يوميات سيزيف – قصة : أحمد السبكي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكان كل شيء حوله يبدو هادئا ، الغرفة الضيقة تسبح بحمد سلطان العتمة ، والأريكة العرجاء تندب حظها العاثر الذي رماها في هذا المكان ، والكرسي المهترئ يترنح بزهو مترقبا سقوطه قبل الأوان .
في هذا الفضاء الذي يوحي بالبؤس ، كان ً با علوان ً يقضي أفضل أيامه ، كان يحب كل شيء في غرفته اليتيمة ، كان دائما يعاين المشهد والابتسامة لا تفارق محياه ...التيساع في الخاطر...هكذا يجيب كل متذمر من الفوضى والأوساخ وضيق المكان.
أيام صاحبنا تكاد تتشابه ، فلا جديد يميز يومه عن البارحة ، انعقد لسانه بفعل الروتين ، فأصبح لا يتكلم إلا بعسر وثقل شديد. كان يخرج كل صباح متجها إلى السوق الشعبي القريب من محل سكناه ، يتوقف كالعادة عند ً داعلي ً صاحب الحريرة العالمية، ذات النكهة الخاصة بفعل خلطات سحرية متقنة ، يتناول صحنين ، ثم يستلقي على كرسي بلاستيكي في انتظار قدوم بقية الوجبة ..خبز وزيت وزيتون وشاي بالزعتر.....    يلتهم با علوان ما بين يديه وما خلفه التهاما ، ثم يشير الى داعلي بإشارة يشمئز منها الأخير اشمئزازا عظيما ، فهي تعني تدوين الحساب إلى أجل غير مسمى في الكتاب المعلوم.
يدفع با علوان عربته اليدوية التي تحظى منه بعناية غير عادية ، فهي دكانه ومصدر رزقه الوحيد ، يدخل السوق ممازحا هذا وصارخا في وجه ذاك ، إلى أن يصل مكانه المعهود ، كان يعلم أن اغتباطه الصباحي لن يدوم ،         وبالفعل ، فقد وجد أحد الباعة الجدد قد افترش سلعته مكانه ، ارتمى عليه با علوان وسط صياح الباعة الآخرين ، فخنقه دون رحمة ، فهو يؤمن أن السوق غابة كبيرة لا مكان فيها للضعفاء ، فالقوي يأكل الضعيف ، وبا علوان عاهد أباه قبل موته أنه على الأقل سيكون آخر من يؤكل في هذه الغابة المتوحشة.
كلمة واحدة كانت ستكفي با علوان لإزاحة البائع الدخيل، لكنه لم ينطق بها لإيمانه بفعالية الضربات الاستباقية في مثل هذه المواقف.
تراجع القادم الجديد  تفاديا للقيل والقال ، بعد تدخل ناجح لأصحاب الحال. أخرج المنتصر كيسا ضخما من باطن العربة ، ثم فتحه وأخرج منه ثيابا بالية صنفها ورتبها ترتيبا لا يعلم سره إلا هو ، وضع كل شيء فوق طاولة ركبها فوق العربة ، ثم أطلق صيحة مميزة ارتجت لها الحيطان واهتزت لها الأركان :
...وزيدو قربو...مول لمليح باع وراح .
....قميجة ب 10 دراهم...سروال ب 30 درهما
...زيدو لا غلاء على مسكين...40 درهما ...وأنت مكسي
اقترب الأول والثاني ثم الثالث ، تكونت إثرها حلقة حول با علوان ، رجال ونساء من مختلف الطبقات ، كان الجميع يمد يديه ويتفحص بعينيه بدقة مبالغ فيها ، لا نتحراها ونحن نختار الثياب الجديدة ، فكلنا يحفظ عن ظهر قلب مقولة  ً عند رخصو تخلي نصو ً ، وبين الفينة والأخرى ، كان البائع يخلط السلعة كلها ثم يرمي ببعض الثياب في الهواء ، وأحيانا ينتقي قميصا أو سروالا مميزا بدهاء كبير ومكر بين ، ثم يعرضه أمام الجميع صارخا : ...واك واك أعباد الله بحال هذا ب 30 درهما ... وزيدو زيدو كلشي فابور....
كان باعلوان يهدأ قليلا حين يستخلص ثمن البضاعة من أحد المشترين ، وعادة ما يسوء مزاجه عندما يرى كثرة الناظرين المتنزهين الذين لا يملون من قلب الثياب دون فائدة مرتجاة ، لكنه كان يتحمل ذلك بتجلد. حاصل الأمر أنه تعود على مثل هذه الطقوس ، وما أن تتربع الشمس وسط السماء ، مرسلة أشعتها الحارقة ، حتى تخف الحركة ، مؤذنة بحلول موعد الغذاء .
يتوجه با علوان صوب خيمة وسط السوق ، حيث يجد ثلاثة من أصدقائه ألف تناول الغذاء معهم باعتماد سياسة التناوب في الأداء. وبعد استراحة قصيرة يغفو علوان قليلا بإحدى مقلتيه ،  ويتفي بالأخرى شر الشياطين الصغار،  من ذوي الأيادي الخفيفة الذين يملأون السوق.
بعد العصر ، تتعالى الصيحات من جديد ، ويتكرر سيناريو الصباح ، مع تغيير طفيف في الأوجه ، ونقص واضح في نبرات الصوت ، فسبحان من لا يكل ولا ينصب.
ظل با علوان على ذا الحال ردحا طويلا من الزمان ، وفي كل مساء يحمل إلى غرفته الكئيبة نعناعه المفضل ، إلى أن التهمه العدم دون رجعة ، فلم يتداول جيرانه أي حكاية عنه تخلد ذكراه ، فقد كانت أيامه كلها واحدة ، لا شيء يستحق فيها الذكر ، أو لنقل ربما كان الجميع لا يرغب أن يعرف أي شيء يتعلق به .

أحمد السبكي المغرب.


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة