عرس الربّ – نص : بسمة الشوالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

-  ولا عثرتُ على شيء منها سيّدتي وإن شِلْوًا ينزع، أو ضراعة تتعلّق بتلابيب النّجاة.

صوتي عتيّ الوثوق ترضرض على أحرف الاعتراف الحِداد، وأناخ عاتقي ذلاّ لوِزْر الخيبة الكشيفة فيما تضايق قلبي يظنّ أنّ جهاز استخبارات ما اطّلع على خياناته فتُفعل به فاقرة الآن أو بعد نصر مجيد.. لقد كان اللّعين يرقّ بين مشهد ضريج وآخر فيقترف خطيئة الحنان. وفي غفلة من قادتي الأشدّاء، كان يزورّ بي عن لذاذة الفرح الذي نمّقته الحرب بجثث الأعداء المشتهاة ويتخاذل للبكاء.. وكان صوتها صغيرا جدّا، وجدّا ضعيفا يتناهى من كوّة بين أكوام المباني لم تنتبه له عيون المغيثين، ولا وقعت عليه فرق الإنقاذ إلاّ أذني الخائنة..

أولى له ذا القلب..

لا بدّ أنّه كافر، أو قُذف بروح شرّيرة يَدِين للشّفقة الحرام لمّا الرّبّ يُولم على شرفنا محرقة عظيمة خبزها الأجساد الأشرار وخمرها الدّماء الخبيثة.. لمّا الصّوت يخترق الغليل المبارك بالنّداء..

“ماذا يحدث يا أمّي..؟ أين أنت..؟ نونو عالقة تحت شيء ثقيل.. اِنطفأ المصباح يا أمّي.. لا أراك.. أسمع ريما تبكي بشدّة. تعالي ماما.. أنا خائفة.. ريما كذلك خائفة ونونو عالقة تحت شيء ثقيل.. ماما أين أنت..؟”

بُعْدَ مسافة مهدّمة وزمن يسبح في لُجج الفسفور، أجابت ريما أختَها بكاءَ رضيعةٍ مرتاعة، تسجّت بقدرة الدّمار القدير على مفرش نتوءٍ نواشب، وعليها انسدل بعض الحائط دثارا..

الأمّ لا تفزع لابنتيها النّازعتيْن. وقرٌ بسمعها، وقلبها غافِل. أهملت الأمّ اليتيمتيْن للموت الغسيق. وانشغلت عنهما بنفْسِها تبحث لنفَسِها عن منفذ يزوّده بالنّفَس فتنبش كومة الكِسف الجاثمة فوقها، وإن تستغث تُغَث بحفنة من تراب حصيب تملأ فيها وتطفئ العينين..

” عَظِّموا الرّبَّ معي وَلْنُعَلِّ اسمَه مَعًا”

قلوب المدينة جمعاء صارت غُفّلا لا تجيب فلذاتها. أفادت كاميرات التّصوير النّاجية من القصف المكثّف، في جملة تقارير سريّة رفعتها إلى قادتي الأعلين، أنّ النّساء كنّ يهرعن جماعات غزيرة إلى العدم تاركات أطفالهنّ مزقا وأشلاء وأرماقا تئنّ.. اِستشاط القادة استبشارا. شكر الشّعب الرّبّ بدفّ ومزمار. وتميّزت خرْنوبة[1] غيظا، وفي صدرها تلظّت بغضاء كسقَر لا تغْنى أو تغُضّ شهوة بطنها..

– كيف لم تجدوها..؟

قامت تخلخل قيامتُها أوصال السّكون الصّاغر على رؤوسنا. اِخترقت صفوفنا بسهام غضب حامٍ نهزات مروِّعة، ثمّ حرفت عن صمت التّقريع تذرع الخريطة الجداريّة حرفا فرمزا فمعنى غائما بين الخطوط، عَلّ شطر منزل لم يسقط أو مغارة لم تنطمس تشي بسرّها.. عَلّ صوتا يستغيث تحت الرّدم صوتُها..

– فتّشوا مليّا.. في مخبإ ما تعثرون عليها، نفق، مستشفى، مركز صحيّ، سيّارة إسعاف، مسجد.. كلّ المدينة شرّ يتربّص بنا، في كلّ شيء ومكان شرّ، في المدارسِ، مقرّاتِ الإغاثة الأمميّة، الجامعات، مقارّ الأمن، مخازن المُؤن.. في لُعب الأطفال تغلغلوا، في أحلامهم، في أحشاء الجياع وأوْه المطاريد إلى سواد الخلاء..

– قصفت الطّائرات فأحسنت الأهداف يا سيّدتي، حصاد السّبت المجيد مدهش الوفرة لم تسبق إليه مجزرة مذ تباركت دولتنا، غير أنّا لم نصادفها بين الجثث والمحاريق والجرحى أو طرائد القذائف..

– لعلّها هُلُك قد تفحّمت أو تفتّت لحمها مختلطا بالهِدم..”هَلِّلُويَا”

ولعلّها تلك التي قضت وخلّفت ابنتها على خيبة التّرقّب. تغنّي لتُنِيم أختها فعسى تنام كلتاهما سكينة غُفُوٍّ قليل بعد نهار ظلِم ضنى، وأهزاع ليل مبصر تلعج جوانبه أنوار فراقع سامّة الأنوار. كم مرّة كادت الصّغرى تنام فتريح الكبرى، لكنّ السّماء راجفة ومن تحتها المواطئ تُرْزم فتنقض بناء إثر بناية، عقِب مخيّم.. وأشباه الأعداء رُعبا يتبعثرون. كلّ يجمع إليه أهله أو مِزق أهله من تحت السّقوف المنهارة، ويفرّ إلى حيث ينفجر صاروخ نزق كضحك مُلقيه، وتقوى صانعيه..

نَامِي نَامِي يا صْغِيرِي..

تا نِغْفا عَلْحاصِيرِيِ..

كنتُ حملتهما بين ذراعيّ هذين. كنت.. لكن.. هما العدوّان..

كيف احتملتهما ولم تخزني أشواك الحقد على جسديهما ولا شعرت بأسياخ اللّهيب تنزغني؟

كان عليّ الفتك بهما تمثيلا..

علّمني ربّي القتل في حبّه، الحقد في مجده، الجزْر في فرحه.. من ليس يتبعه فهو عليه.. خسئتُ خائنة وبُتر ذراعاي.. لا تخاصمني يا ربّ، رحمةً من عندك ارحمني. لا تتركني للإثم فتظفر بي خرنوبة فتجعلني مع الهابطين في الجُبّ.. لم يكن يُسرا عليّ انتحال الشّفقة وقلبي يقرع جنبيْه جذلان كلّما تهاوت قوافل الأشرار إلى النّار. مَهَرْتُ أجيالا من الواجب المقدّس في تصفية أعدائك، ولصوص الحلم الإلهيّ.. خادمة خدمت في حبّك يا ربّ، أسقي العدوّ المختار السّمّ من كأسه شفتيّ، وأدحرجه ذليل العري على حدير من الغواية أملس لا يلبث عليه مطمئنّا حتى يهوي به إلى جرف الفتنة الهاري وقد وشي بأسراره، وأصحابه، وما في غيب النّوايا.. أجوس من أجْل الأرضِ الموعودة حبيبتِك خلال الدّيار، المكاتب، الأدراج السّريّة، الملفّات الخبيئة، المخطّطات الخطرة.. أهَب القلب سُخْرة لأمرك، وأغُلّ شياطين الجسد إلى جند سليمان، وأنتحل الصّفات الرّديئة، والأدوار الوضيعة.. بغيّا في مرضاتك كنتُ، كلّما تدنّستْ يداي تقدّستْ روحي بين يديك، فترضى وتباركني خرنوبة.. لكنّ مئزر “الإنسانيّة” الذي انخرطت به في فرقة لإنقاذ الأعداء كان نسيجا من شوك ما يفتأ يضيق عليّ، تنغرز إبره في رئتيّ.. مهمّة صعبة أُوكلتْ إليّ المرّة أكاد أُخطئها، وتكاد تصيبني بخطيئة نكراء.. ركضت أجتاز بهما كُبَب النّار الهطيل إلى أقرب مركز للإغاثة. سعيت لإنقاذهما أُوشِك أردى. ضمّدت كامل جسم الرّضيعة إلاّ وجهها الصّغير سلِم من الحروق من أجل البكاء.. اِغفر لي “يَهُوه”، تجاوزْ عن ضعفي.. ذرف قلبي حينها دمعة شفوقا، دمعة واحدة ومجدك الرّهيب.. ثمّ.. ثمّ أهملتُ الكبرى شعثاء، كلمى، غبراء. تُعلِّق بصرها الذّهِل إلى هياكل الرّجال الطّوال المستعجلين وأثوابهم كجلودهم هُدل مسيّرة تصطفق على كواحل دامية حفاة، وأصواتهم صراخ أبحّ وجيع، وآهات ضارعة تتفزّع في جنبات الخراب.. رجال وبضع نساء يعمهون في جنون الحركة جيئة وذهابا وجيئة بلا معنى إلاّ ما يطرح القتل النّشيط على الأرض من القتلى.. يهرولون في سُبل أضداد بكومة جثث على محمل ضرِج ويهرعون بعدد جرحى، مباتير، محاريق، مباقير، صرعى، مساليخ.. صُررٍ كبيرة تلفّ بقايا جسوم اختلط لحمها بالعظم، أو جُمّعت رؤوسها وأطرافها إلى جذوع غريبة عنها يتقاطر منها مطر الدّم.. دم.. دم شهيّ الرّيح يتصاعد إليك يهوه.. دم يخضّب كفّ عروسك و يفيض من حولها أنهارا حُمرا توْحل في الغدائر والبرك حدّ الاعقاب الشّريرة، ومن تحت عرشك ينهمر بياض الفسفور سحائب ألقات الوَمض سامّات الرّياحين..

تمجّد الرّبّ: تُرْسي ومجدي ورافع رأسي..

“الرّبّ يحذّركم، تقول الحكيمة خرنوبة، كلّ أغنية لهم تمجّد موتكم، كلّ صيحة فيهم عليكم، كلّ طفل قنبلة، وغدهم بكلّ قتلاهم وروعة بطشكم محرقة لكم.. لا تأخذكم بهم رأفة، أعداؤكم الألدّاء أولائكم فاحرقوهم. تعرّضوا لمواليدهم عند كلّ مسقط. لا تذروا فيهم أنثى وإن كانت شوكة بأرض يباب، فقد تكون تلك مقتل أحدكم إن يقع عليها تفقأ عينه.. شجرةً واحدةً لا تدعوا فإنّ أحدا منكم يختبئ بها فتدلّ عدوَّه عليه فيفتك به.. اُقتلوهم أنّى ثقفتموهم من قبل أن يثقفوكم.. تقول..”

لمحصول القتلى الجزيل، تطاير شرر الفرح من وجوهنا، واحتقنت هي. تقارعت أعيننا آيات النّصر، وطقطقت أحْجُر الغضب في جوفها الغالي. وإلى رُكبها رأيتُ نُضَد الجُثث الممزّقة أحسن تمزيق تعلو وتتيبّس فتَغُلّ قدميها عن الحركة بينما “عروس يهوه” تغوص في لُجّ الدّم اللِّبْد، ومن ثوبها القدسيّ ينسل التّاريخ المنتهب من أجداث الأساطير عائدا على الحقائق الموؤودة يستحييها..

– حمقى.. قاتلكم الرّبّ حتى يبدّلكم بخير منكم بأسا وأشدّ ضراوة على العدوّ. لستم من جماعة الرّبّ، سيوفه البواتر المسلّطة على رقاب الأشرار. لا تدعوها تفلت من قبضة الموت. اُعثروا عليها وإن كانت رأسا تتدلّى أو ذراعا تتأرجح على لوح النّجاة.. سفينة الرّبّ تتطيّر منها وأفلاكُ السّماء..

جِدوها.. الآن جدوها..

عودوا على شواظ البقايا بالدّكّ والنّسف فتطهُر الأرض منها وتأمن دولتنا.. مَسِّحوا كل غَضْنة في دروبها ومحجر يتوارى.. جرّفوا الأرض حتى تشرفوا على الجحيم من تحتها، واحرثوا السّماء حتى تتبيّن لكم أوائل القوائم من عرش الرّبّ العتيد.. اُقتلوا كلّ ولود على أرض الغزاة بشَر ونبْت وبهائم وحشرات.. سمّموا مستقبل البطون الخصيبة فلا يلدن إلاّ طائعا أو شائها أو عليلا.. طاردوا روحها إلى عنان السّماء واجتثّوا رجع صوتها من ذاكرة الجراح.. جِدوها، ولمَن يجدها منكم أعطية جزيلة، وترقية سخيّة..

– لكن سيّدتي خرنوبة، سيّدي القائد الأعلى مَاشِيحُ رأى أنّ ما أنجزته الحرب حتى هذا الحين حسن يبهج الرّبّ.. فأمر فغيضت الطّائرات عن حقل السّماء المحترق، وغضّت الدّبّابات فوّاهاتها عن بقايا الأحياء. أحصينا عددا مدهشا قتلى وجرحى وحرقى فاستحققنا هدنة للرّاحة والاحتفاء بالنّصر.

– جهِلتم وغفل قائدكم عمّا تحبّر في سفِر النّجوم، ودبّ السّقوط يأكل مِنْساته وهو لا يعلم..

دون سلام يرطّب لفح الغضب في طلقات الكلام، اقتحمت خرنوبة خشوع ماشيح يعتزلنا في ركن من القاعة، ويرتّل مزمور النّصر على حركة الجذع المهزول يهوي ويستقيم وهُدب اللّحية تضرب على الصّدر..

” هَلِّلُويَا.. لِيَبْتَهِجِ الأتْقِياءُ بِمَجْدٍ، لِيَتَرَنَّمُوا على مَضاجِعِهِمْ.. لِيَصْنعوا نِقْمة في الأرض وتأدِيباتٍ في الشّعوبِ..”[2]

– قد تأدّب العدوّ يا منجّمة القصر وانقصمت ظهور الأشدّاء منهم. فلنُفْسِحْ في الفرح للشّعب، وللعدوّ في البكاء..

“يا ربُّ إلهي إلى الأبد أحمدك”

– تَسَبَّحَ يهوه. أرى غضبه يدخّن، وعمّ قليل تحلّ علينا لعناته ويمحو حلمَنا من تحت السّماء. أيكون عيد التّكريس[3] ولا تتطهّر أرضُنا هديّة الإله من دنس العرب..؟

– قرّي قلبا مخلصا يا حكيمة النّجوم قد وفت الحرب بالحاجة وأكثر. قُتل حملة السّلاح ومن نجا منهم تشتّت في الأنفاق ليتنفّس صعداء الفسفور فيصاب بفشل كلويّ في غضون أسابيع..

” سَبِّحوهُ بربابٍ وعودٍ. سبّحوه بدفٍّ ورقصٍ”[4]

جهم ماشيحُ لفرط الانفعال. جهَمْنا. اِبتسم. أشرق القتر المنسدل علينا. اِغتصب حنان كافر شفتيّ فابتسمتا لخطيئة يديّ.. الطّفلة تهدهد الطّفلة. شطر جذعها الأعلى يروح ويغدو كأرجوحة متروكة لخيال الرّيح. تتثاءب، تشرع فمها الصّغير على روائح الأدوية، والجراح، والآلام، والأجسام المهملة الآخذة في البرود، والأطرافِ يئست من أرحامها.. وحينا آخر، تُميل رأسها الصّغير فتحكّ ربوة الكتف العاري جرحا ينمل على جانب وجهها. بين فينة شرُود وزقزقة الرّعب في أحشائها تتبرّم الطّفلة بأختها فتهزّها عنفا، وتتلهّى عن الغناء بأشلاء الحياة هنا وأبعد من هناك. تثني ساقا، وتؤرجح أخرى على حافّة مصطبة صقيع تقتعدها مفترشة فستانها الصّوفيّ الخلِق. ثمّ تدلي المثنيّة وتثني المدلاّة دُوَلا، وتُسلم شطر جذعها المكدود لهزهزة تخضخضها والطّفلةَ المحمولة بين ذراعيها..

تَانِغْفَا عَلْحَاصِيرِي

بَايِكْ بُكْرَه جايِ..

ضحك ماشيحُ. دوّت أجوافنا بالرّوْع. قهقه. تفجّر صوته في الرّكن الخاشع فصدى السّقف والعمَد وبلاط الرّخام، ولوَت شموع الشّمعدان السّبع أعناقها اتّقاء ريح الغبطة الزّعزع. كان كل جزء منه ينتفض في سرعة تربو طردا مع شدّة الضّحك كما لو كان الرّبّ يضحك بين جنبيه فرحا مستطيرا كالوعيد..

اِنقطع صوته فجأة. اِنكتمنا إلاّ أنفاسنا تكابد الاختناق. الرّجعُ نفسه انقطع عن آخره فجأة. وأحسست كأنّ دُرْج نفسي السّريّ ينفتح عنوة وتندلق على مرأى الجميع خيانتي.. روّعتني خرنوبة الرّهيبة. كانت هادئة حياديّة السّحنة كطفلة الصّاعقة تكبر بغتة، وتقتل سفّا. الرّب أيضا سكت عن الضّحك الجَلْجَل ولوّن صوت ماشيح برحمة مهلكة.

– يا خرْنوبة العليمة، لم يبق إلاّ الرّعاع والعُجّز والنّساء والأطفال المنذورون للعاهات والأورام الخبيثة.. وهؤلاء فئة مستضعفون شفقتنا بهم تدعّم العدل في قضيّتنا الإنسانيّة، وتنصر حقّنا في الوجود وطرد المحتلّ من أرضنا. ثمّ إنّ الغوغاء في الشّوارع النّزقة أحرجت أنصارنا في العالم، وأزعجت أصدقاءنا في المنطقة العربيّة.

– هل تخشى الصّراخ أيّها الرّهيب..؟

لا تخش الصّراخ. ذرهم يهتاجوا ويُرْغوا، فعمّا أيّام قلائل يخمدون من تلقاء الضّجر، أو تطفؤهم خراطيش الماء. نحن أعلم بالعالمين. فكلّما ناءت مدينة تحت الرّدم تلاوم فيها أنصار الأمس وتزايد عليها حماة اليوم على مآدب الطّعام الباذخ وفي المنتجعات التّرفة. وريثما تنضج طبخات المنح الإنسانيّة وتُترك المدينة لأهلها يحصون قتلاهم ويشرئبّون لإعادة الإعمار، نكون نحن قد صنعنا لهم مدينة جديدة لبكاء أشدّ ينسي البكاء الأوّل فينسخ الصّراخُ الصّراخَ وتنشغل عنّا الشّوارع بفوضى الشّوارع. إنّما ترْسَخ دولتنا في العمى الذي تسبّبه الغازات المسيّلة للدّموع، وفي انشقاق الأمم عند القمم. يجب ألاّ نمهل الأشرار فرصة للسّلام فيطوّقونا بأحزمة ناسفة..

– اِطمئنّي عزيزتي خرْنوبة. حقّ كلّ ما تقولين والرّبّ مبتهج به. وَعَدنا حلفاؤنا بتسوية الأمر عنّا. فلنسترح قليلا، فكلّ ما يدخل مدينة العدوّ الآن مراقب منهم ومصفّى وإن كان هواء ينسرب في المناخير. وفي قلب الحصار طير على كلّ رأس. “هَلِّلُويَا. غَنّوا للرّبّ ترنيمةً جديدة تسبيحتَه في جماعة الأتْقِياء..”

– تمهّلْ غضبَ الرّبّ أن تَحْمَى.. أغافل أنت يا رهيب..؟ تراقبون الصّادر والوارد، تحرسون الأرض والسّماء، تفتّشون عن الأسلحة في الأقبية والأنفاق والمصحّات ومراكز الإغاثة، تغلّقون المعابر وتمنعون المؤن والماء والكهرباء فتحسبون أنّكم حمَيْتم حبيبة الرّبّ بما يكفي.. جهلة.. الأسلحة تتجوّل عرض الشّوارع ولا ترونها.. الإرهابيون طلقاء ولا تقبضون عليهم..

أطفالهم سلاحهم، موتنا الحتميّ..

أطفالهم سلاحهم، جراد حقولنا الهمجيّ..

السّلام..؟

لا سلام لدولتنا جنب مدينة كثير أطفالها. لا أمن لشعبنا جوار شعب ينجب بحكمة الحياة التي تستمرّ أبدا والموت القادم غدا. ما بال أحدكم لا يبصر، لا يعي..! إنّهم يكثرون الرّفث إلى فُرُش الحبّ ويتحاضّون شديدا على الإنجاب. يتواصون بالنّسل الغزير، يقولون جيلا لجيل: “تكاثروا ما استطعتم، فللحياة تحت حصار مرير يخلف حصارا أمرَّ نصيب ممّا تضع الوالدات، وللمنيّة المقدّرة نصيب، وللرّصاص الشّهوانيّ “مثل حظّ الأنثييْن”[5].. “

اُقتلوا ما شئتم منهم، فعن كلّ قتيل عشرة مواليد ويزيد يتمرّسون على عشق الانفجار، ومن لم يجد يلتمس لنا حجارة..

– ليُسْقِط الرّبُّ الفرح في قلب خرْنوبة فيسلّيه بأنشودة. قضت الحرب على أغلب نساء المدينة وأطفالها، ومن لم يطله الموت قبع له السّرطان عند منعطف ما من العمر، أو انهمك ينشغل برعاية جراحات لا تندمل ولا تشفى. قد بيّنت لك مدى نصرنا. المجد للرّبّ..

” طوبى للأمّة التي الرّبُّ إلهُها، الشّعبِ الذي اختاره ميراثا لنفسه”[6]

لم يبق على قيد الذّلّ إلاّ رجال يأتوننا غدا ليوقّعوا عقد السّلام الذي نقرّر..

“هلّلويا.. لِأسْرِ ملوكِهم بِقُيُودٍ وشُرَفائِهم بِكُبولٍ من حديدٍ. ليُجْروا بهم الحُكْمَ المكتوب. كرامةٌ هذا لجميع أتقيائه. هلّلويا.”[7]

– لا يغرّنّ القائد نصر لحظة. اللّعينة عَزّة ما تزال بعْد على صحّة وحياة..

– لا عليك يا سيّدة النّجوم. إنّها امرأة واحدة لا تملك لنفسها نفعا ولا لدولتنا العظيمة من ضرّ.

– يقول داوود في مزموره الخامس بعد الثلاثين: “حجلة تحضن ما لم تبض محصّل الغنى بغير حقّ. في نصف أيّامه يتركه وفي آخرته يكون أحمق.”

مثلنا الحجلةُ، ومثلها الحمامة يُنتهك بيتها، وتُقتّل فراخها فتعود عليه من جديد تفرّخ فيه وتخلص المعاناة. تلك العزلاء المهينة واحدة القلّة الغالبة، فتيل الهزيمة المتفجّرة. تلد مع كلّ بطن حزاما ناسفا أو قنبلة.. يصير ولدها رجلا فجأة إذا صادف جنديّا أو ناكفته دبّابة..

تلك امرأة خروجكم النّهائيّ من أرض الميعاد، تيهكم الأبديّ..

تلك مسقط المساداة[8] الأخير على أيدي الحقيقة..

أبيدوها تحيوا بأيّ سلام تشاؤون.. وإلاّ تأهّبوا للقيامة تبلبل دولتكم يوم غد عن قواعد ضربتموها في بطون تتزلّف لربّها بأبنائها، وتشيّع قتلاها بالزّغاريد..

كم لعينة هذه الـ “العَزَّة”.. كم..

منذ عقود من المجازر وأجيال من طقوس الإبادة وهي حيّة تُرزق الصّمود فتورّثه من بطن إلى بطن، من عَزّة إلى عَزّة. نؤلّب ذوي القربى عليها، نغلّق المعابر إليها، نُفيض الحِمم بين يديها، نُجدب الأرض تحت قدميها فتروح تُخصّب الأمل في أخاديد الجراح وتسقيه من نزف الشّرايين.. تبّا لها.. يينع غدها خصيبا بين أعطافنا الحاقدة كما يترعرع ذباب الدّودة الحلزونيّة على ضفاف الجروح الجلديّة[9].. تبّا لهم كم نقتّلهم فيحيوْن..!

حقّ إذن ما رأت الحكيمة..

المجد المنجز حتى هذا الدّمار غير حسن لا يسرّ السيّد الرّبّ، وقيام المدعوّة “عَزّة الأخيرة” على الحياة قد يؤجّج حُمُوّ غضبه فيُوبّخ الشّعب بسخطه ويؤدّبه بغيظه..

حقّ ما عزم عليه ماشيح، وأكثر من حسن..

اِستدركت الحرب المدهشة بهجة التّطهير بهجوم برّيّ مقدّس، فتبرّجت للوغى المثير كما حسناء تتجلّى لمخدع الإله، عليها أسلحة جديدة لم يهتكها فتك، وأقراط قنابل كالمصابيح المعلّقة في السّماء، وعطور غازات سُموم.. الرّب نفسه حمل تُرْسا ومِجنّا ونهض إلى معونتنا، والصدّ تلقاء أعدائه الألدّاء، أعدائنا. كان يصبّ مطر رماحه عليهم صبّا فينقطع دابر حضارتهم عن بَكْرة الضّوء والماء والقوت اليسير ليُعيدهم سراعا إلى جاهليّتهم الأولى..

طوبى له، ولنا طوبى..

جُستُ خلال شقف الهدم، وأكوام الرّدم، واستغاثات المحاريق، والمجاريح، والمؤرّبة جسومهم إربا، وقِدَد الجثث الملقاة عرض الطّرقات، أنقّب عنها بين الرّؤوس المنزوعة عن أعناقها، والأطراف النّازحة عن جذوعها، والجذوع المهجورة من أعضائها.. أنبش الحطام. أنكش التّراب. أتلصّص على وجيف الدّماء في العروق النّابضة بجذوة النّفس الأخير فلا أسقط على أثر منها. أرشو الأعداء خونة الأعداء فأظفر بقائد نغتاله ولا أظفر بها..

يئست واضطرّني القصف الصّديق لاجئة إلى بناية تميد على جرف اللّظى من فوقها الحمم ومن بين يديها الحميم. كانت فوضى اللاّجئين، وزحمة الجرحى والحرقى، وأكداس القتلى المؤثِّثة للمكان الخرِب تُحمي في دمي جِنّة الرّقص، وفي حلقي الآخذ بالتّسمّم جرّاء ما أشاعته النّيران الصّديقة من رياح الغازات، تستعر رغبة الصّراخ مستطير الفرح.

وكانت تغنّي..

تهدهد أختها حتى تأْلَم بأقلّ قليل ممّا تأْلم ويُغْمي الرّهق مضغة الحياة الوجيعة المُلقاة إلى صدرها الصّغير، فتنام شيئا من السّهو دون بكاء.

الحضن الحاضن صغير لا يحتوي المحضون إلاّ نصفه أو أنقص منه، ويظلّ بعضه خارج الأمن الموهوم: قدمان عاريتان، يد تتهاوى، ورأس تضاعف لفّات الضّمائد من حجمه فيرزح إلى الخلف سقطة بلا سند.. جسم الطّفلة الأصغر الأكبر بقليل من الدّمية نونو متداع إلى سقوط جديد على أرض حمئت عليها الدّماء والأَقُدُّ من لحوم البشر وأثوابهم. بينما الكُبرى، صبور لولا يغالبها النّعاس..

نامي نـــ.. ـــــامي يا صـْ..

تتثاءب لمرّة تفوق العدّ. تنسى فمها الصّغير مفغورا وقد شردت نهزة تتابع حشرا مخلخل الأعضاء اقتحم المكان.. أرى ربّها يترجّل في خواطرها، وأسمعها تعاتبه غضبى.. “يا ربّي لماذا تتركهم يقتلوننا..؟ لماذا لا نموت بسلام كما الآخرون..؟” يبتسم ربّها ولا يجيب. يحبّهم أكثر إذا ماتوا فيه ليملأ بهم جنّته، ونحبّ موتهم جمّا لنملأ مكانهم بنسل منّا لا أرض له.. يا ربّهم لِمَ لا ترفعهم جميعا لجنّتك وتترك لنا الدّنيا طهورا منهم..؟

تغلق فمها. تُجحظ جفنها الكَريّ على مشاهد مفكّكة الأجزاء. تبكي ريما بين ذراعيها فتستأنف مقطع الأغنية المبتور تنهيه في صوت أجشّ يتلوّى، وكَفّ في حجم قطعة الحلوى توقّعه على وزن حركة نشاز تربّت على ظهر الرّضيعة البكّاء..

..صْغيري..

حـامـ ـل غلّة الزّيـ…زّيتـون..

تشبّثت بي بغتة. لعلّي دنوت منها ولم أشعر. ولعلّي تعمّدت ألاّ أشعر بدنوّي منها. لكنّ قلبي انخلع وأغشي عليه.. دمي يرجف رجفا ورُمّة عظامي خواء ترتعد. هل ستنفجر عليّ..؟ من قال إنّ قطعة البشر التي بين يديها ليست قنبلة موقوتة..؟ كيف؟ قد ضمّدتها بيديّ الكافرتين..؟ وإن يكن.. ربّما أحدهم حشا الضّمادة متفجّرات.. هؤلاء الأعداء إرهابيّون لا يتوانون عن أيّ فعل عدوانيّ تجاه الحياة. إنّهم يشرون أُخراهم بكلّ دنياهم، ويبتاعون الأريكة في السّماء بأنفسهم وأبنائهم وقرّة الأحبّة.. لكنّنا نسابقهم إلى الوجود فيتناقص عددنا ونحن خلف دروع الأسلحة وفنون الدّمار الفاتك، ويسابقوننا إلى الموت فيطغون علينا نسلا، سحقا لهم.. قاتلهم الرّبّ حتى يفنوا جملة وتفصيلا..

سحبتُ نفسي منها عنيفا أجتنبها وميقات القنبلة يتكتك في رأسي، وتدوّي خارجا مدافع التّطهير المباركة.

– أرجوك يا خالة ألم تريْ أمّي..؟ ألم تأتي لتبحث عنّا..؟ اُنظري خارجا، لعلّها هذه التي تُعْوِل وتستغيث. أسمع صوتها. قولي لها إنّي بخير. لكنّ ريما مجروحة وتبكي بلا انقطاع. لو أرضعتْها لسكتت ونامت قليلا.. أرجوك.. تركتُ دميتي نونو لوحدها في المنزل.. لا شكّ أنّها تبكي هي أيضا..

– اِبحثي عنها خارجا من فضلك يا خالة. اِبحثي من جديد أرجوك. هي لا تعرف أنّا هنا. تعبتُ من حمل ريما. أريد أن أعود لمنزلنا فأجلب نونو وأحضنها لأنام. قولي لها عَزّة هنا بانتظارك فتأتي لتأخذنا..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] - فبينما هو يصلّي ( الملك سليمان) ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه. فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة. فقال لها: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، يعني بيت المقدس. فقال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حي. أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت! وقلعها. ثمّ قال: اللهمّ عمِّ على الجنّ موتي حتى يعلم النّاس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب.” : ابن الأثير – الكامل في التاريخ – دار الكتاب العربي – بيروت-ط3- 2001- ص ج1- 210.

[2] - الكتاب المقدس: المزمور التّاسع والأربعون بعد المائة من مزامير داوود.

[3] عيد التّكريس أو ” حنّكة” هو أحد أعياد اليهود ويتمّ في اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر والسّبعة أيّام التّالية لهذا اليوم. وفيه يحيون ذكرى تطهير الهيكل من المكابين( 165ق-م) بعد أن دنّسه “أنتيخوس إبفانيز.

 [4]-الكتاب المقدس: المزمور الخمسون بعد المائة من مزامير داوود.

[5]- قرآن كريم.

[6]- الكتاب المقدس : المزمور الثالث والثّلاثون.

[7]-  الكتاب المقدس: المزمور المائة والتّاسع والأربعون.

[8]-" مساداة أو مسعادة، كلمة آراميّة تعني القلعة. وحسب الأساطير والخرافات اليهوديّة هي آخر قلعة سقطت في أيدي الرّومان أثناء التّمرّد اليهودي ضدّ الامبراطوريّة الرّومانيّة.. وفي كلّ عام يقيم الجيش الاسرائيليّ احتفالات يرد فيها أنّ ” المساداة لن تسقط ثانية ” :– عبد الوهاب المسيري : ورد في هامش كتاب” اختلاق إسرائيل القديمة.. ” كيث وايتلام – تعريب سحر الهنيدي – سلسلة عالم المعرفة – العدد 249 – ص 48 .

[9]-" ذبابة الدّودة الحلزونيّة طفيليّة لا مفر منها لكل الحيوانات الحارة الدماء. وهذه الذبابات تصنع بيوضها قرب الجروح الجلديّة ، وعندما تفقس البيوض تتغلغل في اللّحم وتتغذّى على الأنسجة الحيّة مسبّبة مرض الوهن العضليّ الذي إذا لم يعالج يؤدّي إلى أمراض والتهابات أخرى وإلى الوفاة في النهاية “:رانيا المصري- "الاعتداء على البيئة في العراق"- مجلة المستقبل العربي- العدد 259- السنة 2000 – ص 120.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة