ما هذه الرائحة ؟ـ قصة : مروان مجادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ما هذه الرائحة ؟؟ إنه يعرفها جيدا صار خبيرا إذا بفضلها ... إنه قادر على ملامسة رائحتها و هي مقبلة من بعيد ...إنه يشم صورتها كأنها تجلس حذوه ...
ما هذه الرائحة ؟
ODEUR-ABSTRتعجب من نفسه ... متى كان قادرا على تمييز الروائح ؟ كيف إشتم عطرها في ارجاء المكان قبل أن تأتي ؟؟... منذ متى صار يفهم بالعطور الباريسية الفخمة و هو من تعود على إقتناء الرخيصة منهاو المعروضة بأسواق المدينة ...؟
عجيب أمرك كيف لمن تعود أنفه على دغدغة الغبار و تذوق رائحة العرق المالح أن يصبح خبير عطور ؟؟
عجيب أمرك و محير ،.. هو العشق إذن  ... هنالك إمرأة ما .. 


ماذا فعلت بنفسك ، أتعلم بما تورطت لتوك ؟ ألم نغلق هذا الشباك في وجه الرغبة
و الحب منذ أن رحلت ؟..
ما هذه الرائحة ..؟؟ إنه يعرفها جيدا... لماذا لم تأت ؟ لا بد أنها قادمة إنه يشعر بذلك ... يشم ذلك ...
....
 
أحس بتيار خفيف يسري في كامل جسده ، .. لم يتفقد ساعته ، كما تعود أن يفعل دائما ،.. ثمة شيء ما يطارده ، يملي عليه ما ينبغي له أن يفعله ..
لم يعدل جلسته كما دأب على ذلك كان في حالة فقد معها احساسه بالزمن و بمن حوله ، .. أحس برعشة لذيذة تجتاحه و برغبة ملحة في أن يغمض عينيه كطفل داهمه النعاس بعد تعبه من اللعب ...
لم يفق من شعوره هذا إلا على جملة النادل المعهودة " نجيبلك قهوة أخرى كالعادة .."  هز رأسه بشكل متتالي دلالة على الموافقة .. جذب علبة السجائر من جيب سترته التي تفطن إلى أنها اهترأت بما فيه الكفاية ،.. كم يحب هذه السترة ، لقد رافقته لأربع سنوات متتالية ،.. قلب شفتيه قال في نفسه  " ربما سأشتري أخرى تشبهها في الشتاء القادم  " 
أشعل سيجارة و سحب منها نفسا عميقا كاد صدره أن ينخلع معها ،.. عاد إلى شروده
و تحديقه المتواصل للركن الذي تعود أن يجلس فيه بالمقهى تماما حذو النافذة أين كان يتلهى بتأمل الحركة التي يشهدها شارع الحبيب بورقيبة كل مساء ...
عادة ما يشعر بالإستياء إن سبقه احدهم إلى مكانه المفضل لذا كان يحرص على أن يذهب مباشرة إلى المقهى اثر انتهائه من العمل ... لاتهمه المسافة التي يقطعها من أجل شرب القهوة أو احتساء النبيذ إذا استطاع إليه سبيلا ... كل ما يريده هي هذه المقهى بالذات
و ذلك الركن تحديدا ..
لكن هذه المرة لم يشعر بأي إستياء أو غضب و لم يتعكر مزاجه كما تعود على الرغم من أن ركنه المفضل محجوز للأسبوع الثالث على التوالي ... ربما كان هذا عائدا إلى أن من إستولى على مكانه إمرأة أدمنت حديثا الجلوس بنفس المقهى ... 
لا بد أن هنالك سبب آخر أكثر وجاهة يفسر عدم انزعاجه ... أيعقل أن نجد صدفة من يقاسمنا أدق عادتنا ؟؟ 
إنتبه فجأة و هو يطفيء سيجارته إلى الإصفرار الواضح على أصابع يده اليمنى،..
عاودته نوبة السعال التي تلازمه كل شتاء .. تذكر زهرة ... إنه يكاد يراها الآن ... زهرة من شاركته سنوات الدراسة الإبتدائية بمدرسة السيجومي ... إيه ما أجمل تلك الأيام ...
لماذا تداهمه ذكريات الطفولة الآن ؟
زهرة بعبثها الطفولي و مشاكستها الدائمة ... أغلق عينيه كمن يتلذذ بالذكرى ... إبتسم و هو يتذكر تعاليقها الساخرة من حديث المعلمة عن التلقيح و الوقاية من الأمراض ذات الأسماء الغريبة ( الكزاز ، الخناق ...) كم ضحكت حين سمعت المعلمة عندما قالت ( السعال الديكي ...) حينها أشارت إليه و هي تبتسم بمكرها الجميل " بجانبي ديك يسعل "
طبعا كان يدرك سبب ضحكها  .. إنه يكاد يجزم اليوم و بعد مرور كل هذه السنوات أنه تنبأ يومها بتعليقها ...كان يسعل دائما حتى و هو طفل ،... كم يحب هذا الأسلوب المتحدي في كلام زهرة ...
كم أنت جميلة يا زهرة ،.. ليتك كنت موجودة هنا لتدركي بأن زميل الدراسة لم يتغير ، لا زال يسعل كعادته كل شتاء و إن أصبحت النوبات أشد حدة من ذي قبل ،.. كل ما تغير فيه هو شحوبه المتواصل و اصفرار أصابع يده اليمنى ..
 تخيل لوهلة أنه يراها ماثلة أمامه بميدعتها الزهرية و بجديلتيها و ابتسامتها المشاكسة ...
 
أين أنت يا زهرة ؟! 
توجم وجهه للحظة و هو يسترجع سخرية زهرة من السعال الديكي ،.. ماذا إن كان قد تحول فعلا إلى ديك مثل  الكثيرين من معارفه ،.. أزعجه هذا التصور ، شعر بمرارة غريبة في حلقه ، كادت أن تنهمر دمعة غليضة من عينه ، .. لا يدري لماذا كبت جماحها ، هو تعود أن يبكي إذا شعر برغبة في ذلك .. لم يتعلم أن يخفي مشاعره حتى و إن حاول فإن ملامح وجه كانت تشي بما يتظاهر بإخفائه ...
كم يكره أن يصبح ديكا ... ماذا لو كان كذلك ؟ 
أراد أن يبكي لكن شيئا ما منعه من ذلك ،.. لم تكن تلك التقييمات الذكورية الجاهزة ،..
" الراجل ما يبكيش !"هنالك سبب آخر لا يدركه .. 
أيعقل أن يصل الأمر بالديكة إلى هذا الحد من الإبتذال ؟؟ كيف يمكنهم الفصل بين الناس على أساس جنسهم إلى أي معيار استندوا في تقييمهم هذا ؟؟
إن كل ما يدركه أنه توجد مشاعر إنسانية و إنسانية فقط لا يمكن التمييز بينها ....
من أين يأتون بحكمهم البائسة ...؟...
المرأة ، الرجل ... لم يستوعب كيف توقفت حركة التاريخ بأبناء جلدته هنا .. تذكر ما قرأه ما عاشه من أحلام ما ناضل من أجله ؛ خلق الإنسان الجديد و المجتمع الجديد ...
هو إنسان على الأقل لم يعد يملك سوى هذا الحيز ليختبأ به من شر الديكة ... هو إنسان على الأقل ... آه كم يعشق المرأة و كم يكره أن يصبح ديكا ... أين أنت يا زهرة ؟؟ 
تذكر كلام أمه ذات شتاء " إن اتبعت كلام الناس قلبوك يا خالد .. أتعلم معنى هذا يا ولدي ؟!  ستتوه عن نفسك .. اضحك دوما لكن لا تخجل من دموعك فأنت إنسان .. أخرج ما بداخلك يا بني .. من لا يعرف البكاء لن يعرف الضحك ...، رجل لا يبكي هو انسان ميت ..." 
لم يدرك وقتها كيف نطقت أمه بهذه الكلمات ... هي لم تقرأ روائع الأدب السوفياتي و لا اطلعت على تاريخ الفكر البشري ، لم تطالع لسيمون دي بوفوار ... لعلها التجربة ... اننا نتعلم من تجاربنا ... 
أيكون واقعك يا أماه هو ما جعلك تتبنين هذه الأفكار ... الواقع يصنع الفكر ... هنيئا لك يا أماه انك تجيدين الجدلية ... أين أنت يا أماه اني أخشي أن أصبح ديكا ... 
آه كم أحبك ...
...
كان وقتها بالعشرين من عمره .. لا زال غرا لا يدرك الكثير ... ، بكى حينها لحظة غادرت أخته إلى بيت زوجها ... كم بكى ليلة زواجها ،... نهاه عمه عن صنيعه ،.. ردد على مسمعه الجملة المقدسة و المفضلة لدى الديكة " الرجل لا يبكي " 
حاول أن يمسح دموعه لم يستطع ... فقالت له أمه ما قالت ...
ماذا فعلت بنفسك يا أختاه !؟
تزوجت ديكا ،.. ليتك كنت تجدين آداء دور الدجاجة الطيعة لعشت بسلام تماما كما يفعلن الكثيرات ،...
ليتك تعودين يا جميلة ، .. ألا يكفيك من هذه الهجرة اللعينة ،.. من هذا المنفى الإختياري ؟!!
طلقت الديك فلماذا لم تعودي يا جميلة ؟! 
... اه كم يعشق المرأة و يكره أن يكون ديكا مثلهم ...
...
أحس برأسه تكاد تنفجر من إزدحام الذكريات بهذا الشكل المفاجيء ...
اخذ يتأمل الجالسة في ركنه المفضل ... غريب أمرها أتقاسمه كل هذا الزخم الطفولي ، عشق نفس المكان ، نوعية الكتب  ،.. هو يدرك أنها تمقت الديكة و هو لا يريد أن يكون ديكا ... كم يحبها ..
أيعقل أن تعود إليه حاسة الشم بهذا الشكل المفاجيء إنه يشتم رائحة عطرها يستطيع تمييزه وسط هذا الكم الهائل من الروائح .. حتى رائحة البن أصبحت جغرافيا بينهما .. كم يعشق أصابعها النحيلة البيضاء و هي تتصفح كتبها ...
لم يدري كيف إنتبه إلى ارتجافة خفيفة تعتريها يدها اليسرى ... هو يعرف معناها إنه الإرهاق  ... هي لا شك لا تنام إلا قليلا، لها أحلامها البسيطة حد العظمة مثله تماما كتغيير العالم مثلا ... 
كيف تشبهه لحد الإختلاف و يتماهى معها دون أن تغيب حدودهما الفاصلة ...
رائحة البن جغرافيا تؤرخ التعب الذي إستبد بجسده منذ زمان ،كيف لجسد أن يعتريه الصدأ لهذا الحد ؟
أحس بفرح طفولي ،إرتعش كعصفور إنتابه العطش فجأة ،.. كم يحبها كم يشتهي كل تفاصيلها الغامضة الموغلة في الوضوح ...
...
رفعت يدها ليراها النادل كم يعشق أصابعها الدقيقة البيضاء ..
" أتحبين القهوة لهذه الدرجة؟ "قال في نفسه و هو يرى النادل يضع أمامها فنجانا آخرا ،.. منذ أن وصل إلى المقهى لاحظ أن الإبتسامة لم تفارق وجهها الذي عجز عن رسم ملامحه بوضوح ...ضحك من طقطيبة عمره حد السخرية ..
آه كم يريدها ...
كم يود أن يتوجه إليها أن يبوح لها بكل ما يعتمل في نفسه ، أن يقبل مفرق شعرها بخشوع وهدوء أن يلامس أصابعها الدقيقة البيضاء أن يداعب خصلات شعرها ... إنه يشتم رائحتها ما أشبهها بالأرض ...
أشفق على نفسه كاد يطير إليها ،يبكي على ذراعيها كطفل فقد لتوه والديه ..
كم يحبها ،رائحتها تملأ المكان والبن جغرافيا ...
ولكن جسده منهك وصدأ ...عجيب أمرك يا خالد ..
هو لم يتعود على إخفاء مشاعره سيتوجه إليها ... تذكر كلام أمه ذات ليلة مقمرة ..
"إياك أن تقاطع إمرأة يا ولدي ... إستمع إليها و أنصت ليرحمك العشق يا ولدي .."
الرحمة يا أماه ...إني أعشق أصابعها الدقيقة البيضاء وجسدي متعب ..وأخشى أن أصبح في يوم ما ديكا مثلهم ...
عاودته نوبة السعال و رغبته بالبكاء ،.. لكن ثمة شيء ما يمنعه ، كان ينتظر فرحا ما يأتي بشكل مباغت ... حتما سيأتي ، حتما ستأتي إنه يشم ذلك ...
كم يحب أصابعها الدقيقة البيضاء ... كم أنت متعب يا خالد ..!!
قلبت هدى الكتاب الذي بين يديها ، نظرت إليه طويلا ثم أغلقته ،.. استرخت في مقعدها ،.. داعبت شعرها و أطلقت زفرة طويلة ، ساخنة .. إنه يشعر بحرارتها تلفح وجه ، تنفض ما علق من الغبار و الصدأ على أيامه ...
كم يرغب فيها .. كم يحبها ، كم يحب في نفسه صورتها ... و لكنه متعب .. يريد أن يبكي على يديها كطفل أضاع ألعابه ... هل يعقل هذا ؟؟
الرحمة يا  سيدتي  ...
...
ابتسمت هدى.. كم ارتاحت لعيونه تناجي تفاصيلها بهذه الرقة .. لم تشعر بأي إنزعاج من نظراته ... كان فيها شيء ما.. سرا يتوحد بسرها الخاص ..
كم تكره وقاحة الديكة حين يقتحمون عالمها بأساليبهم القذرة ،..
لم تشعر بأن نظراته فيها من الإقتحام والوقاحة ما يزعجها ،على العكس تماما إنها ترتاح إليها ..كم تعشق هذا الطفل الساكن في أعماقه إنها تراه الآن يطل من عينيه ذات اللون الكستنائي ..
عضت على شفتيها القرمزيتين أغمضت عينيها وقالت في نفسها "لماذا تعاودك هواجس الماضي الأن يا هدى ...؟ "
إبتسمت ...حين شعرت برغبة ملحة في الكتابة أيعقل هذا؟ أيمكن أن تعود إلى الكتابة بعد سنوات من الهجر ؟
ثمة ما يدفعها إلى هذا دفعا  لعله ألمها وجعها وتعبها من إقتسام ليالي الشتاء الطويلة الباردة مع نفسها ..
إنها تحس بدفئ يسري في كامل جسمها ... ماذا يريد منها هذا الجالس قبالتها ..؟
...
"أتدرك بما تورطت لتوك يا خالد ؟ "تمتم وهو يشعل سيجارة أخرى .. أغلقنا هذا الشباك في وجه الرغبة والحب منذ سنوات ،منذ رحيلها .. لماذا رحلت هكذا ؟
أبالغ في تقييم حقيقة مشاعره نحوها ، أم تراه صادر كامل ارادتها بلطفه و عطفه عليها ؟
هل تسرع في التعلق بها ؟ ،.. ليس يدري ..
إبتسم فجأة و تحدث إلى نفسه بصوت خافت " ما دمت قادرا على الحب فلن تصبح ديكا "
لم يلم نفسه و لم يبحث لها عن أعذار كما تعود .. لم يشعر بأي ضغينة تجاه سلمى ، كان يكفيه أنه أحبها بعمق ...
شعر بتحسن طفيف ، هدأت نوبة السعال و نزلت دمعة واحدة غليظة على خده .. انتهت رغبته في البكاء بل امحت ...
إنتبه إلى سترته مجددا ، إيه لقد اهترأت بشكل كلي ... كم يحب هذه السترة و كم يكره عمله ،.. هو خريج الفلسفة ... يشتغل بأحد مصانع جبل الجلود يعانق يوميا الأتربة
و الغبار ..لقد تشققت أصابعه ..أصابعه التي اصفرت من السجائر فقدت شكلها بفعل حمل الرخام في المصنع ... آه كم يعشق أصابعها البيضاء الصغيرة ...
ثماني ساعات يبيع فيها جهده ،قوة عمله مقابل أجر زهيد يكفيه فقط للمحافظة على حياته ليذهب في اليوم الموالي للعمل كجمل الناعورة ...
أحس بغضب عارم يعتريه ،ما أشبهه بثور مطعون في حلبة المصارعة الإسبانية ...
أشعل سيجارة و أسلم نفسه للذكرى ؛ تذكر الجامعة، الشعارات التي رفعها صحبة رفاقه
تذكر الإجتماعات العامة ، حلقات النقاش ، البوليس وحتى شكل المدرج و مكانه المفضل ..
إنه يرى كل هذا بوضوح كما لم يفعل ذلك من قبل ...
إيه... "لم تذهب حياتي عبثا على الأقل "
إنتبه للجالسة في ركنه المفضل ، أحس لوهلة أنه يعرفها منذ زمان ، تفطن إلى أنها تنظر إليه بدورها ..
"أيعقل هذا.. ماذا فعلت بنفسك يا خالد ؟ألم نغلق هذا الشباك في وجه الرغبة منذ زمان ؟ لماذا الآن ؟"
سمع كلاما كان يعي جيدا صاحبته ..إنها أمه مرة أخرى :"المرأة جديرة بأن تعشق والحياة تستحق المغامرة .. كن إنسانا ياولدي ..كن رجلا ولا تكن ذكرا .."
أين أنت يا أماه ؟ ليتك ترين أصابعها البيضاء الدقيقة ...
لماذا رحلت يا أماه ؟
أحس بخدر يجتاح جسده إجتياحا ..تجمد للحظة ..
لا يدري لماذا تصر الأفكار على إقتحام حاضره بهذا الشكل النزق ..تمنى لو يلقي بدماغه لو يستغني عن عقله قليلا ..أياما معدودات ..
لماذا كلما نظر إليها داهمته الذكريات ...؟
قفزت صورة محبوبة إلى رأسه لا يدري كيف ... أمي محبوبة .. زميلته في العمل .. إمرأة في الخمسين من العمر .. أقل أو أكثر.. تحديدا لا يدري .. هي نفسها لا تذكر أو لا ترغب في ذلك ..مثلها لا يتذكر لا يملك الوقت لذلك ...
شكرا للإنسان على نعمة النسيان ..شكرا للسان على معجزة الصمت .. أمي محبوبة ..
تنسى لتتذكر إبنها الوحيد الذي إبتلعته الأمواج ذات خريف ..قتله حلمه ومن الأحلام ما قتل ..
هاجر خلسة ليموت علانية .. إيه يابلدي كيف تدفع بأبنائك للموت في أعماق البحر ؟
هل أضحت طقوس القرابين البشرية خبزنا اليومي فيك يا وطني ؟
ما أندر الخبز فيك يا وطني.. نادر تماما كالإنسان ..
إمي محبوبة ..تكره البحر و السمك .. كما يكره هو الحدود ومفهوم المياه الإقليمية والمجال الجوي ... كم يعشق الإنسان ..
أحس برغبة في الصراخ .. تمنى لو يطلق العنان لصوته الخشن .."لا حدود بين إنسان
و آخر .. لتسقط هذه الأصنام لقد حان وقت أفولها ليحيا الإنسان "
أمي محبوبة ..كم يعشقها ..
إيه يا محبوبة من أين لك كل هذه القوة ؟
تذكر كيف كان يستلهم منها هذه الطاقة الإنسانية في اللحظات الحرجة التي صاحبت الإضراب الأخير لعمال المصنع ..
كان يكفي أن تشير إليه بنظراتها الصارمة كي يفهم بأن أمرا ما قد طرأ ..
كيف تجيد أن تقول كل شيء في صمت كما تفعل الجالسة قبالته ؟
...
أغلقت هدى الكتاب المفتوح أمامها .. شعرت بحرارة مفاجأة تسري في كامل جسدها ..
ماذا يريد منها يا ترى ؟
أحست بشيء من الإرتباك الممزوج بنوع من الفرح .. ماذا ستفعل بكل الفوارق التي تنتصب بينهما لتقتلعها إقتلاعا من خواطرها؟ .. كم تزعجها هذه الإكراهات المصطنعة التي تعلن عن نفسها بكل نزق و إبتذال ..
وحده الحب يحقق المعجزات ووحدها عينيه تفصح عن المسكوت عنه ..
كم تعشق بساطة ثيابه وهذا الفرح الطفولي الذي يسكنه .. كم يرهقها صمته و يريحها حد التعب شغفه بها ...
لم تنتبه في البداية إلى يدها وهي تمتد بخفة لتداعب عنقها .. إنها تحفظ تفاصيل جسدها حرفا حرفا ... إيه هذا الجسد متعب نوعا ما لكنه واضح وصريح كعينيك تماما يا أيها الرجل المدمن على ثرثرة الصمت ...
هو يشبهها و يختلف عنها في آن .. يغريها فمه الصغير المتناسق مع شكل وجهه ..
ثمة حاجز ما بينهما.. وحده الإنسان يتجاوز كل الحدود ..
ليتها تفهم ما أصابها ..
غريب أمرك يا هدى ...
...
كم يعشق أصابعها البيضاء الصغيرة ، كم يمقت أن يكون ديكا ..
كم يلزمه من الجرأة ليتكلم ومن الصمت ليفهم ما إعتراه ...
...

 
ما هذه الرائحة ؟؟ إنه يعرفها جيدا صار خبيرا إذا بفضلها ... إنه قادر على ملامسة رائحتها و هي مقبلة من بعيد ...إنه يشم صورتها كأنها تجلس حذوه ...
ما هذه الرائحة ؟
تعجب من نفسه ... متى كان قادرا على تمييز الروائح ؟ كيف إشتم عطرها في ارجاء المكان قبل أن تأتي ؟؟... منذ متى صار يفهم بالعطور الباريسية الفخمة و هو من تعود على إقتناء الرخيصة منهاو المعروضة بأسواق المدينة ...؟
عجيب أمرك كيف لمن تعود أنفه على دغدغة الغبار و تذوق رائحة العرق المالح أن يصبح خبير عطور ؟؟
عجيب أمرك و محير ،.. هو العشق إذن  ... هنالك إمرأة ما .. 
ماذا فعلت بنفسك ، أتعلم بما تورطت لتوك ؟ ألم نغلق هذا الشباك في وجه الرغبة
و الحب منذ أن رحلت ؟..
ما هذه الرائحة ..؟؟ إنه يعرفها جيدا... لماذا لم تأتي ؟ لا بد أنها قادمة إنه يشعر بذلك ... يشم ذلك ...
إنها قادمة لا ريب في هذا .. مامن شك في هذا
إنه لقائهما الثالث بنفس المقهى الشاهد على وحدة قلبيهما ...
ثمة أمل يجمع بينها ومساحة مشتركة من الحلم أثثها الشوق و الصمت والكلام .. لذلك أدرك بأنها ستأتي .. هو يشم ذلك .. هذا موعدهما الثالث .. لذلك طلب من النادل أن يعد لها قهوتها ..
تذكر كيف جلس ذات مساء حذوها و قال ما كان يجول بخاطره ، ما يحس به دفعة واحدة ،.. إرتبك حينها ، تلعثم و أخطأ حتى في نطق أبسط الكلمات و أكثرها بديهية
عندما أكمل حديثه بعينيه التي عرت حقيقة مشاعره و أفصحت أكثر من كلماته الكسولة المرتبكة عن ما يحس به تجاهها وهي تستمع إليه في صمت أراد المغادرة .. لم يشعر إلا بتلك الأصابع البيضاء الدقيقة تمتد إلى يده لتطلب منه أن يستمع إليها ...
هي آتية لا ريب في ذلك .. لذلك إقتنى قبعة جديدة من "النصب" الممتدة بشارع المحطة المقابل لمحطة القطار بساحة برشلونة وصدرية صوفية حمراء اللون من "فريب" الحفصية .. لم ينسى هوسهما المشترك بالكتب لذلك أعد لها مجموعة قيمة من سوق الكتب القديمة الممتد على طول الشارع المحاذي لساحة محمد علي ...
ما هذه الرائحة ..؟ إنها هي ..رائحتها إقتربت بما فيه الكفاية ليراها بوضوح تلج باب المقهى ..
أين أنت يا أماه ؟ إبنك فهم حكمك أخيرا .. ليتك ترين هذا
أين أنت يا زهرة صديقك لم يتحول إلى ديك...
أمي محبوبة سأعرفك على هدى ...
جميلة ..يا أختاه..يجب أن تعودي لتكوني شاهدة على سقوط رواسب الصدأ عن جسدي النحيل .. كفى غربة يا جميلة ..
إنها آتية ..هاهي تتجه صوبه ضاحكة كعادتها ... تفطن إلى الساعة الحائطية التي تزين الركن الأيسر للمقهى .. لقد أتى قبل الموعد بساعة تقريبا .. أضاع إحساسه بالزمن .. مضحك أنت يا خالد ..
كان على يقين بأنها ستأتي لذلك إحتفظ لها بأحلامهما ..
ما الذي تورطت فيه يا خالد أجمل شيء تراه ..؟ليس يدري تحديدا ...
هي بجانبه وكفى ...
كان يعلم أنها آتية.. لا زال أمامهما درب طويل من أجل خلق الإنسان الجديد و المجتمع العادل ...
إنها آتية يشم رائحة الوطن فيها لا ريب ...

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة