أحمد العروس ينشر نعيه وينتظر التعازي ـ نور الدين العلوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstrait19()...كانت لأحمد لحظات صحو مفزعة. فما كان يمكن لأحمد أن يستمر في تجاهل نفسه واحتقار طموحه على الظهور في الجرائد فقد حدثته نفسه الأمارة بالذهاب إلى الجرائد وعرض نفسه على المحاورين ونشر صورته ولو بلون واحد، يقول لهم «أنا أحمد المشهور بالتخلي عن هموم الناس المنغمس في التفاصيل، أفكر في الجرائد مثلكم.ومثلكم أرى نفسي قريبا من هموم الآخرين البعيدة عن همومي فانشروني في مقال واضح أو أخبروا عني يخلدني التاريخ مثل كلامكم في المزابل، وسحب الاعتبار الأخير وقال «يخلدني في المنازل أو ليس لكم مثلي في القلوب منازل».
  وكانت أبواب الجرائد مغلقة تستقبل المعلنين عن السلع من أبواب جانبيه وتأتيها المقالات بالخيوط الهاتفية. وقد تعيث بالمقص في الجرائد الأجنبية. ولا مكان فيها لأحمد العروس ولو استحال مقصا، فكيف وهو يخرج من قشرته إلى جريدة لا تستحي. وقال أحمد العروس المطرود من الجريدة لأحمد المقابل في واجهة محل مغلق ينعم بالأمن فلا ينزل ستارة الحديد« لماذا تهين نفسك يا رخيص ؟ ما ألجأك إليهم يا فاقد البوصلة يا أحمد الذي علمته التواضع فاستكبر وأبى، أتريد أن تعود إلى الجنون ؟»

وحدق أحمد المُنْعَكِسُ في أحمد الانْعِكَاسِ وقال «ومالي أنا أحمد لا أنزل في الجرائد و يقرؤني الخلائق أجمعين و يسألون من المشرئب في الصفحة الأخيرة كملك لم يفقد التاج ولم يتوج ؟ ويستقون من خبري وينعمون بحسن وجهي في الصحيفة؟ فأنا أحمد المستحم قبل الذهاب إلى المصور وليس لي صورة مثل وجهي، ولن يرى أحد وجهي الفعلي في الصحف السائرة في طريق الوضوح ولا تصل... وقد... ولكن مثل وجوه الآخرين يكون وجهي مزينا وعليه مسحة وعليه سِرٌّ ينضح بالحسن. وجه أحمد بعد المصور وبعد الحوار الصحفي، حيث قلت للناس الحقيقة كلها عن أحمد الداخلي وعن أحمد الخارجي وكيف فرق الدهر بينهما طويلا وكيف يلتقيان في ويختصمان. ويقترب الحديث بينهما إلى حدود الهمس ولا يتفقان. وكيف أن أحمد الداخلي يختزن الجميع ولا يقول لأحمد الخارجي أنه يعرف تفاصيل الحديث الشائع والضحكات الباهتة والصخب الكبير إذا انحشر أحمد الخارجي في الصخب الكبير، وينسى كيف يعود إلى نفسه ليخرج من هوجة الدهماء. وسيرى الآخرون على الجرائد أحمد الخارجي وقد تزين ويفشي أحمد الخارجي – غيظا في أخيه – سر أخيه وكيف يستهين بالجرائد ويمسح بها قفاه في المراحيض القديمة حيث ينسى الماء شكل الحنفية. ولن يجيب على السؤال كيف يا أحمد الداخلي تفعل بالجرائد، ألست تخجل من صور الآخرين أن تراك ومن الأسماء أن تضمحل فيك وأنت تمسح ثم ألا تراعي كيف تفعل بكلام الآخرين ؟ ومن من الأحمدين يجيب على السؤال ؟ يا أحمد المنشطر كخبزة يابسة».
ولكن الحوار يستمر... فمنذ زمن قديم كانت الصحف تنشر ما تشاء وليس يحاسبها الرقيب، فالصحف لم تعرف النقل المباشر ولا ارتباك الواقعين في الصراحة فجأة... والضاحكين على الهواء مباشرة بالاعتذار عن خلل الجهاز كلما فسد الكلام وساءت نية المتحاورين. فالصحف في أصل أصلها تدبر بليل وأحمد العروس يظن خيرا بالصحف لذلك يسعى لنشر صورته وحديث مطول عن كل شيء... عن مروره في الجنون وعن أمه المنسية في المصح العقلي وعن أبيه الذي زرعه واختفى، قبل نشأة صحف الرصيف. وعن كلب الجيران النباح. وعن أحمد الحاذق في التقارير. وعن أحمد التافه المليء بالأفكار المسبقة. وعن أحمد الباطني وعن أحمد الظاهري. وعن أحمد المتخلي وعن أحمد المتجلي وكل أحمد مَرَّ قرب أحمد وترك على جلده بصمة. وكانت الصحف تستقبل المعلنين عن السلع الجديدة وتنسى أحمد إلا في باب العزاء.
  فاتخذ أحمد العروس القرار وكسر جدار الصمت حول نفسه ونشر في صفحة الوفيات نعيه «انتقل إلى العالم الموازي أحمد العروس وهو في انتظار قيام الساعة واقفا في المنزلة بين المنزلتين يرتب أوراقه ليقول كل شيء ويريح ضميره، وتقبل التعازي بمقر سكناه الدنيوي كل يوم من الساعة إلى الساعة ويمكن القدوم للجنازة بدون هدية فليس للمتوفى ورثة يردون بمثلها».
وأشعل أحمد شمعة في بيته وغطى فراشه بملاءة بيضاء وأرسل قرآنا مسجلا ونظرا على نعشه وبكى. «ويلك يا أحمد العروس عشت وحدك ومت وحدك وغسلت جسمك وكفنته وحدك، لا أمك تخبط ركبتيها و تثغو ولا شقيقة تخمش وجنتيها... ولا صديقة تبكي وتقول ”يا فؤادي لا تسل أين الهوى“، ماذا فعلت بنفسك يا عروس أين سلالة صلبك يا أحمد العاقر، أني ضجيج أطفالك يمرحون حولك "كالزغاليل"، وأين رفيقة دربك يا يتيم وأين أنت من الحياة يا أحمد المنسي كصحيفة توزع مجانا وتنقل بالمقص أخبارها من صحف أجنبية. يا أحمد الأذل من صحيفة توزع مجانا، يا أحمد المتوكل جهلا على الصحف الفاسدة.  يا أحمد الذي ليس له أحد، كم أنت وحدك، كم أنت وحدك فانتظر المعزين ولا تبك على النعش المسجى قربك فهو أنت، كيف تبكي وأنت ميت ؟ ولكن هل كنت حيا لتبكي“ وأدرك أحمد موته كاملا فبكى بصدق ثم ضاق صدره من دموع غزيرة فقام يذرع بيته ويطوف حول  جثته يقول ”كان أحمد العروس رجلا صادقا في كل التفاصيل فمات فما جدوى نشر نعيه في الجريدة“، ولكنه أمعن في التعازي، وانتظر مثلما في الجنائز وتنهد... وقال ”الجنائز تدل على الحياة فلأنتظر... لعل...» وراجع الإعلان في الجريدة... «ها قد مت فعلا ودفعت ثمن الإعلان نقدا خالصا، فكيف لا يعزيني أحد... في أحمد الذي كنت قبل أن تحدثني نفسي الأمارة بالظهور في جريدة».
ثلاثة أيام بلياليها وأحمد يشعل الشمع حول روحه حتى انطفأ من طول السهاد فنام وكان يود أن لا يقوم أبدا. ولكن... ثم لخص ”بضدها تتمايز... ولو كنت حيا لمت...“
و أرعبه ما يرى من حاله  فعض على يده  ولم يبك . 

فصل من رواة "المستلبس" الصادرة عن سنة 2005 عن دار الجنوب للنشر
ضمن سلسلة عيون المعاصرة.
كتبها: نور الدين العلوي.



تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة