قمر ونجمة – قصة: محمد أمزيان

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ألف السيد أيور دائما أن يعيش في الهامش، لذلك كان صعبا عليه أن يتأقلم ويتكيف بعد أن تم تعيينه في المدينة، لم يعتد على تلك الحركة الشديدة، ورؤية ذاك الكم الهائل من الناس. كان يتجنب أي احتكاك مع الآخرين، الكل كان ينعته بالانطوائي، فرغم أنه حصل على إجازته الأساسية في مادة العربية بنفس المدينة، إلا أن إقامته بها طيلة ثلاث سنوات لا تكاد تتجاوز عدد حصصه اليومية، كان مغرما بالأدب، يعشق قراءة الروايات خصوصا تلك القديمة كأعمال طه حسين ومصطفى لطفي المنفلوطي ونجيب محفوظ وغيرهم، كما أنه كان مهووسا جدا بالشعر فكان يقرأ للمتنبي وغيره من الشعراء، كان يغترف أسلوبا وتجارب من أولئك الكتاب وشخصياتهم.

كانت علاقته بجيرانه علاقة ود واحترام، لم تسجل عليه إلى اليوم ولو ملاحظة سيئة، ولم يحدث وأن دخل في صراع أو جدال مع أحدهم، كان دائم التردد على مقهى شعبي بوسط المدينة، يجد راحته بين الناس البسطاء وكم تكون فرحته كبيرة حين يلتقي مع أحد الأمازيغ فيتناقش معه في مجموعة من الأمور كالعادات والتقاليد والقصص الأدبية الأمازيغية، والأمثال والأغاني، كان موسوعيا ذا ثقافة غنية، كان دائما ما يترقب العطلة، ظل الشاب ذو الخامسة والعشرين من عمره وهو أكبر أبناء عائلته، وهو الذي يتحمل مسؤولية إعالة الأسرة بعدما بلغ الأب من الكبر عتيا، يردد لصديقه الوحيد  أن العطلة لا يكتمل جمالها إلا بقضائها مع العائلة، كان يرجو دائما أن يحصل على عمل جيد في قريته، يضمن له الراحة النفسية والاستقرار التام بين الأصدقاء والأحباب.
هناك في الهامش الجميل كما اعتاد تسميته، يحلم بحياة بسيطة وزوجة صالحة، لم يكن يعلم أن الأقدار تخبئ له شيئا لم يكن في الحسبان، فقد طرأ بحياته جديد قلبها رأسا على عقب،  أخرجه عنوة من تلك البوتقة  التي رسمها لنفسه سلفا، وذات ليلة ماطرة في أواخر دجنبر من سنة إحدى عشر وألفين، وهي الليلة نفسها التي تأخر فيها عن الوصول إلى بيته، بسبب بقائه لتناول وجبة العشاء مع صديقه أنير، وبعد أن فتح الباب وهم بالدخول سمع صوت خطوات تتقدم بثبات نحوه وبسرعة، وكلما اقتربت إليه زادت حدة الصوت وزاد معها خفقان قلبه، كان يتحسس صوت هذا الحذاء، فتبين من خلاله أنها فتاة أو امرأة، تعجل الدخول وأغلق الباب من ورائه بسرعة خاطفة، ولم يأخذ أنفاسه ويتكئ حتى سمع طرقات خفيفة بباب سكناه، نهض متثاقلا وبكسل وقبل أن يفتح الباب سأل من بالباب؟
رد عليه صوت خجول بالكاد تحسس طريقه إلى أذنه، أنا تيتريث بنت الحاج أمسناو تأمل الاسم قليلا في ذاكرته، وجده لا يشبه أي اسم من أسماء جيرانه بحي الأمل، لم يشأ أن يزيد من أسئلته حولها، وسألها مباشرة وماذا تريد السيدة تيتريث؟
أجابته بأن افتح الباب أولا؛ فتحه وملأ الفراغ بين الجدار والباب من حيث لا يطل عليها سوى برأسه، فنظر إليها وسحر بها من أول نظرة، تراجع قليلا، فترجته أن يزودها بمظلة تقي بها نفسها من المطر، ووعدته بأن ترجعها له غدا، فأعطاها إياها وشكرته وانصرفت، أغلق الباب وظل يحملق من فتحته مسترقا النظرات من تلك الغريبة التي فتنته.
ظل ليلتها يناجي ذاكرته كي يسترجع لقطة النظر إلى وجهها، لم تأخذه سنة من نوم، حتى مر الليل إلا أقله، ولم يبق لبزوغ الفجر سوى دقائق معدودة،  وبالمثل كانت هي الأخرى  تستحضر صورته وخجله، وتتقلب في سريرها الواسع، مبتسمة تارة وواضعة كفها على وجنتيها تارة أخرى. كانا ينتظران الصباح على أحر من الجمر، وما أن أشرقت الشمس حتى قام أيور  وأعد فطوره ، وكذلك فعلت تيتريث.
خرج أيور إلى عمله بينما ظلت تيتريث تترقب مساء اليوم ذاته لتعيد له أمانته وكذلك تتحقق من ملامح وجهه التي تحمر خجلا كلما قابل فتاة ونظرت في عينيه، إلا أن الأمور اتخذت مسارا آخر، ولم تذهب لمقابلته كما وعدت بسبب زيارة أخوالها من البادية،  وبينما هي منهمكة في إعداد الوجبات للضيوف، علت محياها غيمة من قلق، ظلت تفكر فيما سيظن أيور عنها وعن الانطباع الذي ستتركه عنده لأول مرة.
بينما كان أيور ينتظرها حتى كادت الشمس أن تغرب، يئس من شدة الترقب، ذهب لمضجعه متحسرا، حاول أن يتناسى خيبته قليلا، ونام ليلتها معتقدا أن الغد سيكون مقصلة لهذا الهم الطارئ الذي نكد عليه راحته، وأنه سيعود كما كان، ولكن هيهات كانت تصوراته مجرد أضغاث أحلام، فما أن استيقظ حتى سمع دقات على باب داره، توهم في البداية أنه مجرد طنين أذنيه من شدة تخدره بالنوم، ولكن ما لبث أن تنبه إلى استمرار صوت الطرقات، فتح الباب ولقي ما كان بالأمس يعتقد أنه لن يراه من جديد وأنه مجرد عابر سبيل،  تسمر في مكانه، مدت إليه مظلته وشكرته وأجزلت من الشكر، كما لم تنسى أن تعتذر منه على التأخير الخارج عن إرادتها، وشرحت له أسباب ذلك، تقبل الاعتذار،  أراد أن يدخل، ولكن شيئا ما كان يجذبه إليها، وهي الأخرى اجتاحتها رغبة للتعرف عليه، وعم الصمت المكان حتى استل أيور كلمات من غمده ليقطعه، وقال لها بأن موعد الذهاب للعمل قد حان، أراك في الجوار في قادم الأيام، فاجأته بالسؤال أي الطرق ستسلكها لعملك، أجاب مشيرا إلى الطريق من هنا، ابتسمت وقالت بأنه طريقها إلى البيت أيضا، وستنتظره لترافقه إن لم يكن لديه مانع، أجابها بإيماءة من رأسه أنه موافق،مانعا نفسه من الابتسام،لم يكد يصدق ما حدث لتوه، وهو الذي كان يبحث عن طريقة ليستمر في الحديث معها.
بعد قليل خرج بمعطف أسود ، حاملا بيده محفظته البنية بيده اليسرى،  وسار معها وكل واحد منهما ينتظر أن يبدأ الأخر الكلام، فأخذ المبادرة هذه المرة وسألها أن تقدم له نفسها، قالت أنا تيتريث بنت الحاج أمسناو، لي من العمر ثلاث سنوات بعد العشرين، حصلت على الإجازة في علوم الحياة وشؤون الأرض،  من جامعة الحياة ، كلية التجارب الحياتية والإنسانية، ابتسم بشكل يوحي على الإعجاب، وقال لها أول مرة ألتقي شخصا يقدم لي نفسه بهذه الطريقة المميزة، لا شك أنك خبرت الحياة ونهلت من شؤونها الكثير من التجارب، ثم توقف قليلا فسألها مرة أخرى، الأكيد أني فهمت أنكِ لم تكملي دراستك ولكنك ذات ثقافة جيدة ، هل لكِ أن تخبريني سبب هذا الانقطاع؟
ساورها حزن، وقالت بنبرة تتخللها حسرة، إن أبي هو السبب في ذلك لقد منعني من متابعة دراستي بالكلية لأنه سمع عنها الكثير بل رأى ما يحدث بها من الحوادث والفضائح، فأبى إلا أن أجلس بالمنزل في انتظار أن يأتي نصف الدين لينتشلني منه، ولأننا في دولة متأخرة لم تتح لي فرصة إتمام دراستي عن بعد، كما في الدول المتقدمة، غير أني لم أنصرف كليا عن شغفي بالقراءة والتعلم، فقد كنت دائما ما أقوم بتحميل مجموعة من الكتب الالكترونية وأقرؤها ومن خلالها أظل على اتصال بعالم الكتب والدراسة.
لم يشعرا بالطريق ولا الوقت حتى بلغا أمام مقر عمل أيور، فودعها على أمل اللقاء بها مجددا،  وقفلت هي عائدة من حيث أتت، بعد أن تأكدت أنه دخل للعمل، فقد وهمته بأن منزلها في نفس الطريق التي سيذهب من خلاله لمقر عمله، ولكن بيتها في طريق مخالف، تلفظها الشارع الرئيسي في زقاق ضيق يؤدي مباشرة إلى حيها، في الطريق إلى البيت ظلت مبتسمة، تتفكر في ذاك الذي شغفها حبا،  إلى أن بلغت قصرها سلمت على حارس الباب، تسللت إلى غرفتها من حيث لا يراها الحاج أمسناو، بجانب الباب اصطدمت بأمها تازيري ، احمرت وجنتاها كأنها ضبطت في حالة تلبس،  تيتريث بنت الحاج تتجول  وتتركني أنا لأطبخ لها وأنظف البيت، هكذا نطقت الأم بنبرة لا تخلو من عتاب، تعانقها تيتريث وترسم قبلة على جبينها ، "أيـمانو إحلان" ''أمي الجميلة''، اذهبـي لتستريحي سوف أقوم لك بكل ما أتعبك. أه أه أه ، من أين لك بكل هذا النشاط وهذه المعزة كلها؟ ابتسمت ولم تعقب.
 مر يوم أيور بشكل سلس وحيوية أكثر من العادة، حتى تلاميذه لاحظوا ذلك التغير الذي بدأ يظهر على شخصية أستاذهم، ذلك الانطوائي أضحى شاعرا وأديبا، وهكذا ظلت تيتريث تمر بنفس الطريق التي يعبر منها لعلها تلقي بنظرة خاطفة تجعل يومها منتشيا، كانت لقاءات الصدفة ''المدبرة'' وإن على مواعد متباعدة، تزيد من كسر حاجز الرهبة بين الطرفين حيث حصل على رقمها،  واستمرت علاقتهما بالنمو ورغم ما كان يضمر كلاهما من الحب للآخر إلا أنهم لم يصلوا بعد لمرحلة البوح بما تكنه وتخفيه الصدور.
كان صديقه أنير يلاحظ كل هذا التغير ولكنه اكتفى بالمشاهدة فقط، لم يشأ أن يحرجه كان ينتظر أن تحين اللحظة  التي يبادر هو فيها بإخباره بكل شيء، فقد مرت ستة أسابيع دون أن يتلقى منه أدنى اتصال أو رسالة، كان شيئا عجيبا وغريبا لم يألفه أنير منه.
وهو بصدد مراسلة تيتريث اتصل به أنير،  تردد قبل أن يجيب صديقي كيف حالك؟ بخير والحمد لله، وهو يردد مطلع أغنية راي''طال غيابك أغزالي ولاش طولتي فالغيبة''، أضاف متسائلا: ما سبب هذا الغياب؟
شعر أيور بحرج كبير إزاء زميله، وابتلع أسئلته بخجل تذكر بأنه لم يمر عليه أو سأل عنه منذ أن توطدت صداقته مع تيتريث. اعتذر له وتحجج له بظروف العمل،  هذا الأخير لم يشأ المضي قدما في عتابه وأسئلته،  كان يعرف أن هناك سر وراء ذلك طلب منه زيارته نهاية الأسبوع، وافق بسرعة وأنهى المكالمة.
عاد متلهفا إلى حسابه وجد رسائل كثيرة من تيتريث، التي لم تعتد على هذا التأخر منه، كانت مشوشة التفكير، أو هكذا يبدو من خلال أسئلتها ورسائلها، طمأنها على نفسه، وأن صديقا له هو الذي هاتفه، طيلة هذه الأيام بدا أيور مهموما، كيف لا وهو الذي أصبح يفكر جديا في الاعتراف بحبه لتيتريث، غير أنه وجد نفسه في صراع داخلي بين عقله وقلبه،  بين العقل الذي يشتغل بالمنطق ويزن الأمور، وبين القلب الذي يشتغل بالعواطف، بين الشجاعة للقول والخوف من الرد، فهذا الفؤاد يجبره على الإسراع في التلفظ بالخبر، وهذا العقل يدعوه إلى التأني في ذلك ويبين له بشكل منطقي مخاطر ذلك، فإن صارحها وكانت تعتبره مجرد صديق ورفضت كيف سيتقبلها وهو الذي بنـى لنفسه قصورا في الخيال. بدا له عقله أكثر إقناعا، ولكن القلب كان أكثر إصرارا، لم يرى بدا ً من أن يشاور سجيره أنير  في المسألة.
بوم الأحد التقيا وبعد تبادل التحية والعناق، وكذا السؤال عن الحال والأحوال، دخل أيور في صلب الموضوع،  أما بعد يا رفيقي أنير فإني لم أشأ أن أكتم عنك سري وأنا الذي عهدتك بأسراري كلها، فها أنا ذا سأبدي لك ما كان من أمري، وأكشف لك عن خبايا قلبي، فقد مر شهر ونصف مند آخر جلسة لي معك ومحاورتي إياك، أنير  يتدخل لا تحتاج إلى كل هذا التقديم يا رفيقي فنحن إخوة هيا فضفض بما في صدرك فكلي آذان صاغية.
شكرا يا عزيزي؛  لقد تعرفت على فتاة. ماذا؟  أنير مقاطعا،  تعرفت على فتاة ولم تخبرني؟ هون عليك يا صديق أنا بصدد إخبارك بذلك، اسمها تيتريث لقد وجدت فيها كل شيء كنت أرسمه في مخيلتي،  من حسن الخلقة والخلق، فسبحان ربي على خلقه.
ولكن لم أخبرها بعد بما في قلبي تجاهها، فأنا جد خائف من خسارتها، وقلبي وعقلي في سجال حول هذا الأمر فبماذا تشير لي يا أنير؟ هكذا إذا حتى وقعت في مشكلة لتتذكرني ابتسم أنير مستهزئا، لقد وقعت في الشراك وأحبولة الحب أخيرا. أيور منزعجا خذ الأمور بجدية هذه المرة فقط يا صديق.
حسنا، أظن أنه لا مفر لك من أن تتجرأ وتخبرها بمكنونات صدرك، فقم وأندر  وبحبك فلتجهر، فإن كانت على شاكلتك فستقع هي الأخرى في حبك، وإن كانت كذلك فاستعد لتهجرني كثيرا وتلتحف نفسك بزمال من الحب والحنان،  وإن كان غير ذلك فإني مستعد أن أدثرك برأفتي ونصحي.
اطمأن أيور لكلام صديقه، وأمضى باقي اليوم معه في مناوشات ومناقشات لا تخلو من طابعها الهزلي كما هو ديدنهم وعادتهم دوما.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة