- هل قررتَ أين ستدفن؟
- نعم، في المقبرة القديمة. هناك على الأقل سوق أسبوعي يؤنسني ضجيج باعته. أكره صمت المدافن لأنه يزيد الوضع بؤسا.
- ومن قال أنك ستشعر بالوحدة؟
بدا الأمر نكتة قبل شهر، أما الآن فهي تُجري معي الترتيبات اللازمة للرحيل. دنيا بنت كلب! ولأنني ابن ناس فبطن الأرض خير من ظهرها هذه الأيام. طمأنت جاراتها بأنها أعراض شيخوخة مزمنة، وأن ثلاثين عاما من العشرة تشهد على لحظات جنوني. تأوهت إحداهن وهي تسرد فجيعة الترمل. الوحدة سم زعاف ينهش قلبها منذ رحيله.
- من يذهب للموت برجليه؟
- أنا !
طرقت باب جلول الفأر، وجددت وصيتي للمرة العشرين بأن يضع أسفل اللحد حجارة مبلطة. إلى أن ينخر الدود عظامي فمن حقي الاستمتاع بنومة هادئة. وبعد أن ينصرف المشيعون يتولى بيديه اللئيمتين غرس نبتة صبار عند رأسي. أرجو أن ينغرز شوكها في لحوم السكارى والمشردين، ويخدش أكف الطامعات في خيوط كفني، لجلب الحبيب ورد المطلقة.
لو كان للجنين في بطن أمه حكمة شيخ مثلي لما خرج! من يشتري هذا التعب من دنيا لئيمة وبنت كلب؟ ابتسم كعادته وهو يبلع ريق التشفي. متى يزيح هذه الجيفة عن كتفيه؟ تعوّد في سائر الأيام ألا يبدأ عمله إلا حين تفرغ النسوة من موشح لطم وندب ونواح، وأحيانا بعد أن تمر قسمة التركة في أحسن الظروف. لم يعترض مساره المهني شيخ مثلي، يفاوض ويساوم، ويعيد النظر في تصميم داره الآخرة!
انحنى جلول ليسحب نعله البلاستيكي، ثم جذبني بسأم معتاد. ماذا تتوقع من حفار يحصي عجائز البلدة وشيوخها؟ غنيمته هذا الصيف اثنتا عشرة جيفة، ما بين ميت حتف أنفه، أو غريق في السد المجاور. همس في أذني شامتا:
-لا تنس أن تحرر في الشيك مبلغا معتبرا!
عدت إلى البيت مساء فوجدتها منقبضة. على التلفاز نشرة الأخبار السعيدة، حيث تصطف الكوارث والجوائح قبل أخبار الفن والغولف. الكل سعداء، بمن فيهم المذيعة التي تحافظ على ابتسامتها وسط قتلى وجرحى زلزال مدمر في مكان ما. ألم أقل لكم إنها دنيا بنت كلب؟ تهتز طربا أو تثور غضبا، فيكون لحمنا ودمنا قربانا لتخف وطأة الحياة!
نمت قبيل الفجر بعد مشاهدة فيلم ويستيرن من الستينات. كالعادة يحاول راعي البقر أن يضع حدا لاعتداءات السكان الأصليين على المستعمر الطيب. أحب الريش الذي يضعه الهندي على رأسه، كأنه يحلق بالذاكرة إلى مدى لا تبلغه البنادق والأكاذيب. من الطريف أن أمريكا تطلق على قطع عتادها الحربي ألقاب زعماء وقبائل من الهنود الحمر، لكنها في الآن نفسه تدفن وجودها تحت نعالهم. ذاك هو سر المقبرة!
الموت لا يخيفني، فهو مجرد ستارة ترخي ظلا للحقيقة كي لا تنغص على الأحياء بعدنا وجودهم؛ فنحن في النهاية سنموت جميعا، لكن من حقي أن أخطط لرحلتي كما أشتهي، وهذا ما لا تحاول هي أن تفهمه.
-قال خطيب المسجد يوما أن القبر أول منازل الآخرة، وأنا أشتهي منزلا يليق براحتي الأبدية. سواء كان المرء عاقلا أو مجنونا فله نهاية تنتظره.
-لكنك تستعجل النهاية، ولك حياة عليك أن توفيها حقها.
-لا حق للحياة عندي سوى أني قبلت بها مرغما. ألا تري كيف يفضل أحدهم الانتحار بدل أن يواجه أخطاءه ونزواته؟ لقد عشتها ورضيت بها، وهذا يكفي!
مالت على كتفي لحظة ثم أجهشت بالبكاء.
-أعلم أن هموم العيش سحبتهم واحدا تلو الآخر، لكنها سنة الحياة. نربيهم كما ربانا الآخرون لتحلق الأجنحة في الأفق الغادر.. أفق النسيان واللامبالاة.
-قلبك من حجر!
-كل القلوب تنبض فذاك قدرها، لكن الإنسان يشتهي طول حياته أن يهز شجرة الخلود، ويقضم من ثمرتها فرارا من قدره.
هكذا هم الأبناء، يتوقعون أن العمر سيمهلهم حتى يرتبوا أحلامهم جيدا، ثم ينقلبوا فراخا من جديد. لكن وطأة الحياة لا تسعفهم. ألم أقل لك أنها دنيا بنت كلب؟
رأيت في المنام أني محمول على الأكتاف. أكتاف عريضة كلوح مصقول، لكن ليس فوقها رؤوس. نعم لا رؤوس ولا ملامح. الموت رحلة معدومة الهوية، فكل ما تصطحبه هو عملك، هكذا قال الشيخ، فإما أن تتنعم بثمار جهدك النبيل، أو تصرف أبديتك متقلبا على الجمر، نعم، كالذي تقلبت عليه أم كلثوم وهي في انتظاره!
ناديتها فلم تجب. سحبت الغطاء مازحا لتنهرني لكنها لم تفعل. وضعت كفي على الجبين المتغضن بتجاعيد السنين، فسرت قشعريرة تمنيتها.
ألم أقل لكم إنها دنيا بنت كلب؟