الغريب - قصة : الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

على ضوء ضئيل منبعث من فانوس متشبث بالجدار لم يفارقه منذ عُلِّق عليه، انكبت سارة على الرسالة التي وصلتها هذا المساء تقرؤها وتعيد قراءتها، تتوه بين حروفها وكلماتها، تتنكب المعاني وتلهث وراء الرموز المبثوثة فيها، تحاول جاهدة فك الطلسم الذي خطه المداد على بياض الورقة. لم تجد صعوبة في القراءة والفهم، فقد تعلمت أن تقرأ الرسائل منذ زمن رغم أنها لم تذهب يوما إلى المدرسة ولم تتلق تعليما، لكنها تعلمت، وهذا القدر من التعلم يكفيها ويحقق لها متعة الاطلاع على الرسائل التي تصلها.

عزّ عليها أن تمزق الورقة، وفكرت في حرقها، فهي تدرك أن النار تكتم الأسرار، فأشعلت عود الثقاب، وما إن دنا اللهب من طرف الرسالة حتى بدت الحروف فزعة هاربة من قدرها، فرأتها سارة واقفة بين يديها في هيئة متضرعة، رافعة رؤوسها إلى الأعلى حتى لتكاد تفر من الورقة لتعانقها تطلب صفحها وعفوها، فلم تدر أتبكي أم تتألم، ثم ابتسمت ورمت العود المشتعل على الأرض وأبقت الرسالة بين يديها وارتمت فوق الأريكة المتآكلة الأطراف، وأغمضت عينيها فرأته قادما إليها فاتحا لها ذراعيه وتعلو وجهه ابتسامته المعهودة التي تملأ تفاصيل وجهه. ها هو يأتيها بقامته المديدة وشعره المرجل المرسل على كتفيه وكلماته العذبة التي تخرجها من حزنه وتطوح بها بعيدا إلى عوالم قصية لا حدود لها مفعمة بالفرح الغامر والسعادة، وتملأ عليها وحدتها وتنسيها أنها عانت أثناء غيابه الكثير من القلق والتوتر. يحدثها عن أدق تفاصيل حياته، وعنها. ابتسمت وهي تراه، من وراء دموعها، الآن قادما إليها بعد كل هذه السنوات المريرة التي قضتها بعيدة عنه، وعجبت كيف حافظ على تلك الهيئة ولم تتبدل ملامحه، أو هكذا كانت تراه دائما، بل هي الصورة التي تريد دائما أن تراه عليها. كيف لم تفعل فيه الأعوام فعلها؟ فلم تغر عيناه ولم تغضن التجاعيد جبينه؟ عجيب أمره يتحدى العمر ويظل شامخا كالطود لم تحنِ الأيام ظهره، ولم يشتعل الشيب في فوديه. هكذا كان يعيش دوما، وهكذا انطبعت آخر صورة له في ذاكرتها. هي تراه كذلك. تنتظره وتسعد بلقائه، تخبئ له الأشياء الجميلة وتحتفظ له بها. لم يغاضبها يوما ولم يعاتبها، ولم يأمرها بفعل شيء ولم يعص لها أمرا. يؤرقها غيابه حد الضجر، ويسعدها حضوره حد التيه والخيلاء. تتباهى به أمام نفسها عندما تقف أمام المرآة تتأمل قوامها الرشيق وهي ترتدي ثوبها الذي أهداه لها في آخر ذكرى عيد ميلادها الذي احتفلا به معا، ومنذ ذلك العهد لم تُحْيِ هذه المناسبة أبدا، وظلت تلوك ذكرى تلك الليلة تتلهى بطعمها العذب الجميل. في ذلك اليوم نسيت هذه المناسبة الحميمة إلى قلبها، وانغمست في تفاصيل حياتها الرتيبة، وعندما ناداها فتح لها ذراعيه واحتضنها ثم طلب منها أن تغمض عينيها وبسرعة سحب الثوب من العلبة وشده من أطرافه، انبهرت بتلك الهدية، وبيديها الاثنتين تعلقت برقبته وغمرته بعدد لا يحصى من القبلات، واحتفلا معا كما لم يحتفلا من قبل. ولم تتح لهما الفرصة ليحييا هذه الذكرى معا مرة أخرى.
لم يبق لها من كل ذلك سوى بقايا تقاتل بها وحدتها وغربتها. لم تفرّط فيه لكن الأقدار طوحت به بعيدا، فرّقت بينها وبينه، فأحدث ذلك الفراق شرخا عميقا في نفسها وجرحا لم يندمل رغم كل المراهم التي وضعتها عليه، وظل مقيحا فاغرا فاه يمعن في تعذيبها كلما نظرت إليه. وظلت الرسائل الوسيلة الوحيدة للِّقاء. ومن وراء الكلمات المتراصة فوق الورقة كانت تتحسس تفاصيل جسده، وتشبك أصابعها الناعمة في شعره الطويل المرسل خداه أنفه أنامله الطرية. تتعطر بالعطر الذي يسكبه على الرسائل وتظل تستعذب رائحته العطرة وعيناها لا تكفان عن سكب الدموع.
هو الذي علمها كيف تقرأ الرسائل، ولكنه لم يعلمها كيف تكتبها، لا يريد أن يقرأ عذاباتها وآلامها، يريد فقط أن يطمئنها عليه عبر بريده الذي يصلها بانتظام منذ رحيله. فمنذ ما يناهز العشر سنوات لم تنقطع رسائله، ولم تمل هي من قراءتها. كان يكتب إليها في كل شهر مرة، مائة وعشرون رسالة خطها إليها، كل واحدة لا تشبه الأخريات، كان يتقن الكتابة إلى حد مبهر، ينتقي الكلمات بعناية فائقة، يقلب ذاكرته باحثا عن أجمل العبارات، يريد أن يدخل عليها البهجة، فهو يعلم أنها وحيدة، وبصبر جنية كان ينتقي التعابير ويحول رسالته إلى باقة فيحاء ويغمرها بالقبلات ثم يرسلها.
أدمنت مواعيد وصول رسائله، ولم يتأخر عن موعده منذ رحل. وها هي أكداس أحاسيسه منثورة الآن فوق أثوابها وبين طيات ملابسها، وفي زوايا غرفتها وفي تفاصيل حياتها. وها هي تراه من وراء الكلمات والحروف كما رأته آخر مرة يكفكف دمعه ويدير ظهره لها ويمضي. لم تجر خلفه ولم تلح عليه أن ينتظرها ولم تمد له يدها مودعة. اكتفت بتنهيدة عميقة وأغمضت عينيها لتحبس دموعها حتى لا تفسد كحل رموشها، وظلت تلك الصورة موشومة في ذاكرتها ردحا من الزمن ولم تمحها إلا بعد أن أقضت منامها ليالي كثيرة.
لم تقدِّر يوما كم الحزن الذي سيخلفه رحيله، ولم تهيئ نفسها للعيش بدونه، ولم تفكر أبدا أن الأقدار قادرة على التفريق بينهما لكنها أذعنت في النهاية لهذه الإرادة العمياء ورضيت بهذا القدر المحتوم. وأصعب يوم عاشته كان يوم رحيله. بهدوئه الذي عهدته فيه جمع أفراحه وأحزانه وأشياءه ورحل. حمل معه بقايا وجع ورحل. طوحت به المقادير بين دروب كثيرة لم تكن هي تعرف عنها سوى ما كان يخبرها به عبر الرسائل. لم يحدثها يوما في رسائله عن أحد سواه، ولم يسألها يوما عن أحد سواها. لا يريد أن يطلع الآخرين على همساته لها، يريدها له وحده ويريد نفسه لها وحدها.
مائة وعشرون رسالة بملايين الحروف وآلاف الكلمات ومئات الجمل وعشرات الفقرات خلت كلها من ذكر إنسيٍّ غيرهما. عجيب أمره لا يمل من الحديث عن نفسه لا عن غرور أو نرجسية، بل لأن رسائله لا تتسع لغيرهما. لم يبح يوما بسر إلا إليها، ولم يستحلفها يوما أن تكتم أسراره فهو يعلم علم اليقين أنها قبر تلك الأسرار، تصغي إليه بانتباه بالغ، وتسدي له النصيحة، ثم تجمع كل كلماته وتشعل كومة قش وترمي بها فيها لأنها تعلم أن لا شيء يكتم الأسرار مثل ألسنة اللهب.
كل شيء حولها يذكرها به، أشياؤه المبعثرة، رسائله، أشرطة الكاسيت الضاجة بالأغاني العذبة، كتبه أقلامه، جواربه، أحذيته، قوارير عطره، آلة حلاقته...أبقتها كلها في أماكنها من الغرفة وأقفلت عليها الباب، وتتفقدها كل يوم، تعطر صباحها بدموعها، كلها تحمل بعضه. ذكرياته في ألبوم صوره توقظ فيها الرغبة الملحة في البكاء، وبدموعها تطفي ذلك اللهب المستعر في فؤادها.
دقات متتالية على الباب توقظها من غفوتها وتنغص عليها وحدتها. تنهض متثاقلة. لا تسأل من الطارق. تمد يدها إلى المزلاج، تسحبه ببرود، وتجذب ظلفة الباب وتتسمر فاغرة فاها أمام هذا الواقف أمامها بقامته المديدة لا تدري أتحضنه أم تهوي لتقبل قدميه اللتين قادتاه إليها بعد هذا الغياب الطويل.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة