عجوز المعبر – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لم تمنعها سنواتها الثمانون من الوقوف في آخر الطابور، فكم انتظرت مثل هذا اليوم لتكون على بعد معبر لتقبّل تراب وطن غابت عنه طويلا. وحيدة جاءت تكابد كي تحمل حقيبتها شبه الخاوية وعكازها الذي لازمها منذ عقد.
الصف ممتد وطويل كيوم قائظ، والعرق يتصبب من الجباه، والعيون تبحلق في الفراغ. انتظموا جميعا في صف ممتد كحبات عنقود، ألوان وأجناس من العابرين، الكل يرغب في المرور. سألت رجلا يتسمر جامدا أمامها كالتمثال، أرادت أن تفتح معه كوة للحديث "منذ متى وأنتم هنا"؟ أجابها بحياد دون أن يدير رأسه إليها: "منذ ما يزيد عن الساعتين". لم يرحم ضعفها ووحدتها وغربتها. وتساءلت في سرها أكان سيجيبها بهذا البرود لو أنها سألته هذا السؤال منذ خمسين عاما عندما كان خداها ينثران أريجهما وعندما كانت سنواتها الثلاثين تضج بأنوثتها؟ عله يكون غريبا ووحيدا مثلها، أو عله ضجر من طول الانتظار فلم يُبْدِ رغبة في الكلام وآثر الصمت، أم تراه من أولئك الذين يعتبرون المرأة شر لابد من تجنبه؟

فكرت في هؤلاء الذين يصطفون أمامها، لعلهم جاؤوا من أصقاع مختلفة، كانوا يحيون فرادى في أوطانهم، انقطعت بهم السبل كأنهم نبتوا فجأة واستعجلوا الرحيل فلم يتعارفوا، باعدت بين مهجهم الوسائط الحديثة، يجالسون بعضهم البعض في المقاهي وفي الساحات العامة وفي القطارات والحافلات، لكنهم يتخاطبون مع آخرين بعيدا عنهم، لكل منهم عالمه الافتراضي، مثلما يفعلون الآن، لا تسمع أصواتهم، ابتسامات رقيقة جافة وهم يتصفحون الفايسبوك أو الواتساب. هكذا صارت البشرية مشتتة تعيش بلا معنى، مجهول يتعامل مع مجهول، صور تُنَزَل وأخرى تسحب، والكل يشاهد في صمت ويتفاعل في صمت أعمق.
ظلت تحدق في الوجوه أمامها وتلوك ذكرياتها في رتابة.
الصف الطويل الممتد يزداد خلفها طولا، وأمامها لا يتزحزح، وفي نهايته نافذة صغيرة مشبكة بقضبان حديدية متينة تفصل بين الجمركي والعابرين، يسحب الجواز من بين الفجوات في حركة رتيبة، يدون المعطيات في جهاز الكمبيوتر، يعم الصمت فلا تُسمع سوى ارتطامات أنامله بأزرار الجهاز في حركة عصبية تنبئ بانفعاله الدائم، يختم بعدها الجواز ثم يرمي به فوق المنضدة الرخامية التي تحتضن القطع الحديدية، فيلتقطه صاحبه ويمضي فرحا كأنما تسلم صك الغفران لدخول الجنة. هو ذا نفس الإحساس الذي شعرت به منذ أربعين سنه وهي تمر من أمام هذا الشباك الصغير وهي تستمرئ هذا الإحساس العذب بالسعادة لتتوه بعده بين الحدود والبلدان في عوالم جديدة لم تكن لتطأها قدماها حتى في أحلامها. قادتها أقدارها إلى تلك البلاد البعيدة، سافرت ذات خوف مع زوجها فر من بلاده هربا من زنوخة الزنانين وضيق السجون، فر هربا من أزيز الأبواب الحديدية، اختار المنفى على الموت في أحد الأقبية المظلمة الندية. ذكريات لا تمحى بيسر، هجرت أهلها وعبرت معه من غربة إلى غربة، تاهت بين الحدود يحدوها تعلق شديد به في زمن نكس الجميع رؤوسهم وأحنوا هاماتهم.
الصف طويل لا يتزحزح، وأشعة الشمس الكالحة تلطم الوجوه، وموظف المكتب في الداخل ينعم بالمكيف والراديو لا يعبأ بهؤلاء المعذبين، ومن حين إلى آخر يلتقط هاتفه الجوال ليرد على مكالمة أو يجري أخرى. ولا أحد يتذمر أو يشكو، تآمر عجيب على الكلام واتفاق غريب على الصمت. لا أحد يجرؤ على النطق.
وحيدة هي الآن تماما مثلما عبرت منذ عقود أربع، لم تنجب أبناء، جعلتها الغربة عقيما، وجمدت برودة الشمال أوصالها ويبّست أرحامها. كم حلمت ببيت يكثر فيه صراخ صغارها وأحفادها، لكن كل ذلك ظل حلما يراودها ويقض عليها مضجعها، ويئست من تحقيقه عندما أدركها سن اليأس فلم تعد تحفل بتلك الأحلام، بل طمرتها، فهاهو العمر السريع يمضي بها نحو النهايات المؤلمة ويدحرجها ككرة الثلج لتتهاوى من أعالي القمم لتستقر عجوزا عاجزة وحيدة تكابد الآن من أجل الحصول على ختم جواز سفرها لتحتضن تراب وطنها علها تظفر فيه بقبر يأوي بقايا جسدها.
عاشت هناك وحيدة وغريبة بين غرباء لم تفهم يوما لغتهم ولم تألف عاداتهم وتقاليدهم. يغادرها زوجها كل صباح ولا يعود إلا بعد الغروب، تؤنسها ذكرياتها التي تلوكها في صمت، وقد يغيب عنها اليوم واليومين ثم يعود محملا ببعض الهدايا ليسكتها ويسترضيها فترضى لأن لا بد لها من الرضا. تجرأت مرة وغادرت الشقة التي تسكنها بعد خروجه، وجدت أناسا يتكلمون لغة غريبة ويبرطمون بكلمات مبهمة ويتبادلون التحايا والضحكات. وتوغلت بين المغازات والأروقة، وانتقلت من نهج إلى نهج ومن شارع إلى شارع منبهرة بما ترى. وبعد مضي ما يناهز الساعتين من التجوال والانبهار قررت العودة، لكنها لم تعرف الطريق المؤدية إلى العمارة التي تقيم فيها. وقفت كالمعتوه تحدق في العلامات واللافتات، تتفرس الوجوه تسير في هذا الاتجاه يمينا مرة ثم شمالا مرة أخرى. سارت بمحاذاة سكة الميترو مسافة طويلة ثم عادت في الاتجاه المعاكس، لم تسأل أحدا لأن لا أحد سيفهمها. بكت وانتحبت، رغبت في الذهاب إلى مركز الشرطة لكنها تراجعت خوف افتضاح أمرها أمام زوجها إذا تم استدعاؤه. وفجأة رأت جارا لها رأته مرة وهي تطل من النافذة فخيل إليها حينها أنه ينظر إليها فخزنت ذاكرتها ملامحه منذ ذلك اليوم. لم تكلمه لكنها ظلت تتبعه إلى أن قادتها خطاه إلى الزقاق الذي تقيم فيه. وحين رأت العمارة جاثمة لعنتها بكل الكلام الموحش الذي تعرفه.
الصف الطويل الذي لا ينتهي، والحقيبة الجاثمة بجانبها تلهبان فيها نار الشوق إلى تربة الوطن، تريد تقبيلها واحتضانها، فما الإنسان بلا وطن سوى ورقة مُزِّقت من كتاب ثم حملتها الرياح وظلت تائهة تبحث عن دفتر يأويها لكنها وجدت كل الأبواب موصدة.
ألا أيها العمر السريع المتفلت من بين أيامنا تحملنا على أكف الشوق والتيه ثم ترمي بنا بين الفلوات وتتركنا نخبط خبط عشواء وترمي فوق ظهورنا أحمالا ثقالا لا طاقة لنا بحملها، ونظل نحلم بيوم نفرح فيه ونمرح تماما مثلما كنا نفعل ونحن صغار، لكنك سرعان ما تخذلنا رافعا في وجوهنا اللآت، فتترهل أجسادنا وتضعف أبصارنا ونهرم ونعجز.
جواز السفر بين يديها، تحدق فيه يأسر نظرها الشعار الرائع الذي يوشح هامته وينتصب شامخا يعلن عن وجوده، وتلك الحروف الذهبية المكونة اسم وطنها فتطرب لسماعها وهي ترددها، كم يهز هذا الاسم مشاعرها، وكم كانت تجن عندما يتردد صداه عبر نشرات الأخبار. هذا الوطن الذي غادرته مكرهة، وهاهي تعود إليه مكرهة. مات زوجها منذ شهرين، ظلت وحيدة تحدق في فراغ البيت والمسالك التي كانت تقوده إليها. الغرف خاوية والوحدة قاتلة، والماضي ممض قاتم والآتي أشد مضاضة وأكثر قتامة. منعوها بإصرار من العودة بجثته ليدفن في أرض أجداده، فطمرته في حفرة دون صلاة ودون دعاء. اختار الغربة فعاش غريبا ومات غريبا وسيبعث غريبا.
ساعتان مرتا وهي تتقدم ببطء وتتذكر ببطء، نبهها إلى دنوها من النافذة صوت قادم من الخلف يحمد الله على دنو الخلاص، أفاقت من أحلامها، ابتسمت في سرها، لم يبق أمامها سوى رجلين. هاهو الفرح يقف خلف الحدود فاتحا ذراعيه لاحتضانها، ولم يعد يفصلها على الجثو على ركبتيها لتقبيل أرض وطنها سوى الختم الذي سيتفضل الجمركي بوضعه على إحدى صفحات جوازها ليمنحها تأشيرة عبور من عالم إلى عالم ولتودع غربة وتتعطر بعطر وطنها.
ها هي أخيرا تمد جواز سفرها بيدها الشاحبة المعروقة، وهاهو الموظف الشاب الوسيم يسحبه، يتأمل الصورة، يقرأ الاسم ويعيد قراءته، يرفع إليها نظرات جامدة تخترق سنواتها الثمانين، يسألها إن كان هذا الجواز لها، تتلعثم، تتحجر الكلمات في حلقها، يجف ريقها، وبالكاد تهز رأسها بالإيجاب. تنهال أصابعه الغليظة على أزرار الحاسوب فتئز أزيزا متواصلا، ثم يسحب سماعة الهاتف ويجري مكالمة سريعة بلغة لم تفهمها. وفجأة ينفتح باب جانبي ويمرق منه رجلا أمن، سحباها بغلظة دون إحساس بعجزها وضعفها وولجا بها بابا آخر، وخلفها تقف حقيبتها شاهدة على فجيعتها وارتباكها.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة