الشك – قصة: إحسان الشرعي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

استيقظت على صوت الدش، غمغمة غنائها ممزوجة بريح البخار وعبير الفراولة المنبعث من صابون الاستحمام، الساعة تشير الى السابعة والنصف. استيقظت قبل موعدها بنصف ساعة أو يزيد، عادة تكون خمولة تنهض على مهل كقطة كسولة وبذهن شارد، أما اليوم فلا.
منذ فترة صارت منتعشة ومنتشية دون سبب واضح. تقطع شرودي بخروجها من الحمام، أدعي النوم لأراقبها وأتأملها، تخرج ملتفة بفوطة زهرية منعشة بهالة بخار خافت كقديسة بشعر مبلل. كم تبدو لذيذة هذا الصباح! تضع كريم الفانيليا على كل الجسد، تسرح شعرها المبلول، تضع عطرا شريرا على أسفل رقبتها وخلف أذنيها، ترتدي ثبانا رقيقا أحمر مع صدرية سوداء، لماذا لا تحب التناسق؟ ترتدي فستانا تحت الركبة، كما كانت ترتديه لزيارتي في سنوات خلت، تحمل شنطة صغيرة، ترتدي صندلا صيفيا، وتتسلل الى خارج الشقة، وأنط لأراها عبر النافدة، توقف سيارة أجرة حمراء كحلوى طفولية.

تغيب عني نص ساعة ،ثم أكثر، ثم أكثر ،الوقت بطيء ،لا أفعل شيئا سوى التحديق في الساعة.
تبدو الشقة جامدة وساكنة، لا شيء يتغير، لا أحس أنى أتنفس، لا أستطيع الكلام، أخجل من أن أمزق الصمت المحيط، كيف تتوقف الحياة لغيابها؟
الآن مرت ساعتان على غيابها، يخترق المفتاح الصمت الذي حضنته، تدب الحياة، ربما أستطيع التنفس الآن.
تبتسم لي تنظر إلي بمكر لطيف، تقترب تداعب خدي الأيمن تنحني تقبل خدي الأيسر، أسارع لأشم عنقها، صار العطر أخفت، لكن عرقها أزكى، لماذا تعرقت، كان الجو لطيفا هذا الصباح؟
ماذا تعني هذه القبلة؟ هل تعتذر عن موعد الصباح، من كان يا ترى وأين التقيا؟ لابد أنها ذهبت إليه كما كانت تأتي الي، تسللت عبر الدرج، في الطابق الأول، تسارعت خطواتها مع قلبها، فتح لها الباب، تأكد أن لا أحد يلاحظ، لفها يديه وأدخلها جنته.
دخلت صدره كما كانت تدخل الي، احتفل بعطرها كجولة في حديقة مزهرة أو كقنينة عطر انسكبت سهوا ،ثم سحبها بيديه الى الشراشف البيضاء ،تداخل عطره الذكوري بعطرها ،غطى شعرها النصف مبلل وجهه، امتزجت روحها بروحه انتظمت دقات القلوب في ايقاع محتفل، تحسس تبانها الأحمر ،سخر من تناقضه مع صدريتها ،قبل الشامة البنية أسفل الظهر ،تحسس النمش على كتفيها ،ثم ودعها دون أن يطل عليها من النافذة كما كنت افعل، بل ظل مستلقيا كقيصر ضخم ،يدخن سيجارته على مهل .أما هي فاستقلت طاكسي العودة وعادت الي ،بعد ساعتين ودقيقتين ،عادت الي واعتذرت بقبلة على خدي الأيسر.
أو ربما لم يحصل شيء مما فكرت فيه، كانت على موعد مع طبيب الحي، انتظرت ساعة في قاعة الانتظار، أدخلتها الممرضة الى قاعة الفحص الى أن جاء, فحص معدتها دون أن يلاحظ الشامة، ولا انتبه الى لون التبان ولا استفسر عن سبب التناقض بين لونه ولون الصدرية. هل يقسم الاطباء على تجاهل تبابين النساء؟ لا أظن، وإن أقسموا جميعا، هي خلقت لتكون الكائن المشتهى على هذه الأرض، كل شيء فيها بمنتهى الرقة والجمال: نمشها، خصرها الدقيقة، أنفها الأفطس، طلاء أظافرها الزهري، صوت كعبها، تردد نفسها، صمتها، وكلامها.
ربما زارت صديقة قديمة في مقهى على ناصية الطريق حدثتها عني، وتفاصيل حكايتنا، وعن يومياتنا وقهوتنا، وفشلها في تجهيز الحساء الذي أحب. هي لا تنجح فيه لأنها ببساطة لا تحاول، متعجرفة، أو لأنها لا تحبني ولا تهمها حاجاتي المفضلة، ويحق لها ذلك. فمن يحب رجلا شاردا يركز في التفاصيل ويؤلف القصص.
أو ربما كان صديقا أو يدعي على الأقل ذلك ليكسب ثقتها، ودها، ثم يتسلل كالشيطان الى الجنة، أن تتوالى الأحداث تلقائيا، وفي لحظة انهيار حين تكون منشغلة في سرد تفاصيل عصبيتي، مزاجي السيء أغلب الوقت وكيف أغضبها، وأزعجها، وأهملها، ينشغل هو بمراقبة حركة شفاهها المكتنزة، كحبتي فرولة ندية، يتخيل أنه يلثمهما فيدخل تلقائيا الى عالم السعادة المطلقة المتجددة وغير المنقطعة حيث يتوقف الزمن، ترفض في بداية الرحلة ثم تستسلم ، فيقبل عنقها ،ثم أسفل ذلك ،ثم أسفل وأسفل الى ان يصل اللازورد المقدس.
او ربما نوبة قلق حاد ،يمنعني تعنتي من مراجعة خبير أو طلب الحل، أو أنني عبقري بعقل لا يتوقف عن تأليف القصص سلمت نفسي طوعا للشك كمن يبيع عمره للشيطان يكتب على نفسه صك التعب ، الشك قاص عبقري يرسم التفاصيل ويختار الملامح ولون الشراشف ،ولون مزهرية غرفة النوم ونقوش الطلاء، يجعلك تشم وترى ما لا يمكن أن يحدث ،في قالب هلامي من الممكن واللاممكن ،كل شيء قابل ان يحدث ،وكل شيء قد لا يحدث ابدا، وبينهما موت، واللاموت دوار وغثيان وضباب ،يضبط الساعة ويخلق الزمن ،الشك إله عظيم ملكوت مجيد ومرعب ، يخنق أكثر مما يخلق ،لا يلد إلا الدمار ،يجعلك تموت لحظة ،بلحظة، ثم تنهض من الرماد ،يجعلك يا ملاكي قديسة وشيطانة، يجعل هرتي المدللة عاهرة ، لا شيء يميز بين عهرك وقدسيتك ،لا شيء يدينك و لا شيء يخلصك من هلاوسي والشك.

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

أستاذة إحسان
عندما تكون الكتابة أسلوب حياة أي أنها أكثر من هواية يكون الإبداع متميزا ويكون للكلمات وقع مختلف وللسرد طعم خاص ، لا زالت اقلامك أوراقك خربشاتك تفصح دوما أنك حقا موهوبة...
اتمنى أن نقرأ لك رواية في القريب من الأيام
تحياتي

عبد الرحيم بصلا
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة