شقشقة – قصة : مسلم السرداح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseكنا ننذر النذور وندعو ، وكنا نتضرع لكل شي ء مقدس أو غير مقدس  مما لدى الكبار ،  إنسانيّا كان أم  حيوانيا ، نباتيّا أم حجريا ، حياّ أم ميتا ، على عادة الأطفال غير المسؤولين عن شيء وغير الملتزمين بشيء . والذين هم على العموم لايؤمنون  بشيء أكيد سوى ما يلبي  حاجاتهم  . كل ذلك لأجل أن يأتي العيد ويمر دون منغصات تكبل يديه فلا يعطينا ما نأمل أن  يأتي به لنا ، وهو كثير جدا وكبير ، باعتقادنا كأطفال صغار .
في فترة طفولتنا ومراهقتنا الأولى كان يتزامن مجيء العيد مع غزارة المطر فكنا نتضرع مثلا أن لا يأتي العيد مع أيام المطر ، الذي كان يعبث بأراضينا الترابية فتضيع فرحتنا باللعب واللهو الذي كنا انتظرناه على مدار عام كامل . وندعو بأمل أن يمر العيد ليحمل معه سرطانات الحرمان ويمضي بها بعيدا في بلد لم يكن فيه غير الألم أرجوحة ، وغير الحزن حمارا  ،  نمتطيه أو ديلاب هواء نركب فيه ويدور بنا دورة الزمن ، وغير الفقر ، ملابسا ملونة أو مبلغا صغيرا من المال نرتاد فيه سينما الكرنك أو الرشيد أو سينما الحمراء  والأطلس .

 


أما نحن ، عائلتنا ، فبالإضافة إلى كل ماسينا الأخرى اعتدنا في صبيحة كل عيد ، الاستيقاظ فجرا , أنا وأخوتي على صوت أمي تماما , لا  على  الصوت القادم مع اجراس العيد السابح فوق نسمات فجره الجميل , ولا على مكبرات أصوات الجوامع والحسينيات ،التي كنا في سنوات طفولتنا الأولى نعتقدها تأتي من هناك ، من حيث يسكن الله طريّا في السماء ، وهي تنوح على أهلها الذين فارقوا الحياة , منذ زمن لا نعرف عن مقداره ايّ شيء ,  ولا نعرف أيّ شيء عنهم او عما جرى في حياتهم او موتهم . وكانت  تضيع مع النواح الحزين لأمي أحلام عام طويل من الانتظار والترقب .


كانت تبكي بموسيقى حزينة ذات ايقاع شرقي قاتل . وكان صوتها يرق حتى  يصير جنائزيا يجعلنا نتمزق على زمانها الذي مضى ,  والذي لم نعشه ولم نتعرف على تفاصيله .  فصارت الأعياد والمناسبات السعيدة ,تشكل عبئا نفسيا شديدا وحادا علينا , وطلاسما يصعب حلها او معرفة أسرارها بالنسبة لأطفال صغار السن  مثلنا فكنا  نرى الأعياد كوابيسا والمناسبات السعيدة مأساة .    كنا نتمنى أن لا تاتي الأعياد ,  او على الاقل , أن لا تمر ,  إلا  ويعود لامي جميع من فقدته من  أهلها الذين تنوح عليهم ,  لتكحل عينيها بمرآهم  علها تترك هذه العادة الغريبة ولتطيب جراحها التي خربها الزمن .


لقد كنت اعتقد حين اسمع رجع نواحها في داخلي  إن أقارب أمي قد فقدوا  اثر كارثة حدثت بغتة أخذت معها الجميع وأخذت معها في طريقها أقارب أمي , كلهم وهاهي ذي تبكي على الجميع ، أهلها وجيرانها ومن لا تعرفه حتى .
ولكثرة ما كنا نحب أمّنا مثل كل الآخرين  كنا نجلس بعيدا عنها لنروح نبكي ونبكي معها دون أن تدري هي ودون وعي منا لأي شيء مما يجري حولنا .
ولقد مرت جميع أعياد طفولتنا تلك على هكذا منوال . حتى إني رحت اثر ذلك أتصور كل الأمهات وهن يستقبلن العيد استقبال أمي له بطريقة البكاء والدموع الغزيرة  وكأنه طقس إضافي للأمهات ,خارج إطار الطقوس الخاصة بالرجال ، رغم إني لم أشاهد مثيلا لها عند غير أمي ، وذلك لإقناع نفسي إن ما يجري هو شيء طبيعي للجميع ، ومن المسلّمات التي يعرفها الجميع والأطفال منهم على وجه الخصوص .

وكم كنت  , باعتباري الابن الاكبرلها  , أتمنى  أن اطلع على بعض أسرار حياتها السابقة والسبب الذي جعل كل ذلك الحزن يسكن فيها ، لعلي أتمكن, ولو قليلا , من التخفيف عنها واستبدال حزنها بشيء من السعادة . ولكن الوالدة العزيزة كانت تأبى البوح بأسرار تعتبرها من المقدسات التي لا يجوز الإعلان عنها   , بل وإنها كانت بعيدة تماما عن سماعي حتى ,  ولذلك لم استطع الحصول منها يوما عن إجابة وافية او كلام فيه شيء من الفهم والإقناع .
شيءٌ واحد فقط استطعت معرفته من خلال أحاديثها اليومية المجتزأة  ، وهو إن ذلك الكم الهائل من الأبيات الشعرية الحزينة  تلك التي كانت تحفظها  ,  تعلمته من أمها , الشاعرة  ,  وقد اخبرتني عن  ذلك بفخر شديد  .  يا الله...!!  أي حزن كان يكمن في تلك المراة التي هي جدتي  لتخرج من روحها , كل تلك الكلمات الثقيلة ؟  والتي تبدوا  وكأنها كانت  تنبعث من  قيامة الأشياء لتحرق باللهيب المتصاعد منها جميع من يتقرب لها   ,  والتي كنا نتلوى تحت جمرها مثل , كائنات  تتعذب , تحت رحمة  جبار حاقد يحرق مريديه وأعداءه على السواء  .
أما أمي التي كانت تبكي وتندب كل من يمت لها بصلة , والذين ماتوا منذ فجر التاريخ ربما, كما بدا لي ,  ولغاية ألان , عبر أشعار  يبدوا إن لها هي الأخرى , امي , باعا طويلا في تأليف الجزء الأكثر إيلاما منها ,  والذي كان يظهر من نبرة كلامها التي تنخفض تدريجيا لتصير اقرب للأنين , لتزداد معه , غزارة  دمعها الغزير اصلا .
وقد كانت أمي تتجاوز الأعياد إلى المناسبات السعيدة  وأحيانا تتجاوز حتى المناسبات , وغيرها من الأيام وخصوصا حين تنفرد بنفسها ساعات خروجنا من البيت لنفاجأ عند عودتنا ببكاء أمي الذي كنا نسميه ، نواحا.

لقد أدمنت أمي الحزن على مايبدو . فكانت المناسبات السعيدة تحفز امي لتجلد نفسها , وتجلدنا معها , دون مراعاة ما ستخلفه فينا عبر الايام .    وبعد أن تضج أمي بالبكاء لمدد زمنية تتجاوز  , الدقائق الى  الساعات تهدا لتعود إلى طبيعتها السمحة البسيطة , و يعود لنا بعض من مرحنا وابتهاجنا  بقدوم العيد , أما هي فتبدو  وكأنها قد نست او تناست تماما ماكان منها ,قبل قليل , وكأنها فاقت للتو من مخدر نشط ثقيل توغل في ذاكرتها فأنساها التفاصيل  .
تعود لتسمح  لنا بالتقرب منها والبوح لها بأفكارنا وتساؤلاتنا  كأم ونتحدث  عن أي شي , سوى الجزء  الخاص بنواحها وكأنها لا تدري عما نقول . ربما لأنها تريد أن تضع حاجزا يفصل بيننا والجزء الخاص بها والذي لا تريد لأحد الإطلاع عليه . ولقد صار هذا ديدننا الذي, يرتبط بذلك  الحزن الازلي , الذي قد امسى شائعا  جدا  في حياتنا  .    
                                                        
وحدثت في احد الأعياد مفاجأة انقلب على إثرها برنامج أمي في ذلك العيد حين جاء إلى بيتنا  زائر كبير في السن يبدوا انه ناهز السبعين ذو شعر راس ابيض ولحية بيضاء ناعمة الملمس بعينين انهكهما النظر الطويل للأشياء والصبر عليها مع عكاز من الخيزران السميك ،  لها راس مشوه لاسد ,  يتوكأ عليها . ادهشنا منظره في الوهلة الاولى , قبل ان يتبين لنا انه اخوها  .
كان عبارة عن بابا نوئيل مفلس بلا هدايا او حقيبة . لم نفرح به للمرة الأولى ولم نعره اهتماما يذكر .
كان الرجل مرحا جدا , بعكس امي الحزينة دائما , والتي يبدو  وكان شيطانا شقيا  خلق من العدم بشكل خاص لإيذائنا يجثم على سعادتها  ,  مثل مسناة كونكريتية  ثقيلة , وهو يختار المناسبات السعيدة موسما لعمله مع امي . 
      
حدث ذلك   في احد الاعياد ,ولاانسى ماحييت منظر امي التي احتضنته وهي تجهش بالبكاء ، بنشيج عال, وكأن , زائرا هبط من المجرات ،  الأخيرة البعيدة ,  جاء ليخبرها عن اشياء غامضة  , او ليسدد جراحها المجهولة لنا  . ثم  اصبحت , وفجاةهاشة باشة .  اما ذلك الرجل ,الذي بدا لنا مثل مارد  خرج  توا من الماء او انبثق من  صخرة متوحدة  في الصحراء تحولت معه أمي من نائحة حزينة إلى امرأة ,بدت سعيدة كما لم تبدو  من قبل , وهي ترحب بذلك الزائر الذي كانت تسميه ,  أخيها , وهو, الإله السبعيني العمر الذي انفلت فجأة من المجهول , كما تنفلت الملائكة من إسارها الجميل والذي صرنا الآن نحبه ونخاف على حياته  مثل أي شيء  ثمين .                                                 
الغريب إن أمي لم تسأله عن احد . وهو لم يخبرها عن شيء, وكأنما هو يمثل نفسه وكل الآخرين   ،  في وقت واحد . ترى هل كان خالي هذا هو كل اهلها  ؟ هذا ما ستظهره الأيام لنا  ، ربما .
كان مجيء أخيها ذاك   متأخرا كثيرا بالنسبة  لي لان الأعياد قد باتت لاتهمني  بسبب مغادرتي مرحلة الطفولة أو ربما لان ماجاء بعد مجيء خالي من أحداث قاهرة ، والوعي المفرط للشعور بالفقر والطبقية والحروب فيما بعد , قد مزق ذلك الطعم الجميل للشعور بالأعياد . وأتذكر الآن بحزن كبير قول الشاعر جميل بن معمر :

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها                                 فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فما الفائدة من حضور الأشياء بعد فوات الأوان  ؟ إذ يظل ، جرح  ، حرمانها كامنا فيك ولن يغادر مع الأيام ؟ .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة