في مديح "الغْريبية" – نص: محمد العمراني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

لعل الكثير من رفاق الزمن الماضي يتذكرون أياما كانت الحلويات والسكاكر فيها عزيزة ونادرة. نظل نرقب الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية لنحظى بقليل منها؛ نتسابق إليها، نلوكها بكل لذة، محاولين إطالة مقامها داخل الأفواه قبل أن يتلاشى مفعولها السحري وتذهب معها لحظات سعادة عابرة.
  والحقيقة أن خياراتنا أمام تلك الحلويات كانت قليلة ومحدودة، فهي في كثير من الأحيان أشكال وأنواع بسيطة دأبت الأمهات على تحضيرها داخل البيوت بما توفر فيها من مواد، دونما حاجة لاقتناء أخرى إضافية من الخارج: (دقيق، سكر، زيت، زبدة، ماء الزهر...). ولإعدادها، لم تكن المبتدئات من الفتيات والسيدات يلجأن للكتيبات الخاصة بصناعة الحلويات ولا مشورة مواقع الإنترنيت كما هو حاصل زماننا، بل يقبلن عليها بعفوية وشجاعة فتأتي في أحسن شكل وألذ مذاق.

  ومن تلك الأنواع البسيطة، نذكر واحدا امتد ذكره في الآفاق زمنا طويلا وما زال يفعل؛ أتحدث عن حلوى " الغْريبية " أو " الغْريبة " كما يشتهر ذكرها في مجموعة من المناطق المغربية. ولتقريبها من القارئ أذكر: هي ذات شكل بسيط وحجم صغير، مع لون قمحي. أما كتلتها فتتميز بالهشاشة الناتجة عن كمية الدهن الكبيرة المشكلة لها (زيت وزبدة)، بالإضافة باقي مكوناتها الرئيسية، والتي لا تتجاوز الدقيق والسكر والماء.
  وتعلو سطح  "الغريبية"  شقوق زادت من تميزها وتفرد شكلها، مانحة إياها جمالية ساهمت بقوة في تخليدها في ذاكرتنا الجمعية المغربية. وبالإضافة إلى إعدادها داخل البيوت، كان اقتناؤها ممكنا من محلات بيع الحلويات أو من بائعيها المتجولين في الساحات والأسواق.
 وكان مما يأمله الصغار-في مرافقتهم للآباء إلى فضاءات التسوق- أن يحظوا بواحدة منها، لتتحقق لديهم بذلك سعادة غامرة لم يكن الكبار ليتخيلوا مداها. وتحضرني هنا حكاية أحد أبناء الجيران الذي رافق أمه ذات يوم إلى فضاء "السوق البراني" (ساحة 9 أبريل)؛ مركز مدينة "طنجة" الرئيسي أيام زمان، ومهوى أفئدة المتجولين والمتسوقين والسائحين. إذ عاد الصغير من هناك على غير عهدنا به ذهابا؛ غاية في السعادة والانتشاء. ولم يكن الطفل لينتظر استفسارنا عن سبب سعادته، مبادرا هو بالحديث إلينا-نحن رفاق طفولته من أبناء الحي-ليتوسطنا، منطلقا يحكي لنا كيف اقتنت له أمه حلوى " الغْريبية " من أحد بائعيها، متوقفا مع تفاصيل ما عاشه في هذه التجربة من بدايتها إلى نهايتها؛ مدققا في وصف لذتها ووقعها على لسانه وأسنانه، وباذلا قصارى جهده في  تصوير شكلها الجميل الرائع، متفاعلا في ذلك بنبرات صوته وحركات جسمه. هكذا كان المسكين في قمة الفرح وكأننا به قد نال مرادا غاليا، بينما نصغي -نحن جماعة المتلقين- إليه، باهتمام كبير، مستمتعين مشاركته لنا مغامرته تلك، وعاقدين العزم على خوض تجربة تذوقها متى تمت مرافقتنا من طرف الآباء إلى "السوق البراني".
  وللأمانة، لم يحصل أن حظيت بواحدة مماثلة لتلك التي حكى الطفل عنها، بالرغم من اقتنائي للكثير منها بعد ذلك، واستمتاعي بأكلها مرارا، إذ تظل "غْريبية" "طفل الجيران" مختلفة، فقد كانت واحدة ووحيدة. فمكوناتها لم تكن مقتصرة على ما تقدم من مواد، بل تدخلت في تشكيلها الكثير من التفاصيل التي صنعتها مخيلته الصغيرة. لأتوقف أخيرا عن البحث عنها عند بائعيها ب"السوق البراني" قناعة مني على استحالة العثور على مثلها مهما سعيت في ذلك.
 ولم يكن التأثير السحري لهذه الحلوى الرائعة مقتصرا على جماعة الصغار فقط، بل امتد ليشمل الكبار كذلك، فقد شاركوا أبناءهم حبها، مقبلين على تناولها، يواجهون بها ضغط الجوع في انتظار وجبة من الوجبات الرئيسية، أو يستمتعون بحلاوتها فقط. وللحصول عليها لم يكونوا بحاجة للتوجه صوب محلات بيع الحلويات، بل يقتنونها من بائعيها المتجولين إذا ما ولجوا فضاء المقاهي المتواجدين بها أو صادفوهم في الأحياء وباقي الفضاءات العامة.
  ومما يؤكد فرادتها وميزتها على غيرها، مرافقتها حديثا باقي الأنواع الجديدة على الموائد المغربية في المناسبات الدينية والاجتماعية الكبرى؛ كاحتفالية "عيد الفطر"، متربعة وسطها، سلطانة على باقي الحلويات، وصاحبة حظوة كبرى بينها. مقاومة في ذلك عامل الزمن والسنين، ومستمرة في إسعاد الكبار والصغار بيننا. أسجل هذا، والجميع يعلم أن خياراتنا من الحلويات أصبحت أكثر غنى، خصوصا بعد أن تحسنت الأوضاع المادية للكثير من الأسر، متيحة لهم إمكانية اقتناء أنواع أخرى جديدة وطارئة، هي أغلى ثمنا وأكثر تنويعا في مكوناتها وألذ مذاقا.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة