دعوة للزفاف – قصة : محمد بقــوح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسعندما فتح باب شاحنته ، وجدها امرأة لم يرجمالا كجمالها ، قامة كالنخلة المثمرة ، وجه خجول ، يميل إلى شكل البيضة ،يغطي رأسها غطاء محترم أزرق اللون ، تلمع نجماته الذهبية ، في ضوء مصباح سقف الشاحنة . جلبابها الترابي و    المزركش ، يوحي بأنها فتاة تنتمي إلى طبقة متواضعة ، كطبقته تماما . لهذا لم يخنه حدسه هذه المرة ، و توقف لإنسان قريب منه ، في ليلة دامسة كهذه ، و بذلك يكون قد كسر جدار الموقف الصعب ، الذي اتخذه مع نفسه ، بأن لا يتوقف أبدا لأي  شخص يشير له في الطريق ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بليلة سوداء ، تحتفي بالتيه و الضياع ، أكثر مما تكشف عن ملامح معاني معينة  . و ذكرى اللصين ،اللذين أشبعوه ضربا ، بعد أن أخذوا كل ما كان يملك ، من أتعاب شهر من العمل .. لن ينساها أبدا.
لكن ، ما الذي يدفع أنثى ، تخرج وحيدة ، في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ، و في مكان نائي و مخيف كهذا المكان . امرأة رفيقها الوحيد ، هو شجاعتها ، و حقيبتها اليدوية .و ربما وراء خروجها الغريب ، و رغبتها في السفر "بالأطوستوب" ، حكاية لا تقل غرابة ، من وجودها في هذا الوقت ، و في هذا الزمان ، و بهذه الطريقة الغامضة التي تطرح أكثر من سؤال ..
قبل أن تسأله ، علت وجهها البشوش حمرة واضحة ، دلت على أنها "بنت الناس" ..و على عجلة من أمرها ، إلى حيث تريد أن تسافر أو ترحل  .و قبل أن يسألها ذالك السؤال البديهي ، عن المكان الذي تتجه إليه  ..، سارعت و  نحنحت ثم قالت :"سيدي ، شكرا لأنك قبلت و توقفت من أجلي ..، لقد انتظرتك لساعات طوال ..ألا تعرفني ..؟ ".فاجأته بسؤالها ..غير المتوقع ..، فرد عليها ، و عيناه تبحثان في محيط المكان الخالي ، و البارد جدا ." من عادتي أن لا أتوقف للغرباء ، خاصة في الليل ، و في مثل هذا المكان ..لكن .." و قبل أن يستمر في إنهاء كلامه قاطعته بسرعة ، و كأنها تعرف ماذا سيقول .." لكن لأنني امرأة توقفت لي ..أليس كذالك ..؟؟ ". اسمعني جيدا ..(قبل أن تتابع ، صعدت إلى  جانبه ، داخل الشاحنة دون أن يأذن لها السائق ، و أثناء صعودها ، أحس  بدفء حراري غير عادي ، يملأ أجواء شاحنته ) قالت : "الجو رائع في ليل بهيم كهذا ". انتبه الرجل إلى أن حذاءها ، ليس حذاءا نسائيا و لا رجاليا ..هو أشبه بالحذاء ، لكن تبدو من خلاله أرجل قدميها مزغبتين و غير عاديتين ..، ردت عليه و بسمة جميلة تعلو محياها :  "ليس من عادتي أنا أيضا  أن أقوم بالأطوستوب ،بل لست في حاجة أصلا لوسيلة نقل بشرية ..لأنني بإمكاني الوصول إلى أي مكان أريده ، اعتمادا على نفسي .." .اسغرب الرجل ، و اندهش بسبب كلام المرأة الغريب ، الذي يسمعه من الشيء الجالس بجواره ..إنها و كأنها تقرأ أفكاره ..، أحس برأسه تنتفخ .و قلبه يخفق بسرعة كبيرة . كل أحشائه الآن بدأت ترتعش ، دون أن يدري لماذا ..(هي امرأة آدمية أم جن تسلط علي أم ماذا ..؟). حاول أن يدفع عن مخيلته تخوفات مشاعره ،و  أن يخفي مخاوفه الغريبة و توتره الواضح ، فبادر  لمساءلتها  عن هويتها  ..؟.لكن  وجد فمه مغلقا و كأنه تجمد ..فم ببوابة حجرية ..، فوجه أمره  لأصابع كلتي يديه لفتحه.و تمكن بعد جهد جهيد من فتحه ، إلا أنه فوجئ بخلو فمه الواسع، الذي كان في ما مضي ، و إلى صباح هذا اليوم ،من لسانه ..لسانه الطويل ، الذي كان كله حيوية و نشاط ، و لا يمل أبدا من الكلام و الاسترسال فيه، مهما كانت الأحوال و الظروف .أما هي ،الضيف الغريبة في مكان أغرب منه .. فقد فهمت لغة عينيه الغارقتين في البحث و السؤال .
 قالت له و يداه في باطن يديها الدافئتين : " أنا من عالم غير عالمكم ..أنا هي تلك الأفعى ، التي أنقذت حياتها في مثل هذا الوقت و المكان في  الأسبوع الماضي " ظل الرجل السائق جامدا ، و أطرافه ملتصقة بكرسيه المفروش بسجادة صوفية ..دون أن يستوعب و لو حرفا واحدا من كلام هذا الشيء الذي يوجد بجواره ..، تابعت المرأة بعد أن أزالت غطاء رأسها ، و اكتملت زينة جمالها الخلاق بلون شعرها الفحمي و خصلاته المتدفقة على كتفيها العريضين ..: " إنني اليوم  جئت إليك لأشكرك ، و أدعوك لحفل زفافي ، عند أهلي ،في مكان قريب جدا من هذا المكان ، الذي نحن فيه الآن ...، وقبل أن تنهي كلامها ، شدت بقوة على يديه ..،و بدت ، في لحظة من اللحظات ، أنها ستسافر عبر مياه عينيها الغارقتين ، في أعماق دهشة كبرى ..لا حدود لها .. ثم اختفت ..،اختفت هكذا بدون مقدمات ، و لم تودعه حتى ..،  ليجد السائق نفسه وحيدا ، و بملابس أنيقة ، و بحذاء لامع ، و برطة عنق ترابية اللون..،لم يدر كيف تغير مظهره بهذا الشكل فجأة. أشعل بسرعة فائقة ، و ببرودة متناهية ، محرك شاحنته ، ثم نظر في المرآة إلى الوراء بعيدا . تحركت الشاحنة ، ثم انطلقت كالسهم في الطريق الطويل ، و المزفت بموج من أسئلة ملتبسة ، آخذة في مهاجمة عقله ، الذي ما يزال تحت وطأة ما حدث .. و هو يعرف جيدا ، أن حفل زفاف الجنية يفوق جمالا و روعة ، زيف كرم بعض البشر ..تدارك ..فقال : أعود بالله ..و بعد لحظة لمح أفعى ، فوق صخرة كبيرة ، في الجانب الأيسر من الطريق ..فتوقف..و نزل من الشاحنة . ازداد الجو برودة ..، و الليل سوادا ..
اقترب من الصخرة الملساء .كانت خالية من الشيء الذي بدا له على هيئة أفعى ، و هو داخل  شاحنته ..

محمد بقــوح
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة