تأبّـــط سَـــوْطا – قصة: سيف الدين العلوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ليس حكيما  ذلك الكائن. لو سلّمنا بجنونه، قلنا "حكيم المجانين ولو لم نسلّم قد نقول هو "مجنون الحكماء"..المسألة شائكة نسبيّا . يمرّ مخبول البلدة- أنا أتناقض  حينا أقول حكيما  وحينا أقول  مخبولا.  وهل كانت المسألة محسومة؟ ومن يستطيع حسمها دون أن يضحي مخبولا؟.لا يرى أحدا..كلّ الذين يراهم هم من بديهيات الرؤية أو ربما من حاصل الرؤيا.. يمرّ بين يديْه سوطان.. نعم سوطان لا صوتان. المسألة عنده تتعلق بالسوط لا بالصوت.. محمول دلالة كل منهم مختلف عن محمول دلالة الثاني .

   لم يكن السوطان بين يديه.. الوهلة الأولى خدّاعة دائما، و إن كانت تحديدا عقليّا بكرا للبصر. كان السوطان تحت إبطيْه هذه خدعة أخرى.. بل كلاهما تحت إبط واحد. في طرف كلّ واحد منهما حبل مظفور. وبين أصابعه العشر التي لم أحْصِها حبال أخرى. ربما حبْل أو حبْلان.. كان يمارس عليها مهارة ما.. لم أنتبه هل كان يفكّك فتلها، أم كان يركِّبها على هيئة جَدْل جديد. حين مرّ و أنا على كرسيٍّ في  "قارعة الحكمةِ" أترشف القهوة معطرة بتفويحاتِ الغربةِ والوجعِ الغامضِ، تلفَّتَ نحوي. على يمينه، نحْوي تماما.. نظر بكلّ أبّهة خبَله، بكلِّ وقار حكمته.لا أدري؟.. تأمّلني- أقسم - بكلّ صمت. ولم تنقطعْ أصابعُه عن مهارتها.
   نظرتـُه كانت دافئة مطمئنة.. وفي داخل الحدقات قراءة لا تستطيع مدارسُ النقْد  تفكيكَ غموضها وإنتاجَ أجهزة مفاهيم لاستيعابها وتصنيفِها.. تأمّلني  برهةً بكل صمت.. وبكل هدوءٍ، عاد إلى حباله ينسجُها أو ينسُـلها. ويمرّ في طرقاته، حول قارعة المقاهى العاجّة بالحكماء والحانات المكتظة بالهدوء.. تلك وضعيّة يراه عليها الناس في الطرقات.. سوط بلا صوت. صمت وسوط بلا صوت.وسوط وصمت وسمْت.. توقف ونسْجٌ وتفكيكٌ وتأمّلٌ.. و السؤال الذي يقتضيه المشهد: أين حدود الحكمة والجنون في وضعية هادئة كتلك ؟
 حين نظر إليّ و قد حذق الصمت و الإمعان. أردت أن أستفسر عن سرّ الأشياء في عينيْه : لماذا ينظر بهدوء؟ ماذا يقول الصمتُ في عينيه؟
    أردت أن أستفسر عن حكمة المشْي في الطرقات بأناةٍ عميقة. وعَنْ  سرّ قطع السير، و التوقّف أمام بعض الوجوه من أمثال وجهي. كان يمتلك الإجابة حتما.. يمتلكها. وددّت لو يجيبني عن السياط تحت إبطه: أي لذة تنساق إليه وهو يحملها .أيّ لذة تسري في عروقه؟ الإجابة عنده لم تشفني.. تخميناتها شوهاء دائما.. و الحدس قاصر. لعلّه كان يرى ضواري في الشوارع تحتاج إلى ترويض ؟ لعلّه كان يروّض الحكمة، حيث تجمح وتفيض ليقيها الاختلاط بالجنون ؟ بل كان ربما يروّض الجنون حتى لا يَسيب في أرض الحكماء ؟ لا كأنّه كان بصدد الرعْي- يرعى قطيعاً ما يراه هو؟ لِمَ توقّف عندي و ألقي البصر عميقا و لطيفا؟ هل اعتبرني لحين رأسًا  من قطعانه  التي يراها  ويسوطها ويَرْعاها؟أم عدّني أحدَ وجوهِه المألوفة في في غابر ذاكرته أم حاضرها؟  هل وقع عندي على شاكلته ؟  المرء ينشدُّ إلى مُشاكلٍ له أو نقيضٍ. كلاهما يستدعيه لأنْ يتنافرَ معه أو  يتناغم .. في المسألة  تناغم أم تنافر ..
    وددتُ أعرف ماذا قال لي أوْ فيَّ، أو عنّي حين توقـّف أمامي بوقار وصمت.. و ددت لو أعرف الفرق بيننا، بيني وبينه، كما يراه هو لا أنا . كنت جالسا  و كان واقفا يمشي و يتوقف.. تأبطتُ قهوة أرتشفها بحزن فوق رصيف من الأرصفة.. تأبّـط سوطا ، سوطيْن، سياطا ، لا يهمّ ..لم يكن يرتشف شيئا أراه.. ربّما ارتشف ما لا أرى.. كنتُ ألهو بهاتف نقال ..و كان يصنع بالحبال بين يديْه ما لم  أكنْ أعلم.. للحبال حكاية عميقة أعمق  من حكاية آلَـتِي.. للحبال تاريخ في الزمن.. أعادني تأبط سوطاً في رحلة بالذاكرة تتوامض حكاياها كالبرق إلى خيام البدو . وأشطان آبارهم .و الطِّوَل المُرْخَى.أعادني السوطُ تحت إبطه إلى مسارح السرك .حيث تُرَوَّض الشراسة و يُهذَبُ العنف لغرض الإبهار . المتعة و الضحك.. مِنْ مستلزمات المتعة كسر حدة العنف . من مقتضيات الإبهار تدجين ضراوة الكائنات الضارية. تأبط سوطًا هذا، بآلته العتيقة، بذالك السّوطِ الذي ينتضيه: عصا في طرفها سيور حَبْل عتيق ، يروِّضُ شيئا متوحّشا على مرأى منه ومَسْمعٍ. في المدى الذي يلوبه كلّ يوم، في المسافة الفاصلة بين وقوفه في قلب الطريق وبين جلوسي على القارعة كان يرى أشياءَه وأشخاصه ووحوشه. و كان يصمّم لأسلوب التسويط(من السّوط)..كان يُحدّدُ الهدفَ والمسافةَ. و يتلو في الصمت قرآنه أو تعاويذه في برهةٍ كأنها إحدَى  بُرَهِ اليوغا التي تحتضن العالم و تختزن نبض الكون، في لحظة صمت ٍ وتدبّر لا يجرؤ المَرْءُ على التكهّـن بِمَدى حدودِ عمقها و كثافتها ..
   عمر و كنيته طُرْطُرْ تلك التي عرفتُها موصولة باسمه بعد وقفتِه إزائي وصمته المتكلم بعجمة أو فصاحة، لا يهمُّ.. حين نظر إليَّ و دقق. استهدفـَتْنِي نظراتـُه.ولم يستهدِفْني صوتُهُ ولا سوطُهُ..  لعلّهما استهْدَفاني صَمْتاً..كلاهما صوّب نحوي ضرباتٍ خرساء مثل فعل الريح،  أو كتسرب الغاز سرا إلى الرئتين، أو كتلك الشظيّة التى عبرت إلى ظهر الجنين في غزّة نوفمبر 2012 و أردتْه في الداخل .الآن تحدث أشياء جليلة بصمت جليل أو ذليل. لم يعد للقتل الظاهر مِنْ إيحاء.. عمر تأبط  سوطا، كان يقتل بصمت ..  يُحَدّدُ فرائسَه بصمت. ثم يقتل دونما عنف، وبِصمْتٍ كذلك .. و قتـْلُ عمر طُرطُرْ ليس فعلا يُدرك الأعضاء أو يتلف - كتلك الشظيّةِ - الخلايا، إنما هو إتلاف لاستقرار الثوابت في الوعْي الأمن .و زلزلة لرتابة الهدوء في نفس يجلس مرتديها على القارعة، على رصيف مقهى ينتحر الوقت كل يوم على مقربة من  قهاويه الحلوة المرّة.  و في فتوحات الوهم اليوميّ  التي تفتر ع بها أدخنة الشيشة و السجائر أغشية الفضاء المفتوح المسدود..
    حين ساطني عمر طرطر صمتا، لم يصلـْني السوط. ولكنْ وصلتْ صعقةٌ برْقيّة ٌلاهبة.. ارتعشتْ رشفةٌ في الكوبِ لرعشةٍ في اللّهاة،فاندلقَ السّائلُ القَهَـوِيُّ على قميص الرّوحِ.. حينها تنبّهتُ إلى أنّ في وقفته معنى ليس في جلوسي. و في صمته بلاغة ً ليست في كلِمي. وفي سوطه المتأبَّـط وجعًا، لا تسدّدُه يداي اللاهيتان بهاتف محمول .
قال لي صامتا:
هؤلاء - و أنت واحد منهم – يسْـتحقّـون السوط. لكنّي لن أنِيلَهم عطيّة  سنيّة ً كهذه..  أخشي على سوطي من قذارة المَسوط وخُموله.
-- قلت له صمتا:
    اجلِدْني لأقلع عن وهَـني.. لا يذهَـبنّ بكم الظنُّ أنّه لُغوبٌ يفوح من جسدي المتهافت فوق رُكام الوقت. لكنّه وهَنُ النفْـس تنخرط في حقيرِ يوميّاتها: جلسة على قارعة تخون  الوقت.. هاتف محمول ألاعبه بشغف مرَضيٍّ..  نقاشٌ عقيمٌ حول أداءٍ  سياسيٍّ  فاحش.. سيجارة أزكِّي بها لحظة القسوةِ  الراهنة ... إلخْ...
  حدّق فيَّ كالمبتسم ينزع إلى البكاء. و أقلَع عن كلامه، يداه على السوط، على شرائطه، تتحدّثان.. نظرتُه الثاقبة ُ التفرّس تـُـنتِجُ خطابَها ..وقفتُه البسيطة هيئتـُها، تقترفُ عميقَ اللّـغَى.. ولكنْ، كان عليْه أنْ يتكلّمَ.. كان عليه أنْ يسحبَ الصّوتَ مِنْ فيه، كما سحَبَ مِنْ خُطى الشارعِ وقفة ً حِيالي.. كان عليه أنْ يسْحبَ مِنْ تحت إبـطِه سوْطَه الملتويَ ويكسرَ بِطرفِه حاجزَ الصّوتِ. كان عليْه أنْ  يثقُبَ  جدارَ الصّمتِ السميكَ..
   كان قادرًا على أنْ يُلوّحَ بسوْطِه فيُنجِزَ أمرًا محظورًا.. اشتهيْتُ للحظةٍ أنْ يدلقَ بطرفِ سوطِهِ قهوتي، أنْ ينتزعَ مِن بين أصابعي هاتفي المحمولَ، وأنْ يختطفَ نكهتيَ الأخيرة َ الرّاسبة َ في مَجّاتِ السيجارةِ المتبقّيةِ.. لكنّه لم يفعلْ..
 تلفّتَ باتّجاه طريقِه بعد أنْ أشاحَ عن وجوهٍ كثيرة ربّما اختزلَها وجهي.. وبكلّ أبّهةِ صمتِهِ ووقارِ سُهومِه، استأنف المُضِيَّ،متأبّطًا سوْطَه،منطويًا على صمتِهِ.
 كان هاتفي المحمول آنئذٍ  ينوسُ .. بيد أنّني لم أنتبهْ .. سمعتُ مُواءً.. لكنّني لم أنتبِهْ.
-----------
سيف الدين العلوي
تونس

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة