أشجار دائمة العُري – قصة : يوسف ضمرة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسناداني فخرجت. حييته فأجاب.
ما كان الشارع معتماً تماماً، فتبنيتُ بعض ملامحه التي تشبهني.
أخبرته أني لا أعرفه فما كذبني.
كنت أرتدي بنطالاً عادياً، وهو يرتدي (الجينز) الغامق.
عاتبني على تقوقعي في البيت، وقال إن الشارع الشجري والهواء الصافي أجمل.
خالفته، وعزمت على العودة.
كُنا ما نزال أمام البيت.
عنفني بقسوة ثم شتمني.
ضربني على خدي الأيسر، فأعطيته الأيمن.
أحسست بالطنين في أذني، ثم في الرأس.
تأبط ذراعي وهو يضحك، ثم انطلقنا ببطء.
سألته عن وجهتنا، فقال إنه لا يعرفها، وأضاف بصوت عالٍ إنّ علينا أن نمشي... فقط نمشي...
قلتُ: لماذا؟؟
وبَّخني، وطالبني بإبطال مفعول السؤال عن أسباب الرغبات.
أخبرته أن الله جعل لكل شيء سبباً.
قال: أنا لست الله ولا الحلاّج.
مد يده في جيبي، فخرجت ملونة لما فيها من ورق النقد.
سألني وهو يضعها في جيبه عن سبب احتفاظي بها.
أشهرت غضبي وأنا أذكِّره بأسباب الرغبات.
ضحك وقال: أمسكت بي.
فرحتُ للحظة ثم تجهمت.
سألته عن السبب الذي دفعه لتفريغ جيبي.
ضحك وهو يطالبني بالكف عن هذه اللعبة السخيفة.
صمت لحظة، ثم أخبرني أننا ذاهبان إلى أحد البارات، نشرب حتى تلفحنا الرغبة في انقلاب كُحليّ في أي مكان.
قلت: لا أشرب.
غضب وقال: ستشرب.
قلت: لا أحبه.
قال: ستحبه.
قلت: جربته ألف مرة من قبل.
قال: أضف مرة أخرى.
أبديت رغبتي ثانية في العودة إلى البيت، وبخاصة أننا لم نبتعد كثيراً بعد.
جذبني بشدة، وأمرني بالسكوت.
صرْتُه ورحت أتهجى كل ملامحه التي حملت لي جبلاً من الدهشة.
يُشبهني هذا الرجل تماماً.
لا فرق إلا في هيئة الشعر، هو لم يستخدم مشطاً وأنا فعلت.
فجأة سألته عن اسمه، فقال: يوسف.
قلت مبهوراً: مستحيل!
قال: بغضب – لماذا؟
قلت: لأن اسمي يوسف.
ضحك وقال: من طوّبه لك؟
قلت في هدوء: لا أحد... هنالك أشخاص كثيرون يحملون الاسم، لكنك متطرف عنهم.
قال: وما الغرابة؟
كان عليّ أن أفكر كثيراً حتى أقبل هذا المنطق.
فعلتُ واقتنعت. سيما وقد أخبرني أننا مختلفان في الرغبات تماماً. حتى في اختيار الملابس.
شدّ كل منا حوله عباءة السكوت.
ذاك أتاح لنا –أو لي- رشق نوافذ البيوت بالعيون.
قليلة المضاء. شحيحة الأصوات. أقواها السعال المتقطع ثم الضحك.
فجأة قفز الرجل إلى الأمام خطوة أو اثنتين.
توقف.
ركل الشارع بقدمه، فخرج صوت علبة معدنية اصطدمت بسور بيت.
كدت أسأله عن السبب. لم أفعل خوفاً من يده.
سألت نفسي فوجدت مبرراً مقبولاً أو ضعيفاً.
سألته إن كان يحب كرة القدم، فنفى.
اتهمت نفسي بالصفاقة، حيث لا علاقة لي بما يحب ويكره.
هو حر بما يريد وما لا يريد.
جذبته برفق من منتصف الشارع، كي تعبرنا سيارة مسرعة وقف يتابعها حتى خبأها منعطف قريب.
بصق وعاد إلى الشارع.
سألته فجأة: هل أنت حرامي؟
قال بجد: لا.
قلت موضحاً: لكنك أفرغت جيبي من النقود؟
قال بثقة: هي لي.
أزّ الغضب في صدري، كالرصاصة التي تحاذي الرأس. بدأت أشعر بالخوف.
في تلك اللحظة، كنت قادراً على الهرب، فهو في منتصف الشارع يمشي، وعلى الرصيف أنا، لكني عجزت.
ما كنت معصوب العينين أو مقيد القدمين.
لكني عجزت.
توقفت سيارة صفراء.
صعدنا معاً، هو في الخلف، وفي الأمام أنا.
مد السائق يده نحوي بسيجارة فشكرته واعتذرت.
أغمضت عيني على ملامحه وأنا أشعر بالرعب.
يشبهنا هذا السائق تماماً.
يختلف عنا في الملابس، ويضع نظارات طبية على عينيه.
استدرت بجذعي إلى الخلف.
كان الرجل يريح رأسه على المقعد، ويدخن باسترخاء.
عدت إلى وجه السائق.
في هدوء سألته: هل أنت المالك؟
بوقار أجاب: الملك لله وحده.
قلت في هدوء: وللتجار والقوادين
قال بثقة: ولكنهم يفقدون.
قلت ضاحكاً: ونحن نفقد، اسأل هذا الرجل الذي نظَّف جيبي، وما اعترضت.
لكزني من الخلف وقال بحدة: قلت لك إنها لي.
اختصرت الشر.
سألت السائق في هدوء: ما اسمك؟
قال السائق في هدوء: يوسف.
قلت بحدة: عليك الآن أن تتوقف حتى أنزل.
ضحك بصوت مرتفع.
ضحكت.
سعل في الخلف الرجل.
صعدت أبخرة الضحك من نافذة السقف إلى السماء.
أرحتُ رأسي على المقعد الذي يذكرني "بنونية" الأطفال.
ابتسمت.
ما الذي يمنع رأسي من ذلك الآن؟
ستطرق الرائحة أنف الرجل أولاً، ثم السائق.
رحت أستذكر محتويات رأسي، كي أتنبأ طعم الرائحة.
الأحلام الطفولية المغتصبة.
فضائح القرى ومخاتيرها.
أسماء الحكام المتعددي الجنسيات.
شكل الجسد المومس.
قضبان السكة العثمانية والحمير.
حبات الرمل الصحراوي بين الملابس والجسد.
عيني أبي الحمراوين، ونشقة أمي الصباحية في العيد.
العراك الدائم العضوية في البيت.
الخيبة بعد الاستحلام الليلي.
الرغبات الندابة.
الصحف الكذابة.
الجثث المنتفخة.
الجثث الناقصة.
الجثث الواقفة.
حاملات الطائرات.
القبعات الملونة والخوذات.
الموظفين الكبار.
الجواسيس الصغار.
التقدميين في حلقات الحوار، ذات النكهة الأمريكية والمذاق الاسكتلندي.
ابتسامات نسائهم.
المهاترات العلنية للأحزاب السرية.
الخوف...
من أمي.
من شرطي المرور.
من نظرة رجل حادة.
من زميل الدراسة والوظيفة.
من جارتنا الطيبة.
من نسمة الليل وراء النافذة.
من هدير بعوضة في مجالي السمعي.
من شخوص رواية ساذجة.
من ملامح المذيع التلفزيوني.
من سيجارة صلبة.
من الله والمباحث.
ضحك الاثنان معاً.
قلت بذُل ومسكنة: أعيداني إلى البيت.
دخلا معاً في حديث غريب.
تبينت أنهما صديقان أو عدوان.
وتبينت أنهما يعرفانني من قبل.
توقفت السيارة أمام أحد البارات.
هبطنا.
حدقتُ طويلاً إلى سيارة الشرطة المحاذية.
دخلنا.
جلسنا.
أدهشني الصمت الصامت.
خلخلني نواح فريد الأطرش.
"ليت أني من الأزل
لم أعش هذه الحياة".
يبكي بعض السكارى، وأنا أبتسم.
كل عام أحاول أن أتذكر يوم ولادتي فأخيب.
أتذكره قبل وبعد.
سألتهما إن كانا يتذكران يوميهما، فانضما إلي.
تشابهنا في أمر آخر، صحيح أنه تافه، لكنه حدث.
جاء نادل.
راح يضع أمامنا بعض الزجاجات والكؤوس، وبضعة صحون تتمدد فيها قطع طويلة من الخيار والجزر، وتنتصب تلال ملونة بالمكسرات.
كنت واثقاً أن أحداً منا لم يطلب شيئاً، ذاك استفزني بشكل عجيب.
ثم تطرف النادل، حين ألقى قطعتين من الثلج في كأس أمام السائق، وسكب فيها قليلاً من "الويسكي". بينما قدم للرجل "اليانكي" كأساً من البرتقال، وزجاجة البيرة لي وابتسم.
ودّعه السائق بهدوء: بارك الله فيك.
ضحك اليانكي وقال: شكراً يا ولد.
حدّقتُ أنا ولم أقل حرفاً. أظنني ابتسمت.
رفعنا كؤوسنا.
قال اليانكي: نخبكما.
قال السائق: نخبي.
قلت: شربت بصمت.
حين وضعنا الكؤوس قلت للجينز: لماذا دعوتني؟
قال: التزاماً باتفاقنا.
قلت: ولكني ألغيته في حلم الليلة الماضية.
رج السائق كأسه بيده، وقال باتزان: إن هي إلا أضغاث أحلام.
ابتسمت موافقاً.
أفرغت كأسي دفعة واحدة، وأنا أحدق إلى وجهه.
راحت ملامحه تصغر تدريجياً، حتى وصلت إلى آخر يوم رأيته فيه. أعني قبل أن أحرق عقدي الأول.
كنا نلتقي في مسجد القرية في الجمعة والأعياد، واليانكي ذو الشعر الأكرت ينتظرنا في الحارة، حاملاً لوازم الصيد.
الدود الأصفر والفخ الحديدي، نركض بعد الصلاة إلى البرية. يقوم الأكرت وحده بكل شيء. فقط آتية بما يريد من تراب ناعم أحمر، وحجر مستطيل، يزرعه كشاهد قبر، يغري "البُرَّقَة" بالهبوط، فترى الدودة الصفراء في حمى الرقص.
تتلفت "البُرَّقة" يميناً ويساراً.
ترفع ذيلها الأبرق عدة مرات في الهواء.
ثم تقفز.
تنقر الدودة الصفراء.
يستيقظ الحديد في القبر، ويقفز.
يطبق الحديد على العنق.
يركض الأكرت وأنا خلفه.
يبقى السائق في ظل الزيتون.
أناوله الفريسة، بعد أن أتوسل الأكرت كي آخذها منه.
يحدق باسماً.
يمسد ريشها بأصابعه.
يقول في هدوء: بسم الله قدَّر عليك الذبح، الله أكبر.
و "يمصع" رقبتها.
انتهيت من زجاجتي، فجاءني النادل بواحدة قبل أن أشير.
في المرة الأولى لم أنتبه إليه جيداً.
وما فاجأتني ملامحه في المرة الثانية، فقد ألفتُ ذلك.
وجزمت أن اسمه يوسف.
فابتسم وقال: لا، اسمي جواد.
قلت في حدة: مستحيل. أنت يوسف.
قال اليانكي: مالك والناس؟ أنا قلت يوسف فقلت مستحيل. هذا لم يقل يوسف. فقلت مستحيل. ماذا تريد منا؟
قلت في ضعف: لا أدري.
قال في خبث: أحسن.
قال النادل: كان اسمي يوسف، لكني استبدلته.
فتحت فمي ولم أنطق.
تدخل السائق: أظن أنه لم يفهم الآية جيداً... يوسف أعرض عن هذا.
ربما أعتقد أن الـ (هذا) هو الاسم فأعرض عنه.
حدقنا إليه.
ضحكنا.
قال الجينز: لو لم أكن يوسف لأصبحته بإرادتي.
لم يُعلق أحد.
فأضاف مغنياً بهدوء: (الحُسنُ حلفتُ بيوسفه).
ضحك: اصطدت بهذا الاسم سبعين امرأة.
حدقت إلى عينيه وهو يخاطبني: لست مثلك خائباً لا تعرف إلا زوجتك.
قلت في هدوء: أحبها.
رفع ذراعه، فأصبحت راحته أمام وجهي، كأنما يريد أن يريني صورة ما. لكني فوجئت بإصبعه الوسطى بين عينيّ.
وقفتُ غاضباً وأعلنت عن رغبتي في المغادرة.
جذبني السائق باسماً وهو يخبرني أن صاحبنا يداعبني.
أخبرته أني أرغب في العودة من قبل.
سألني إن كنت مصراً ففرحت، إذْ شممت رائحة لينة في السؤال.
جاء (الجواد يوسف). هكذا أسماه السائق.
انحنى.
ألصق صيوان إحدى أذنيه الشعورتين بفم السائق.
لحظات، حتى مضى في هيبة طارئة.
نظر السائق نحوي.
أخبرني أننا سنغادر البار بناءً على رغبتي.
شكرته، وسألته إن كانوا سيخرجون معي، فضحك.
جاء الجواد باسماً.
وقف نديماي.
وقفت.
سار الجواد نحو الباب.
تلاه السائق.
فاليانكي.
ثم أنا.
كانت سيارة السائق في مكانها.
وسيارة الشرطة في مكانها.
عاد الجواد بعد أن ودعنا بالكلام الطيب، والأمنيات بليلة جميلة.
صعد السائق.
فاليانكي في الخلف.
وفي الأمام أنا.
سمعت أصواتاً في الخلف، فاستدرت.
كانوا يضحكون في هدوء، اليانكي وامرأتان.
بُهرت.
ابتسم السائق حين رآني وقال: بُهت الذين كفروا،
صرختُ: من هم الذي كفروا يا ابن(...)؟
انطلق وقال: أشكالك.
كدت أقول: استبدل بالقاف جيم (جوادك يوسف) لكني سألته أن يتوقف، أو ألقي بنفسي من الباب.
ضحك الجينز والمرأتان والسائق نفسه وهو يقول لي: عريقٌ في الجبن.
فتحت الباب فما اكترث.
قال بحدة: هيا اقفز.
أغلقت الباب: انتفض جسدي بقوة ورحت أبكي، وأنا أشعر أن جدارين من الإسمنت المسلح جداً يوشكان على هرسي بينهما.
توقفت عن البكاء بعد حين، وارتميت في لحد العجز المطلق.
عبرنا شارعنا الشجري فما اكترثت.
توقفنا أمام بيتنا.
أطفأ السائق الأضواء
هبطنا جميعاً، ودخلنا البيت.
كانت زوجتي عارية تستلقي على السرير الخشبي، وبياضها يلمع في الضوء.
تعرينا جميعاً، أنا والسائق واليانكي والمرأتان – إحداهما بدينة قصيرة أكثر من زوجتي، والثانية نحيلة طويلة أكثر من زوجتي.
بدت أشكالنا كأشجار دائمة العري في خريف دائم اليباس.
استلقينا كيفما اتفق.
ارتفعت أصواتنا.
زعق السرير كمجنون.
زعق السرير ثم أنَّ.
أنَّ السرير ثم أطلق حشرجة.
وهمد.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة