الهرمينوطيقا الجدلية عند هانز جورج غادمر - محمد بنعبد الرحيم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لا شك أن غادمر باعتباره تلميذا لهايدغر قد تأثر بأستاذه تأثرا كبيرا، وهذا ما نلمسه في تصوره للفهم وكيفية تهكمه على أصحاب التصور المنهجي في مجال العلوم الإنسانية. لقد دافع غادامر في كتابه "الحقيقة والمنهج" على تصوره الذي يذهب فيه إلى ارتفاع عملية الفهم عن أي منهج، ذلك أن الفهم هو فعل منفتح بقدر ما هو محايث للكينونة الإنسانية، إن الفهم في نظر غادامر ليس مفصولا عن التجربة الوجودية للإنسان، بل "ينبغي أن يدرك على أساس أنه فعل الوجود بمعنى أنه مشروع ملقى"1 مشروع لا ينتهي وحامل لتجدده وتطوره.

وبالاطلاع على متن "الحقيقة والمنهج" يتجلى بوضوح أن "غادامر لا تعنيه كثيرا المشكلات العملية لصياغة المبادئ الصحيحة للتأويل؛ إنه يود بالأحرى أن يسلط الضوء على ظاهرة الفهم نفسه"2، وهو يؤكد بوضوح على أن "الظاهرة التأويلية ليست أساسا مشكلة منهج على الإطلاق"3 بل المنهج يشكل حاجزا أمام الفهم أكثر منه مساعدا عليه.

إن المنهج لا يقدم لنا حقيقة جديدة وإنما يوجهنا فقط نحو نوع من الحقائق تكون مضمرة فيه سلفا، وبالتالي فإن الحقيقة لكي نحصلها  في نظر غادامر يجب أن يكون توجهنا توجها منفتحا يقوم على أساس جدلي، "فالحقيقة عنده لا تطلب منهجيا بل جدليا"4؛ إن المنهج له طابع الصرامة تقوم من خلاله الذات بالتغول على الموضوع والسيطرة عليه، فيما تكَون الذات عبر الجدل نوع من "التحاورية" مع الموضوع حيث تصبح الذات والموضوع يستجوبان بعضهما عبر أسئلة مشتركة، بل تصبح الذات خاضعا لأسئلة الموضوع، ولهذا "لم يعد الموقف التأويلي هو موقف سائل وموضوع يتوجب فيه على السائل أن يشيد مناهج تكفل له أن يوقع الموضوع في قبضة فهمه؛ بل أصبح السائل على العكس، يجد نفسه الطرف الذي يجري استجوابه: يستجوبه الموضوع ويلقي عليه أسئلته"5، وأمام هذه الحركة الجدلية في الفهم يؤكد غادامر على أن التعامل مع النص  يجب أن يكون تعاملا منفتحا يلتحم فيه أفق القارئ وأفق النص؛ أفق القارئ المتمثل في تجربته التاريخية وانتمائه لتراثه الذي يعيشه وبيئته أو بمعنى آخر كل ما يشكل أحكامه المسبقة، وأفق النص المتجلي في المضمون الذي يعبر عنه ومقصده ثم اللغة التي يتحقق بها، وهكذا تكون العلاقة غير قائمة على تسلط القارئ على النص بقدر ما هي قائمة على التحاور.

والأحكام المسبقة ـــ عند غادامر ـــ ليس عائقا أمام الفهم كما هو متصور عند أصحاب النزعة "الموضوعية"، بل هي ركيزة أساسية من ركائز الفهم، إنها "أساس قدرتنا على فهم التاريخ على الإطلاق"6، وهي ليست مجرد أفكار اعتباطية تهتدي بالهوى بل هي تعبير عن تاريخية الإنسان وارتباطه بتراثه الذي يزوده بهذه الأحكام، "والمؤول يسير في فهمه للماضي على هدي مجموع أحكامه المسبقة"7، ونحن لا نحاول فهم موضوع غريب عنا بل نحاول فهم تاريخ يرتبط بنا أكثر مما نتصور؛ "فالموضوع التاريخي وعملية المؤول الهرمينوطيقي جزء من تراث (أو سلسلة) تاريخية وثقافية هائلة."8 إننا نقف علي التراث ونسبح فيه رغم عدم استشعارنا له، إنه بالنسبة لوجودنا كالماء الشفاف بالنسبة للسمك، والتراث ـــ في نظر غادامر ـــ ليس ماضيا نختزنه في الذاكرة ويمكن اقتلاعه منها حسب الهوى بل هو وجود حي فينا ومعنا يربط لنا الأسباب بالحاضر والمستقبل في سلسلة تاريخية لا تنقطع، "وسماعه والالتزام به هو السبيل الواضح للحقيقة التي ينبغي إدراكها في العلوم الإنسانية"9، وتلك المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه ليست عائقا أمام فهمنا له بل هي "اتصال حي بين عناصر تتجمع وتتراكم لتتحول إلى تراث"10.

 إن التراث متصل بنا من جذورنا ولا يمكننا أن ننسلخ عنه، وأحكامنا المسبقة هي أساس فهمه وتوفيقه مع الحاضر لأنها جزء من بنائه، ثم لا يكفي فقط فهم هذا التراث بل الأجدر فهمه من أجل تطبيقه على مشاكلنا الراهنة: "يتخذ الفهم دوما دلالة التطبيق لأن التأويل الذي نمارسه إزاء التراث يرتبط دوما بالسؤال الذي نطرحه، أي مشكلاتنا الخاصة وإمكانية أن يقدم النص المقروء إجابة عن هذه الإشكالات"11، لكن كيف نتواصل مع التراث علما بأنه يحتوي على مراحل زمنية مختلفة عنا أشد الاختلاف؟

إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في اللغة، فاللغة في نظر غادامر هي التي تجمع الآفاق وتمكن من الفهم، "والكائن أو الوجود الوحيد الذي يمكن فهمه هو الوجود اللغوي"12، وبهذا فاللغة تكون هي واسطة الفهم لكن ليس باعتبارها أداة تقنية بل باعتبارها عالم نعيش فيه، "فأن تمتلك عالم يعني في الوقت نفسه أن تمتلك لغة"13، إننا نعيش في عالم لغوي ولهذا فلا يمكننا أن نتوهم أن الإنسان قد يتجاوز اللغة لأنه بذلك سيتجاوز العالم وسيتجاوز الكينونة وسيكون خارج الزمن وهذا محال، إن اللغة تأخذ أهمية كبرى في عملية الفهم، إنها هي التي تجعل عملية الفهم ممكنة، "وتوفر الوسيط، أو الأرضية الوسطى، والمكان الذي يحدث فيه الفهم"14، فاللغة هي المشترك الذي يمكننا من تأويل وفهم النص التراثي، وخصوصا منه التراث اللغوي، وغادامر يؤكد على هذا ويقول: "ولِفهم التراث اللغوي أولوية خاصة على كل تراث آخر."15  إننا ننتمي إلى اللغة بالقدر الذي ينتمي النص التراثي إليها، وبفضل هذا الانتماء "يغدو انبثاق أفق مشترك أمرا ممكنا"16، وبه  نجعل من التراث ـــ متجليا في نصوصه ـــ أقرب ما يمكن لنا، ونحن كذلك ننتمي إلى اللغة ونعيش فيها كما ننتمي إلى التراث ونعيش فيه، وبالتالي تصبح هي الأرضية المشتركة التي يمكننا أن نتواصل من خلالها مع شتى المواضيع التاريخية، ولكنها تبقى دائما بعيدة عن أي إمكانية لموضعتها وجعلها محل التأمل والدراسة العلمية فهي "حدث، وشيء تاريخي"17 كما الفهم أيضا "حدث لغوي جدلي تاريخي."18

 

الإحالات المرجعية:
(1) غادامر: فلسفة التأويل، الأصول، المبادئ، الأهداف، مرجع مذكور، ص: 40.
(2) عادل مصطفى: فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامر، مرجع مذكور، ص: 277.
(3) غادامر، جورج هانز: الحقيقة والمنهج: الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، 2007، ص: 27.
(4) نفس المرجع، ص: 279.
(5) نفس المرجع، ص: 280.
(6) نفس المرجع، ص: 308.
(7) عصر الهرمنيوطيقا أبحاث في التأويل، مرجع مذكور، ص: 84.
(8) نفس المرجع، نفس الصفحة.
(9) غادامر: فلسفة التأويل، الأصول، المبادئ، الأهداف، مرجع مذكور، ص: 16.
(10) نفس المرجع، ص: 54.
(11) نفس المرجع، ص: 23.
(12) الزواوي بغورة: الفلسفة واللغة، نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، مرجع مذكور، ص: 115.
(13) عادل مصطفى: فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادمر، مرجع مذكور، ص: 341.
(14) غادامر: الحقيقة والمنهج: الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، مرجع  مذكور، ص: 25.
(15) نفس المرجع، ص: 512.
(16) عادل مصطفى: فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادمر، مرجع مذكور، ص: 345.
(17) غادامر: الحقيقة والمنهج: الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، مرجع مذكور، ص: 25.
(18) عادل مصطفى: فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادمر، مرجع مذكور، ص: 349.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟