رقصة ليلية بائسة ـ قصة : عبدالله محمد حجازي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

le-signe-du-destin انها المرة الأولى التي يلازمه الأرق فيها فلا يهدأ ، وتنصب الهواجس في خياله فتذرع بتبديد النوم من عينيه الغائرتين، كمن يحرث أرضا يابسة. وبوجوم حاد تفرس وجه زوجته وصغاره، تكسوه الخيبة، ثم انغرس في الغرفة التي أكلها السواد والعفن, وأخذ يقلب نظراته بقلق وحيرة، وفي منتصف الغرفة طاولة خشبية ثبت فوقها قدميه الهزيلتين كراقصٍ صوفي وأخذ يدور ويدور كالمجذوب، والمسافة بينه وبين السماء تتضاءل أو هكذا شعر، أحس بالتلاشي عن هذا الكون السحيق، وكأنما ألقى بنفسه في فلك سماوات سبع، يفتش عن الراحة ،أو عله يلقى الله فيخبره بتلك الآهات المدفونة في صدره من شدة الحزن الرابض فيه .



يرقص ويرقص، وصوت أغاني فارسية يكسر هدوء الليل.  للناي صوت الشجن، وقد اعتادته حينما يروض عزلته، وعندما اضاء العالم كله جاءه ملاك صغير حط بجناحية على النافذة، وحارت الكواكب في رصد مكانه .. بينما بدد تلك العتمة التي تمضغ روحه دون مبالاة .
تملكه الذعر وسرت بجسده قشعريرة حادة، ابتعد بخطوات واجفه واقترب الملاك حتى دنا منه، ومسد شعر رأسه الذي كش، ومسح بخفة على عينيه كي لا يذوب في النور ..  تملكه الفزع من جديد، واخذ يصرخ ويولول، دون ان يدركه احد. همس الملاك في أذنه :

- أنا الملك جئت اليك ، رهين يديك، أخلصك من هذا العذاب .

وبدا القلق يذوي من داخله، وأشرق محياه الجاف مثل بدر ناضج .. وبصوته الخشن قال :
- كنت أعلم بأن الله لا يترك عبده .
- الله لا يخيب ظن عباده به .
-هذا يقين دائم .
-لك أن تأمرني ولك ما أردت .

كاد أن يقول له، خلصني من هذا الموت الذي يحاصرني، من تلك القسوة التي تحيط بي وتسحقني كل يوم .. وخذني الى الله بعيداً عن هذه الأرض القاسية، عذبني ان شئت كي أتخلص مني، لأرى ربي خاليا من كل ذنب. لكن الهاجس خطفه ولطمته الأسئله عن أطفاله وزوجته، وعن الديون التي عجز عن تسديدها، وعن أحلامه التي يعيش من أجلها
وبانكسار عاد يقول :
- اخرجني من هذه الأرض لأرى العالم مرة ثم أعود .
-لك ما أردت .

صعد على كتف الملاك، وحلق بعيدا في المدى، سار في بحر العالم المضيء, وفي غمرة فرحه، نسي كل شيء ماضٍ، فتح قلبه واستفاق على الحياة من جديد، سار بين حدائق ذات قرار معين، نام في جوف الليل تحفه السكينة، وعاش سنين في رغد وهناء . وكان يكتب لعائلته الكثير من الرسائل، ويرسل اليهم اموالاً طائلة  .. وقد تبدل حاله وانجلت محنته، وكأنما ولد في سرور عامر .
وذات ليل ، بينما هو مغمور بالسعادة، يدون لزوجته رسالة جديدة.. حط الملاك بجناحه على ذراعه، كي يرجعه الى بلده كما اتفقا . رفض أن يعود وأصر على البقاء فترة أطول، وسيتكفل العودة بنفسه . قال الملاك بصوت وقور :
- لا .. الله أمرني بذلك، وأنت قطعت وعداً مع الله !

تجرع الهزيمة، واشتعلت برأسه الذكريات، وقف مدهوشا أمام الملاك الذي انتهك فرحته، وعاد يصرخ :
- لن أعود ، تلك البلاد ليست لي .. سأبقى هنا .. لن أعود .
***
بينما يصرخ ويرقص، كان قوس النور يشتد في الأفق، وزوجته تهدئ من روعه، تشده من قميصه البالي، وقد استعاد وعيه، ورأى وجهها الشاحب وقد نهشته الدموع وهي تذرع الخدين صباح مساء ..
ثم سقط على الأرض مخذولا وقد طعنه البؤس مرة أخرى بنصل أكثر حدة !

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة