛ هيدس كان النار أو شمس. وكانت نستيس هي الماء. كما أكد إمبيدوكليس أنه عند اتحاد العناصر الإلهية الأربعة، فإنها كونت كائنًا أسمى، يطلق عليه سفايروس. واستخدم الفيلسوف شخصيتين استعاريتين أطلق عليهما اسم الحب والكراهية كسبب لتمازج العناصر أو انفصالها عن بعضها.
هل تأثر أمبيدوكليس اليوناني بمدينة منديس المصرية؟
لن تكون مبالغة أن نتصور الكبش ذي الرؤوس الأربع يصل إلى الشواطئ اليونانية خلال حياة إيمبيدوكليس. ففي نهاية المطاف، أقام فرعون أحمس الثاني معبدًا لـ بان باداج في منديس قبل قرن واحد من ولادة إيمبيدوكليس. وعلى خطى إبسماتيك الأول، امتد أحمس في العلاقات التجارية والدبلوماسية مع العديد من المدن-الدول الهيلينية. وكانت التحالفات مع الحكام اليونانيين ضرورية للحفاظ على حكمه، حيث اعتمد الفرعون على المرتزقة اليونان لإبقاء أعدائه تحت المراقبة. ويقال إنه ساعد في إعادة بناء المعابد في اليونان، وأرسل هدايا ثمينة لحكام إسبرطة ولندوس وساموس حيث كان فيثاغورس مشغولًا ببناء علاقات وثيقة مع حاكمها، بوليكراتس الطاغية.
وسواء كان إيمبيدوكليس قد استخلص أفكاره مباشرة من مصر أو من الوسطاء الفيثاغورسيين، كما تشير بعض المصادر القديمة، إلا أنه يظل من الواضح أن أوجه التشابه بين معتقداته ونظرائه من المصريين مدهشة للغاية.
وكالة العقل و نظرية المثل
وهناك ميزة أخرى للفكر المصري القديم الذي يقترب من الفكر اليوناني المبكر، وهي فكرة أن الكون مبني على أساس منطقي، ومنظم وفقا للمبادئ الفكرية. في أعقاب وفاة إخناتون، بدأ الكهنوت في اللعب بفكرة الذكاء الإلهي والتعبير. في البداية، تم تصور الآلهة فقط كثمرة التفكير الدقيق. ولكن سرعان ما فُسر الخلق بكامله باعتباره نتاجا عقليا إلهيا أطلق عليه المصريون اسم "القلب" وكلمة آمرة والتي تعني عند المصريين "اللسان".
وبلغ هذا المنظور الجديد ذروته تحت حكم فرعون سوداني المولد يدعى شاباكا وهو فرعون من الأسرة المصرية الخامسة والعشرين، والذي بلغ معه التفكير في الخلقية أحد أعظم تجلياته في عالم ما قبل الحقبة الهيلينية -وهي فترة متأخرة من الحضارة الإغريقية التي ازدهرت في الفترة المسماة العصر الكلاسيكي، وتمتد منذ أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى موت الإسكندر-أطلق عليه عالم المصريات الأمريكي جيمس برستيد، اسم "لاهوت منف". ومع أنه كان في البداية رافضا لفكرة وجود تأثير مصري في الفلسفة اليونانية، إلا أن برستيد أخذ منعطفًا جذريًا عندما اكتشف اللاهوت الموجود في مخزن مظلم في المتحف البريطاني. أتاح التحليل الدقيق للنص له أن يرى أن مؤلفيه يفكرون أن هناك مبدأ فكريا للخلق ذاته. لم يقتصر دور مؤلفي النص على تثبيت إله معبود صانع، هو بتاح، باعتباره الإله الأعلى،وإنما أشاروا إليه أيضًا باسم "القلب"، ما يعني أنه كان في الوقت نفسه، يمثّل الذكاء والكلمة الآمرة لكل الآلهة والبشر.
لا يتوقف إبداع منف عند هذا الحد. وقد أظهر عالم المصريات الأمريكي جي بي ألين مع يان أسمان - في كتاب "الخلق في الهيروغليفية: علم النثريات الكوني في مصر القديمة" (2007) وكتاب سفر التكوين في مصر: فلسفة حسابات الخلق المصري القديم (1998)- كيف ميز اللاهوتيون بين الأشياء و "الكلمات الإلهية" بأنه عندما حوّل بتاح المادة الموجودة إلى كون، فإنه كان يتبع مجموعة محدودة من النماذج. لقد رأوا المكونات المتنوعة للكون باعتبارها نسخا (أمثالا) من مفاهيم أصلية، بالطريقة نفسها التي يعتقد فيها الكتبة المصريون عمومًا أن الهيروغليفية قدمت تمثيلا بصريا للمفاهيم.
يشبه هذا التقييم عمل الباحث باتريك بويلان والمتخصص في الفن المصري ويتني م. ديفيس. في العشرينات أظهر بويلان كيف استخدم المصريون تعبير "الكلمات الإلهية" للإشارة إلى مفاهيم الأشياء بدلاً من الأشياء نفسها (في كتاب تحوت، هيرميس في مصر: بعض جوانب الفكر اللاهوتي في مصر القديمة). في السبعينات، تعجب ديفيز من الأفلاطونية المتأصلة فيما اعتبره الميتافيزيقا المصرية. وقد حاجج بكل جدية في كتاب "أفلاطون في الفن المصري" كيف أن هذه الميتافيزيقا - التي يتكون العالم منها من نسخ من الكلمات الإلهية - انعكست في فن الحضارة، حيث اتبع الفنانون مقادير رياضية ومجموعة من "الأنواع القياسية" لتصوير الواقع. وتمادى ديفيز لدرجة أنه أظهر أن هناك روابط "واسعة المدى" و "عميقة" بين الفكر المصري ونظرية نماذج ومثل أفلاطون.
ووفقًا لأسمان، فإن "أفلاطونية ما قبل النظرية" جسدت ميل الكتبة المصريين لرؤية الأسماء أو المفاهيم باعتبارها ترتيبا هرميا للكون. بالنسبة للمصريين، كانت تلك المفاهيم مرتبطة بشكل وثيق مع تحوت، إله الحكمة المعروف باسم "رب الكلمات الإلهية"، والذي قيل أيضًا إنه اخترع الكتابة. وبمرور الوقت، ارتدى تحوت عباءة الإله الخالق، الذي يوصف على نحو متزايد بأنه الابن، والكلمة، ثم العقل لإله الشمس رع. لذلك ليس من المستغرب أن يظهر تحوت في اللاهوت على أنه الكلمة الإلهية، ويقود الكون إلى الوجود حسب المثل والنماذج السابقة.
إن القراءة عن التفاعل المتشابك بين "العقل" و"البارع\ الخالق" و"النماذج" في مصر تجعل أي شخص على دراية بالأفلاطونية يتململ في كرسيه. إن محاورات أفلاطون المتوسطة والأخيرة مفعمة بأحاجٍ عن الكون باعتباره نسخة شائبة لسلسلة من النماذج الأصلية. في محاورته -التي رويت على شكل أسطورة، حكى أفلاطون عن خالق كوني استخدم النماذج لصياغة الكون من بين الفوضى.
وفي هذه المحاورة وسابقاتها، يوصف "الديميورغوس"، أو خالق الكون المادي بأنه "العقل" و"المنطق"، الذي يحكم الأكوان وفقا لمبادئ ومقادير رياضياتية دقيقة. وما هو أكثر إثارة للدهشة من هذه التشابهات المذهلة مع نظرية نشأة الخلق التي تعود لمنف المصري، هو أن أفلاطون منح الإله المصري تحوت مكانة عليا في اثنتين من محاوراته، شارحا دور الإله في التوسط بين النماذج الإلهية والنصوص المكتوبة، بالإضافة لفرض النظام على فوضى الحشود البشرية.
وبلسان حال آمون ( المشار إليه باسم تحموس في محاورة فيدروس) يعنف أفلاطون تحوت لتقديم الكلمة المكتوبة لتحل محل النماذج الأصلية. ويحذر الكيان الأسمى من أن الكتابة لها القدرة على تسميم العقل بفقدان الذاكرة، لا أن تداويه بذكرى المُثل. غير أن أفلاطون- في محاورة فيلبوس- يرد لتحوت اعتباره بالحديث عن توليه مسؤولية فرض النظام، والمفاضلة والوَحدة للتعددية اللامتناهية للصوت البشري.
ويعد عرض أفلاطون لفهم غير معتاد لبعض الأفكار ذات الصلة بتحوت الإله المصري أمرا ملحوظا، غير أن تقديمه كشفا ناقدا لهذه الأفكار هو أمر مذهل للغاية. ويعيدنا إلى إدعاءات اليونانيين أنفسهم أن فلسفة أفلاطون كانت مصرية الأصل. زعم ستاربو (الكاتب اليوناني) في "الجغرافيا" أن الأثيني ربما عاش ثلاثة عشر عاما مع كهنة هليوبوليس، كما أنه يدعي أنه زار أجنحة النوم في المعبد العظيم في مدينة الشمس، حيث عاش أفلاطون. بينما تمكن إكليمندس السكندري- واحد من أبرز معلمي المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية- من تسمية الكاهن الذي استشاره أفلاطون وتتلمذ علي يديه.
هل أمضى أفلاطون فترة في مصر؟ وهل يكون قد أدخل الأفكار المصرية في أعماله ونمقها؟
لا يعتبر البعض أن أي الفكرتين مبالغة، حيث أن أفلاطون كان يكتب في زمن من التعاون الدبلوماسي والعسكري المكثف بين مصر وأثينا في وجه العدوان العسكري الفارسي. غير أن الأثيني أعجب بمصر كثيرا كما أشار في محاورته"القانون". ورأى في تلك الحضارة القديمة ترياقا قويا للنظام السياسي الفوضوي آنذاك في أثينا الديمقراطية.
في التسعينيات، ربما قدم عالم المصريات الفرنسي جان يويوت أفضل تلخيص للقضية الواسعة عندما حاول أن يحل أكثر مفارقاتها بساطة: رغم اختلاف اليونان القديمة ومصر في طريقة عرض مفاهيمهم الخاصة والتعبير عنها إلا أن أكثر الأفكار جدارة بالنظر كانت متشابهة للغاية.
وأصر يويوت على تمييز اليونان الفلسفية عن مصر ما قبل الفلسفة. غير أنه قدم حلا للغز بإقراره أن هذا التمييز لا يملك أي تأثير يذكر على التلاقح بين الحضارات فعلى كل حال قدم كهنة مصر تأكيدا على نظرية العناصر الأربعة واتحاد الإله الواحد وتعدد الآلهة، وكذلك دور العقل الإلهي في الكون، قبل أن يولد أول فيلسوف يوناني بزمن طويل.
وبتنحية اختلاف أساليب التعبير جانبا، فمن الممكن تماما تصور أن المفكرين الهيلينيين قد استوردوا أفكارًا مصرية ثم طوعُوها لأغراضهم الخاصة. لا تزال أطروحة يويوت على قيد الحياة اليوم، حيث كشفت مجموعة جديدة من المتخصصين، مثل الكلاسيكية الأمريكية سوزان ستيفنز والفيلسوف روبرت هان، العلاقات المستهان بها بين الفلسفة اليونانية القديمة ومصر القديمة.
ومع ارتفاع وتيرة المناقشة، أعاد الاكتشاف الأخير في هليوبوليس الأنظار مجددا إلى إبسماتيك الأول. فاتحا الباب أمام فرصة جديدة لاستكشاف دوره في الربط بين حضارة إفريقية شمالية شرقية قديمة وحضارة أخرى أوروبية غربية وليدة. يميل المؤرخون المتخصصون بالعالم القديم إلى الاتفاق على أن الروابط تظهر في زخارف وتقنيات مصرية في الفن اليوناني القديم والعمارة والطب كذلك. ما يتبقى هوما إذا كانت السياسات الدبلوماسية والاقتصادية قد ساعدت على تنشيط الفكر الغربي.
وإذا كان تقييم يويوت صحيحا، فهذا يعني أن الأدلة تشير إلى أن أعظم إرث لإبسماتيك الأول هو العون على تهيئ وخلق الظروف للفلسفة الغربية حتى تتمكن من الانطلاق. في عالم اليوم المطارد من أشباح الشعبوية المنعزلة، وكراهية الأجانب يقف هذا الإرث التاريخي ليذكرنا بالإمكانات العظيمة للتبادل الحضاري.
----------------------------------------------------
ترجمة (الزهراء جمعة)
هذا التقرير مترجم عن: Philosophy Now