العـمـــارة – قصة : أحمد أبو وصال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseاستيقظت متعبا هذا الصباح و متأخرا على غير عادتي ، ارتديت ملابسي بسرعة و قبلت ابنتي ، قلت في نفسي : سأتناول فطوري في مقصف العمل . نزلت الدرج بخطى متثاقلة ، عند باب العمارة وجدت حارسها الحاج أحمد ، يرتدي جلبابا أبيض و نقيا ، هذه أول مرة أراه فيها يلبس الجلباب . قام الحاج أحمد و حياني بحرارة و سألني عن زوجتي و ابنتي و عن سر غيابي هذه المدة و تمنى أن يكون السبب خيرا . لم أبد اندهاشي للحاج أحمد ، فأنا لم أسافر منذ  سنوات ، وأحييه كل صباح ، لا أعرف ربما اختلطت عليه الأمور أو اختلطت علي أنا .
أدرت محرك السيارة و انطلقت ، بدت لي الشوارع غريبة عني ، شيء ما تغير فيها ، الناس يسرعون
كما لـو أن هناك من يطـاردهم ، تبـدو عليهم الخيرة والارتباك ، عـدد من الذيـن أعـرفهم تجاهلوني ، حارس السيارات و بائع الجرائد و حتى صاحب دكان التبـغ الـذي اقتني منه كل صباح علبـة محلية الصنع ورخيصة و تعود ممازحتي لم ينظر إلي .

و أنـا أركن سيارتي قريبا من إدارة تحصيل الضرائب ، حيث أعمل موظفا منذ أكـثر من عشرين سنة رن هاتفي النقال . جاء صوت زوجتي متقطعا و غير واضح و كأنه يأتي من هوة عميقة  :

- تـعال.....حا.....لا...السق.....ف....ينها...ر...و...أنا...محا...صرة...مع ز...ينب...
أدرت المحرك من جديد لكنه رفض الاستجابة ...خرجت من السيارة ...أوقفت أخرى للأجرة ، قلت للسائق و أنا مضطرب :
- عمارة الزهور ...شارع الكرامة...أرجوك أسرع و اختصر الطريق ...
نظر إليّ سائق سيارة الأجرة نظرة غريبة ، كان يريد أن يقـول شيئا ثم تراجع ، أنا لم أسألـه ، كنت أفـكر في زوجتي و ابنتي ، و أتسـاءل كيف تنهـار العـمارة ، لقد تركتها منذ نصف  ساعة  فقط ،توقف السائق وسط ساحة واسعة ، أطفال يركضون وراء كرة كبيرة الحجم ، قال دون أن ينظر إلي ،في صوته مزيج من الحزم و الاستهزاء :
- هنا...كانت عمارة الزهور ...انهارت منذ عشر سنوات ...لم ينج احد من سكانها ...سوى امرأة و ابنتها ...
و قبل أن أنتبه لحالي و أفيق من دهشتي ، وينطلق السائق بسرعة كما لو أنه يهرب مني ، أضاف بخبث  :
- و حارس العمارة ...
تأملت الشارع ، هل أكون قد أخطأت العنوان ...هل أخطأ السائق و أخذني إلى جهة أخرى...هل يسخر مني ...لا...لا...الصيدلية ، بائع الخضر ،المقهى...كل شيء في مكانه...كما تركته هذا الصباح ...إلا العمارة لا أثر لها . قررت الذهاب إلى الصيدلية ، صاحبها يعرفني جيدا ، استدين منه الدواء و لا أدفع له الثمن إلا في نهاية الشهر ...فجأة وجدت نفسي أمام حارس العمارة ، صافحني الحاج
أحمد بحرارة و هو يقول متأثرا :
- الأعمار بيد الله ...و المؤمن مصاب ...لا تقلق...ابنتك ستجتاز هذه السنة امتحان الباكلوريا ...
و زوجتك في أيد أمينة ...
قلت في نفسي مستغربا : كيف ...ابنتي لازالت في الصف الثالث ، و لن تصل إلى هذا  مستوى إلا بعد عشر سنوات...و ماذا يقصد بأيد أمينة ...و قبل أن اسأل الحاج كان قد صار بعيدا ...بعيدا جدا .
عدت لسيارتي و استخرجت حاسوبي المحمول ، شغلته ، لازالت البطارية تعمل ، في محرك البحث " غوغل " كتبت ( انهيار عمارة الزهور )  ثم أضفت اسم مدينتي ، جاءت صور مرعبة ، أشلاء جثث ، دخان متصاعد ، عمارة ضخمة سويت بالأرض...بدأت أتصفح الأخبار و المقالات ، لفت انتباهي خبر ، خبر ورد في جريدة يومية واسعة الانتشار : رجل تتصل به زوجته عند بداية تشقق الجدران يعود ليموت تحت الأنقاض ، و تنجو مع ابنتها ذات ثلاث سنوات .
كلام جرائد و الصحافيون يحبون الإثارة ، و لو لم أكن حيا لكنت أنا المعني بهذا الكلام . عدت إلى سيارتي ، قررت أن أدفن رأسي فيها قليلا حتى ينتهي هذا الكابوس . وأنا أغلق باب السيارة رن هاتفي من جديد ، جاء هذه المرة صوت أبنتي واضحا :
- بابا...بابا...غادر العمارة حالا...العمارة تنهار...الأسقف تتهاوى...
تلاشى صوت ابنتي ...و لم أعد أسمع سوى الصراخ ...و ذوي الجدران و هي تصطدم  بالأرض ، استسلمت لنوم عميق و لم أصح إلا على صوت زوجتي وهي تفتح السيارة ، لم تكن وحدها ، كان معها رجل أنيق و شابة تقترب من عقدها الثاني ، الرجل يبدو أنه زوجها و الشابة ابنتها .



أحمد أبو وصال - المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة